♦ منال محمود مكداش *
نبذة عن البحث
يعدّ مفهوم "العصبية" بمضامينه الشائكة من المفاهيم التي عادت للظهور مجددًا في العصر الحديث، وأصبح الحديث عنها مقبولًا خاصّة بعد مرحلة الثورات العربية، وما رافقها من انتكاسات على الصعيدين المجتمعي والسياسي، مما جعل الصراع العصباني يعود إلى الواجهة في العمل السياسي وفي السلوكيات المجتمعية.
لم يعد ممكنًا اليوم تجاهل مصطلح العصبية بعد أن أثبتت وجودها الحيّ في أكثر المجتمعات العربيّة، مؤكّدة تحكّمها بمجمل الأفكار والمسالك التي تستقبلها العصب[1] من العالم الخارجي، فتقوم بقبولها ورفضها وفقًا لمصلحتها الخاصّة (معتوق، 2017، ص10-11) دون أن يكون للفرد؛ كفرد حرّ أيّ قرار في هذه العمليّة. يرفض الكثير من المفكّرين الخوض في موضوع العصبية والتنظير له بحسبان أنّه موضوع تجاوزته المجتمعات الجديدة خاصة بعد قيام الدول على الشكل الحديث. كما أنّ بعضهم يرفض الحديث فيه لأنه موضوع دقيق نظرًا إلى ارتباطه المباشر بالدين. ومع ذلك، فإنّ هذه الظاهرة تستحقّ التوقّف عندها ودراستها خاصّة أنّ المتتبّع لحالة المجتمعات العربيّة اليوم، والمراقب لحركة العمليّة السياسيّة في أكثر الدول يجد أنّ مجتمعاتها ما زالت تقوم على العصبية والتعصب، وهي تفرض سلوكًا محدّدًا في علاقة الجماعات المكوّنة للشعب الواحد مع بعضها البعض، وأكثر ما يميّز هذا السلوك هو صورته النمطية الثابتة التي لم تتغيّر رغم خضوعه لعدّة تطورات تاريخية واجتماعية وثقافية وغيرها.
يهتمّ البحث بدراسة حركة العصبية في المجتمعات العربية، وتتبع تمظهراتها ونتائجها على الأوطان والمجتمعات منطلقًا من ثلاثة عناوين أساسيّة لكتابين وعنوان يشكّل جزءًا من عمل مشترك، إذ إنّ معرفة الواقع هي أساس أي عمليّة تغييريّة قد تسهم في التحول إلى المجتمعات التقليدية العربيّة إلى مجتمعات ديمقراطية.
الكلمات المفتاحيّة: العصبية، الصراع، آكلة، هدر، استلاب، الإنسان، الأوطان
***
يثير مصطلح "العصبية" في ذهن القارئ أو المستمع صورًا نمطيّة سلبية على الرغم من أنّ المفهوم بحدّ ذاته، لا يحمل هذا المعنى، فالعصبية كما كانت تُفهم سابقًا هي رابطة تربط الناس ببعضهم البعض على أساس الدم والقربى أو حتّى الحلف، وقد اقتضتها ضروريّات الحياة من تأمين الطعام والدفاع عن النفس. (ابن خلدون، د. ت، ص27) أمّا اليوم فينظر إليها وخاصّة في الميدان السياسي على أنّها مفهوم تقليدي له مضامين سلبية يجب تجاوزها لتحقيق اندماج حقيقي بين مجموعات الشعب الواحد، فالعصبية من العوائق التي تقف حاجزًا أمام بناء هويّة كلّيّة جامعة للعصب المتفرّقة المكوّنة للشعب والذين يتشاركون مع بعضهم البعض الأرض أو ما يعرف بالوطن.
لا تعدّ العصبية غاية أو هدفًا، إنّما هي آليّة حركيّة طيّعة قابلة لأن تأخذ من حيث الشكل ما يناسبها للمحافظة على بقائها من دون أن يمسّ ذلك بنيتها الداخلية، وهي تتحكّم بسلوك أفراد عصبتها، تحكمًا كاملًا يحقّق لها الهدف الأساسي من بقائها حيّة وهو الحفاظ على وجود العصبة ومصالحها والدفاع عنها وحمايتها من أي خطر قد يهدّد وجودها. وتشير العديد من الدراسات الحديثة ومنها دراسة "لعلي وطفة" نشرت في كتاب: الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر (2013)، أنّ مشاعر الانتماء الطائفي والقبلي تسيطر على المجتمعات العربيّة وتقودها لتعيش حالة من التعصب والتمييز الطائفي والعشائري والعرقي، وهذا يؤكّد أنّ العصبية كمفهوم قديم ما زالت حيّة في هذه المجتمعات، وكأنّ الزمن لم يمرّ عليها، وكأن المجتمعات العربيّة لم تتجاوزها، خاصة أنّها (العصبيّة) استطاعت انتاج ذاتها من جديد بعد انتهاء مرحلة الثورات العربيّة أو ما عرف بـ"الربيع العربي"، وبدأت بالتحكّم بالمجتمعات العربيّة، ففتكت بالدولة وبمؤسساتها عبر هدر كلّ طاقات الوطن، وهدر طاقات الإنسان الفاعل في هذا الوطن ما أدّى إلى توقّف عمليّة بناء الدولة الحديثة القائمة على المواطنة وقبول الآخر وتطبيق القوانين وتحقيق المساواة العادلة بين جميع الأفراد لحساب الدولة العصبانية القائمة على الولاء والخضوع والخنوع لصاحب الشوكة أو العصبة. وللوصول إلى الحلول المقبولة لهذه المشكلة علينا أولًا فهم هذه الحالة العربيّة التي لم تحظ بالاهتمام الكافي، وظلت الدراسات التي تتعلّق بها محصورة بدراسة ابن خلدون ونظريته. ولهذا وانطلاقًا مما ذكره المفكر المغربي محمد عابد الجابري،[2] في مقالة له عن الديمقراطية، أنّ الهدف من أي طرح ينطلق من ثلاثة أسئلة، وهي: من أين نبدأ؟ وكيف؟ وإلى أين نريد الوصول؟ (الجابري، الانتقال إلى الديمقراطية في المغرب، موقع الدكتور محمد عابد الجابري، 2000)
ولنعرف من أين نبدأ؟ وكيف نبدأ؟ يجب أن نعرف الواقع الذي نريد تغييره معرفة حقيقية تسهّل علينا تغييره، لذلك جاء اهتمامنا بموضوع العصبية، فالهدف من هذا البحث هو فهم الواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية لمعرفة كيف يمكن تغييرها من أجل التحول إلى مجتمعات ديمقراطيّة.
تسعى هذه الدراسة إلى محاولة رسم صورة كاملة للواقع العربي من خلال دراسة ثلاثة عناوين تناول كتّابها موضوع العصبية في المجتمعات العربية الحديثة، بدءًا من حركة هذه العصبية في المجتمعات وصولًا إلى النتائج المترتّبة عن هذه الحركة.
علمًا أنّ الدراسة لا تسعى إلى اقتراح حلول للواقع الراهن، إنما الهدف منها قراءة هذا الواقع علّنا نستطيع بعد فهمه، الانتقال إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة البحث عن حلول واقعيّة. لذلك هي لا تطرح أيّ حلّ يقوم على عقد جديد غير العقد القائم اليوم في الدول العربيّة، وإنّما دراسة نحاول من خلالها فهم العقد الاجتماعي القائم في الدول العربيّة الذي يبدو في ظاهره حداثيًا وديمقراطيًّا، في حين أن الوقائع تثبت انعدام تحقق القيم الحداثية. وهذا ما أثبته غياب التوافق السياسي بين جميع الأطراف الحاكمة وغياب أي حوار اجتماعي بنّاء بين أبناء الوطن الواحد.
تعدّ الدراسة مصطلح "العصبية" الركيزة الأساسية التي تتحكم بمجمل العملية السياسية العربية اليوم، كما تلحظ أنّ النخب القديمة قد أعادت تشكيل ذاتها، لكن بشكل حديث فأعادت بناء الدولة المستبدة مستندة إلى ما يسمّى العصبيات.
يُظهر عنوان البحث: "من الصدام إلى الاستلاب، رحلة المجتمعات العصبانية في أوطان مهدورة" أنّ رحلة المجتمعات العربية هي رحلة مختلفة جدًا عن المجتمعات الغربية، لذلك جاءت الغاية من التركيز على فهم الواقع العربي الخاص بعد أن تمّ تجاهل هذه الظاهرة لسنوات عديدة.
· إشكالية البحث:
تشكّل العصبية أحد المعوّقات الأساسيّة في عمليّة بناء الدولة الحديثة القائمة على الديمقراطيّة والحريّات وحقوق الإنسان، وهي تظهر على صور مختلفة لتؤدي دورًا واحدًا، فما هو هذا الدور الذي تؤديه؟ وكيف تمارسه؟ وما هي النتائج المترتبة عن حركتها في المجتمعات العربيّة؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة نعتمد على ثلاثة عناوين لكتب تناولت موضوع العصبية بالبحث والتدقيق وهي:
- صدام العصبيات العربية، فردريك معتوق، بيروت منتدى المعارف، 2017.
- العصبيات وآفاتها، استلاب الأوطان وهدر الإنسان، مصطفى حجازي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2019
- العصبيات آكلة الحريّات السياسة، فردريك معتوق، الفصل السادس عشر من القسم الخامس من كتاب الحريّة في الفكر العربي المعاصر، مجموعة مؤلّفين، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة، الطبعة الأولى، 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق