♦ مطانيوس قيصر ناعسي *
- نبذة عن البحث
يعالج هذا البحث الشِّعريَّة في أغنية الأخوين رحباني،[1] ولا سيّما في أغنية "سَوا رْبِيْنَا" التي غنّتها السيّدة "فيروز" في العام 1969،[2] طارحًا إشكالية كيف تبدَّت الشِّعريَّة ومستوياتها التي احتواها هذا النصّ، مُحَقِّقَةً أدبيّته، وديمومته، وبقاءه؟ فالشِّعريَّة تسعى إلى كشف مكنونات النّصّ الأدبيّ وكيفيّة تحقيق وظيفتيه الاتّصاليّة والجماليّة، وهي تعني بشكل عامّ قوانين الإبداع الفنِّيّ. وهذه اللفظة تُعَدُّ مُقابلًا مُناسبًا لمـُصطلح "Poétics"[3]، وقد تمحورت اشتغالاتها منذ القديم، وإلى الآن، في استقصاء القوانين التي استطاع المـُبدع التّحكّم بوساطتها في إنتاج نصِّه، والسّيطرة على إبراز هويّته الجماليّة، ومنحه الفرادة الأدبيّة.
إنَّ أوّل من استخدم مصطلح الشِّعريّة "Poétics" هو "أرسطو Aristotle "[iv] في كتابه "فن الشعر"، ولم يجر تداول هذا المصطلح في النّقد العربيّ إلّا بعد مروره بمراحل ثلاث:
1- مرحلة التّقبّل: وفيها جرى تعريب المصطلح إلى "بويطيقا".
2- مرحلة التّفجّر: وجرت ترجمته إلى "فنّ الشِّعر".
3- مرحلة الصّياغة الكلِّيَّة: وجرى تداوله كما هو الآن "الشِّعريَّة".
إنَّ لمصطلح "Poétics" مقابلات تنوّعت واحتشدت فصار هناك: "الشِّعريَّة، والإنشائيَّة، والشّاعريَّة، والأدبيَّة، وعلم الأدب، والفنّ الإبداعيّ، وفنّ النَّظم، ونظريَّة الشِّعر، وبويطيقا، وبويتيك...
إنَّ هذه المسمّيات العديدة لحقل معرفيّ واحد، تلتقي في جوانب معيَّنة وتفترق في أخرى، وهذا ما دعا إلى ضرورة توحيدها في مصطلح واحد "الشِّعريَّة". وهي دراسة منهجيّة تقوم على علم اللغة للأنظمة في النّصوص الأدبيّة، وهدفها دراسة أدبيّة تلك النّصوص، فهي إذًا شعريّة نصِّيَّة لا تُحيلُ القارئَ إلّا إلى النَّصِّ نَفْسِه.
- ما هو موضوع الشِّعريَّة؟
إنَّ أوَّل من تصدَّى للجواب عن هذا السّؤال هو تزفيتان تودوروف (Tzvetan Todorov)[v] الّذي تتحدَّد "الشِّعريَّة" عنده من خلال كامل نتاجه النَّقديّ التّنظيريّ والتَّطبيقيّ[vi]. يقول: إنَّها تشمل الشِّعر والنَّثر، وإنَّ العمل الأدبيّ في حدِّ ذاته ليس موضوعها، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النّوعيّ الذي هو الخطاب الأدبيّ... وهذا العلم لا يُعنى بالأدب الحقيقيّ بل بالأدب الممكن، بعبارة أُخرى، يُعنى بالخصائص المـُجرَّدة الّتي تصنع فرادة الحدث الأدبيّ، أي الأدبيَّة.[vii]
ومِنَ الّذين توسّعوا في مفهوم الشِّعريَّة أيضًا:
1- جان كوهن (Jean Cohen)[viii] الذي بنى شعريّته على "الانزياح"، وتتمحور نظريّته حول الفرق بين الشِّعر والنّثر من خلال الشّكل وليس المادّة... ليلتقي بذلك مع "أدونيس"[ix] الّذي يقول: "يُبالغ بعضهم فيرى أنَّ مُجرّد الكتابة بالوزن تقليدٌ وِقِدَم، ومُجرَّد الكتابة بالنَّثر تجديد وحداثة. وهذا القول هو الوجه المـُقابل للقول التَّقليديّ إنَّ الوزن هو، وحده، الشِّعر، والنَّثر، أيًّا كان، نقيض للشِّعر. إنَّ هؤلاء لا يؤكِّدون على جسد الشِّعر، وإنَّما يؤكِّدون على لباسه الخارجيّ: لا يُعنون بمادَّة الشِّعر، بل بشكله الوزنيّ، أو النَّثريّ...".[x] والشِّعريَّة عند كوهن تعالج شكلًا من أشكال اللغة، أمّا اللسانيّات فتعنى بالقضايا اللغويَّة بعامّة... وهو يُعرِّف الشِّعريَّة بوصفها "علم الأسلوب الشِّعريِّ، أو الأسلوبيّ".[xi]
2- مايكل ريفاتير (Michael Riffaterre)[xii]: الانزياح عنده يُعدّ خروجًا عن النّمط التّعبيريّ المتواضَع عليه، وهو خروج عن القواعد اللغويّة وعن المعيار الذي هو الكلام الجاري على ألسنة النّاس في استعماله وغايته...
3- جوناثان كلر (Jonathan Killer)[xiii]: الشِّعريّة هي في الأساس نظريّة في القراءة، تبتكر أسئلتها عن الـ"كيف" مع الـ"ماذا" بتوازن يكفل أحدهما الآخر ويعاضده...
4- كمال أبو ديب [xiv]: الشِّعريّة عنده ليست مُختصَّة في الأشياء ذاتها، بل في تموضع الأشياء في فضاء من العلاقات أوّلًا، تنمو بين مُكوِّنات أوَّليَّة، ليتحوّل كلّ منها في السِّياق الّذي تنشأ فيه إلى فاعليَّة خلقٍ للشِّعريَّة، ومؤشِّر على وجودها.[xv]
- قصيدة "سَوا رْبِيْنا"
بناءً على كلّ ما تقدّم، يُمكن الانطلاق في دراسة الشِّعريَّة ضمن قصيدة "سَوا رْبِيْنا" لـ"الأخوين رحباني"، التي غنّتها السيّدة "فيروز"، فتلقّاها النّاس خير تلقٍّ لكون "مجال الشِّعر هو الشّعور"[xvi]، وأولى مميِّزاته استثمار خصائص اللغة[xvii]، ولكون "الأدب العظيم هو، بكلِّ بساطة، لغة مشحونة بالمعنى إلى أقصى درجة ممكنة"[xviii]. تقول القصيدة:
سَوا رْبِيْنَا
سَــوا رْبِيْنا سَــوا مْشِيْنَا
سَــــوا قَضَّيْنــَــا لَيــالِيْنـَــا
مَعْقـول الفْـرَاق يِمْحي أَسامِيْنَا
وْنِحْنا سَـوا سَــوا رْبِيْنــَـا؟
***
إِنتِ وأنــَـا دِرْنـَـا عَ كِلّ البْـواب
حَبَّيْنا وكْبِرْنــَــا بِمَوْسِم العِنّـاب
وِنْطَرْنــَـا الجَنَى بِليالي الجَنَى
وقْطَفْنــَــا الفَرَح من عَلاليْنَـا
***
قَوْلِك بَعد الرِّفْقَه والعُمْـر العَتيـق
مْنُوقَع مِتِل وَرْقَه كِلْ ميْن عَ طريق
وْيِنْسانا السَّهر بِلَيْـل السَّهـر
ويِسْألـو عَنَّـا أهـــاليْنــَـا
(كلمات وألحان: الأخوان رحباني)
(...)
***
* كاتب وباحث لبناني - يعد أطروحة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها في المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانية
[1] الأخوان رحباني: شاعران وموسيقيَّان لبنانيَّان، هما: عاصي الرّحباني (1923- 1986) ومنصور الرّحباني (1925- 2009)، تركا إرثًا شعريًّا وإرثًا موسيقيًّا كبيرين، اشتهرا بمسرحهما الغنائيّ، من أبرز أعمالهما: مسرحيَّة الشَّخص (1969م.) الّتي تضمَّنت أُغنية "سوا ربينا".
[2] فيروز: مُطربة وممثّلة لبنانيَّة، (1935- ...)، اسمها الأصليّ "نُهاد وديع حدَّاد"، تُعَدُّ أيقونة في الفنّ الغنائيّ اللبنانيّ، من أبرز أعمالها: أغنية سَوا رْبِيْنَا.
[3] حسن ناظم، مفاهيم الشِّعريَّة دراسة مُقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثَّقافيّ العربيّ، بيروت، ط.1، 1994، ص. 17
[iv] أرسطو: فيلسوف يونانيّ، (384 -322 ق. م.)، هو تلميذ أفلاطون ومُعلِّم الإسكندر الأكبر، ومن كبار المـُفكِّرين، من أبرز أعماله: "فنّ الشِّعر".
[v] تزفيتان تودوروف: فيلسوف فرنسيّ- بلغاريّ، (1939م.- 2017م.)، كتب حول الأدب وتاريخ الفكر والثَّقافة، حاضر في جامعات عديدة، من أبرز أعماله: "شعريَّة النَّثر".
[vi] بشير تاوريريت، الشِّعريَّة والحداثة بين أفق النَّقد الأدبيّ وأفق النَّظريَّة الشِّعريَّة، دار رسلان للطّباعة والنَّشر والتَّوزيع، دمشق، ط.1، 2008م.، ص. 34
[vii] تزفيتان تودوروف، الشِّعريَّة، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنَّشر، الدَّار البيضاء، ط.1، 1987، ص. 2
[viii] جان كوهن: فيلسوف فرنسيّ وأستاذ في جامعة السّوربون، (1919م.-1994م.)، من أبرز أعماله: بنية اللغة الشِّعريَّة.
[ix] أدونيس: شاعر وناقد سوري- لبناني (1930-...)، اسمه الحقيقيّ "علي أحمد سعيد إسبر"، أستاذ في كلِّيَّة التَّربية- الجامعة اللبنانيَّة (1971-1985)، قاد ثورة حداثيَّة، من أبرز أعماله النَّقديَّة: الشِّعريَّة العربيَّة
[x] أدونيس، الشِّعريَّة العربيَّة، دار الآداب، بيروت، لبنان، ط.1، 1985، ص. 94
[xi] الشِّعريَّة والحداثة بين أفق النَّقد الأدبيّ وأفق النَّظريَّة الشِّعريَّة، ص. 50
[xii] مايكل ريفاتير: ناقد فرنسيّ، (1924- 2006)، درَّس في جامعة كولومبيا، من أبرز أعماله: سيميائيَّة الشِّعر.
[xiii] جوناثان كلر: ناقد أمريكيّ، (1944م.-...)، أستاذ في جامعة كورنيل، من أبرز أعماله: الأدب والنَّظريَّة الأدبيَّة.
[xiv] كمال أبو ديب: كاتب وناقد سوريّ، (1942م.-...)، ترجم العديد مِنَ الكُتُبِ إلى العربيَّة، من أبرز أعماله: جدليَّة الخفاء والتَّجَلِّي
[xv]كمال أبو ديب، في الشِّعريَّة، مطبعة الأبحاث العربيَّة، لبنان، لا ط.، لا ت.، ص. 14
[xvi] محمّد غنيمي هلال، النَّقد الأدبيّ الحديث، دار العودة، بيروت، ط.1، 1982، ص. 376
[xvii]مهى الخوري نصّار، البنية الأسلوبيَّة، دار سائر المشرق، بيروت، ط.1، 2016، ص. 13
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق