♦ محمد فياض مشيك *
♦ خضر سامي ياسين **
نبذة عن البحث
تطلبت "العدالة الدستورية" مراحل زمنية حتّى تبلورت ونشأت، وظهرت في هذه المراحل آراء متناقضة منها الإيجابي ومنها السلبي، وكانت آراء الفقهاء مساهمة في هذا الخصوص. وقد ظهرت أهميّة العدالة الدستورية بعد الحرب العالمية الثّانية (1939 – 1945)، وظهور الأنظمة الدكتاتورية في أوروبا (النازية والفاشية...). وبعد أنّ انتشرت العدالة الدستورية في أوروبا انتقلت إلى العالم العربي بمراحل مختلفة في كلّ من: لبنان، والعراق، ومصر، والكويت وتونس. ووضعت عدة دول عربية دساتير جديدة تحت ضغط المطالب الشعبية، وما ترتب على ذلك من إحداث إصلاحات دستورية وقانونية.
عالجت هذه الدراسة مراحل نشوء العدالة الدستورية في العالم العربي، ودورها في حماية الحقوق والحريات الأساسية، الأمر الذي دفعنا إلى البحث في بعض القرارات الصادرة عن القضاء الدستوري. وتمّ الاستناد إلى بعض اﻵراء الفقهية المشدّدة على أهميّة دور العدالة الدستورية في واقعنا الحالي. وتمثّلت الأهداف الرئيسة للدراسة في مناقشة المراحل التي سبقت وجود العدالة الدستورية في الدول العربية، ثمّ الانتقال إلى البحث في تبلور العدالة الدستورية في العالم العربي وواقعها، خصوصًا أنّ شرعية العدالة الدستورية بنيت على مرتكزين: الأوّل: في رقابة السلطات، والثّاني: يتمثّل في حماية الحقوق والحريات.
لا شك أنّ واقع "العدالة الدستورية" تطور في العالم العربي بشكل بطيء نسبيًّا عمّا هو عليه الأمر في الدول الغربية، الأمر الذي يبرز أهميّة هذه المؤسسة على المستويين الدستوري والقانوني. فقد لاحظت هذه الدراسة أن العدالة الدستورية تسود على حماية المجتمعات خصوصًا في حال الجنوح في تغيير أنظمة الحكم إلى أنظمة دكتاتورية وشمولية، فإشكالية تعاقب الدساتير أرخت بظلالها على واقع العدالة الدستورية، خصوصًا في تونس. وأما بالنسبة إلى الجهات المخوّلة بالطعن أمام القضاء الدستوري فما زالت محدودة، وهذا ما هو عليه الواقع في لبنان، وأما بالنسبة إلى طرائق الطعن فوجدنا أنّ الطعن عن طريق الإحالة، ساهم في وجود اجتهادات مميزة في مصر.
أبرزت الدراسة في التوصيات أن غالبية الدول العربية خاضت تجربة العدالة الدستورية، وبالتالي إنّ عدم فعالية هذه المؤسسة غير مقبول في وقتنا الراهن، حيث يجب أنّ نراعي عمل المؤسسات الدستورية وخصوصًا مؤسسة القضاء الدستوري من أجل مراقبة السلطات وحماية الحقوق والحريات الأساسية، وأنّ نسترشد في تجارب مجالس ومحاكم دستورية مؤثّرة على الصعد كافّة وخصوصًا على صعيد حماية الحقوق والحريات الأساسية المكفولة دستوريًّا، وأن يكون دور ممثّلي المعارضة في المجالس النيابية له بعد إيجابي لا "تعطيلي"، إضافةً إلى ضرورة إعطاء المواطنين حقّ الطعن أمام القضاء الدستوري.
الكلمات المفتاحية: دستور، قوانين، عدالة دستورية، حقوق وحريات أساسية، محاكم دستورية، مجالس دستورية
***
آثرنا اتّخاذ واقع العدالة الدستورية في عدد من الدول العربية (لبنان، العراق، مصر، الكويت، تونس)، خصوصًا أنّ تجربة الرقابة على دستورية القوانين متفاوتة في هذه الدول، الأمر الّذي يدفعنا إلى البحث في المراحل التي سبقت تبلور العدالة الدستورية وواقعها الحالي في الدول سابقة الذكر.
احتلّ مصطلح العدالة منذ القدم حيّزًا مهمًّا لدى الفلاسفة والمفكرين، يقول "أرسطو" (Aristotle): "العدل ضرورة اجتماعية لأنّ الحقّ هو قاعدة الاجتماع السياسي وتقرير العادل هو ذلك الذي يرتب الحقّ"([i]).
ليس هذا فحسب، بل إنّ الاجتماع السياسي المعبّر عنه بكيان الدولة، كما لو أنّه حاجة طبيعية عند الإنسان، حيث "يعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع"([ii]). وفي فكر "نيقولا مكيافيللي" (Niccolò Machiavelli) أنّ: "من يصبح حاكمًا لمدينة حرّة ولا يدمرها، فليتوقع أنّ تقضي هي عليه، لأنّها ستجد دائمًا الدافع للتمرد باسم الحريّة وباسم أحوالها القديمة (...) في الجمهوريات تكون الحياة أفضل والعداء أشدّ، كما أنّ الرغبة في الانتقام تكون أشدّ، فالناس لن تتخلّى عن ذكريات حريتها القديمة بسهولة"،([iii]) الأمر الذي يظهر أهميّة العدالة والحقوق والحريات في حياة الإنسان، حيث شكّلت أفكار الثورة الفرنسية، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن إحدى ركائز المهمّة في مجال العدالة وحقوق الإنسان.
لاحقًا كان لأفكار رجال الفلسفة والقانون، ومنهم فكر الفقيه النمساوي "هانز كلسن" (Hans Kelsen) وتلميذه الفرنسي "آيسمن" (Esmein)، الأثر الكبير في تطور الأنظمة السياسية والقانونية. إلاّ أنّ الحروب الّتي تركت الويلات والبؤس في أوروبا، بسبب الأنظمة الدكتاتورية التي وصلت إلى الحكم بصورة ديمقراطية، أظهر أنّ البرلمانات قد ينتج عنها أنظمة دكتاتورية وممارسات تنتهك الحقوق والحريات الأساسية، مما أوجد ضرورة إخضاع أعمال السلطة التشريعية للرقابة الدستورية، وبالتالي الحاجة إلى العدالة الدستورية.
تعدّ الرقابة على دستوريّة القوانين، من أهمّ الصلاحيات التي تحافظ على الحقوق والحريات الأساسية التي تهدف إلى منع انتهاك النّصوص الدستورية. حيث تشكّلت في بدايتها من رقابة قضائيّة ورقابة سياسية (في فرنسا قبل إنشاء المجلس الدستوري الفرنسي)، إلاّ أنّه كان هناك أسس ومبادئ ساهمت في وجود الرقابة على دستورية القوانين.
تأسيسًا على ما سبق، فقد أقرّت معظم الدول الرقابة على دستورية القوانين، عن طريق الرقابة المركزية (في فرنسا...)، أو الرقابة اللامركزية (في الولايات المتحدة الأمريكية...).
يركّز البحث على إشكالية ما إذا كانت العدالة الدستورية في العالم العربي، أصبحت قادرة على أداء الدور الّذي وجدت من أجله في الدول الغربية؟ حيث سعينا من خلال بحثنا هذا، إلى الإجابة عن تساؤلات متعدّدة ومنها: كيف كان الحال قبل وجود العدالة الدستورية في العالم العربي؟ وما واقعها اليوم؟
وللإجابة عن التساؤلات سابقة الذكر، نلتزم في بحثنا هذا اعتماد المنهج التحليلي النقدي، والتاريخي المقارن والاستقرائي، حيث تمّ استعراض مراحل نشوء العدالة الدستورية وتشكّلها التاريخي في الدول العربية، وبالاستناد أيضًا إلى قرارات واجتهادات القضاء ذات صلة بالمسألة المطروحة، أو على رأي فقهي قد يسهم في دعم موضوع بحثنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق