♦ مدلان حبيب حبيب *
نبذة عن البحث
ارتبط الإنسان بالحيوان منذ الخليقة، وقصّة تمثُّل الشّيطان بصورة الحيّة لحوّاء، وإغراؤها بالأكل من الشّجرة الّتي حرّم اللّه من الأكل منها معروفة.([1])
كانت علاقة الإنسان بالحيوان أحاديّة عدائيّة قبل تدجينه، إذ كان يقتله إمّا لدرْء خطر، وإمّا للاستفادة من لحمه وجلده؛ ثمّ ما لبثت أن أصبحت ثُنائيّة؛ وذلك بعد تدجين بعض أصنافه، فاستغلّها في طعامه (لحم، حليب، بيض...)؛ لِصنع ثيابه وأثاث منزله (صوف، شعر، وبر، جلد، ريش)، ولتنقّلاته ونقل أثقاله، كذلك في حراسة منزله وحيواناته، وحِراثة أرضه، وتنزّهه، ولهوه، ورياضته، وتنظيف بيته من الفئران والجرذان.
وكان للعرب، كسائر شعوب الأرض، هذه العلاقة المزدوجة مع الحيوان. وقد برز من بين الحيوانات الأليفة الّتي ربّوها ثلاثة: الجمل، والحصان، والكلب. أمّا الأوّل، فقد مَلَأ لغته، وأمثاله، وأشعاره، وحياته، إذ كان عونه في حِلّه وترحاله، ويأكل من لبنه ولحمه، ويتّخذ من وبره بيته وغطاءه، ومن جلده نعله وأدواته. أمّا الحصان، فقد كان له مكانة خاصّة عند فرسان العرب، يهتمّون به أشدّ الاهتمام؛ لأنّه عليه يغير على أعدائه، وينجو منهم، إذا دارت الدّائرة عليه؛ وأمّا الكلب، فقد استخدموه في حراسة بيوتهم وماشيتهم من اللّصوص والوحوش، وفي الصّيد، وجَلْب الضّيوف عن طريق استنباحه.
- تسويغ البحث وإشكاليّته
الحيوان عند العرب إمّا محبوب ممدوح كالجمل، والحصان، والأسد، وإمّا مكروه مَذموم كالذئب والضّبع والخنزير، لكنّ الكلب([ii]) ينفرد بين سائر الحيوانات عند العرب في أنّه ممدوح مذموم في الوقت نفسه. وقد جاء في مدح الكلاب في كتاب "الحيوان للجاحظ" (255ه/ 869م):
"فإذا حكينا قول من عدّد محاسنها، وصنّف مناقبها، وأخذنا من ذِكْر أسمائها وأنسابها وأعراقها، ومن تفدية الرّجال إيّاها، واستهتارهم بها، وذكر كسْبها وحراستها، ووفائها وإلْفها وجميع منافعها، والمرافق الّتي فيها، وما أُودِعت من المعرفة الصّحيحة، والفِطَن العجيبة، والحسِّ اللّطيف، والأدب المحمود. وذلك سِوى صِدق الاسترواح، وجَودَةِ الشّمِّ، وذِكْر حفظها ونفَاذها واهتدائها، وإثباتها لصُوَر أربابها وجيرانها، وصبرِها، ومعرفتِها بحقوق الكرام، وإهانتها اللّئام، وذكر صبْرها على الجفا، واحتمالها للجوع، وذكر ذِمامها، وشدَّةِ مَنْعِها مَعَاقِد الذِّمَارِ([iii]) منها، وذكر يَقَظَتها، وقِلَّة غفلتها، وبُعْدِ أصواتها، وكثرة نسْلها، وسرعة قَبولها وإلقاحها وتصرُّفِ أرحامها في ذلك، مع اختلاف طبائع ذكورها والذّكور من غير جنسها، وكثرة أعمامها وأخوالها، وتردُّدها في أصناف السِّباع، وسلامتها من أعراق البهائم، وذِكْر لَقَنها وحكايتها، وجودة ثقافتها([iv]) ومَهْنِها وخِدمتها، وجِدِّها ولِعْبها وجميع أمورها؛ بالأشعار المشهورة، والأحاديث المأثورة، وبالكتُبِ المنَزَّلة، والأمثال السّائرة، وعن تجرِبةِ النّاس لها، وفِراستِهم فيها، وما عايَنوا منها؛ وكيف قال أصحاب الفأل فيها، وبإخبار المتطيِّرين عنها".([v])
ووضع أبو بكر محمّد بن خلف المرزبانيّ (309ه/ 921م) كتابًا بعنوان "تفضيل الكلاب على كثير ممَّن لبس الثّياب"، جاء فيه أنّه "يُروى عن الحسن البصري أنّه قال: في الكلب عشر خصال محمودة، وكذلك ينبغى أن تكون في كلّ مؤمن:
- الأولى: أنّه لا يزال خائفًا... وذلك من دأب الصّالحين.
- والثّانيّة: أنّه ليس له مكان يعرف... وذلك من علامات المتوكّلين.
- والثّالثة: أنّه لا ينام من اللّيل إلّا قليلًا. وذلك من صفات المحسنين.
- والرّابعة: أنّه إذا مات، لا يكون له ميراث... وذلك من أخلاق الزّاهدين.
- والخامسة: أنّه لا يترك صاحبه، ولو جفاه وضربه... وذلك من صفات المريدين.
- والسّادسة: أنّه يرضى من الدّنيا بأدنى مكان... وذلك من علامات المتواضعين.
- والسّابعة: أنّه إذا طرده أحد من مكان وانصرف عنه، عاد إليه... وذلك من صفات الرّاضين.
- والثّامنة: أنّه إذا ضُرب وطُرد ثمّ دُعي، أجاب بلا حقد... وذلك من صفات الخاضعين.
- والتّاسعة: أنّه إذا حضر شيء للأكل، جلس من بعيد... وذلك من صفات المساكين.
- والعاشرة: أنّه إذا حضر رجل من مكان لا يرحل معه شيء يلتفت إليه... وذلك من صفات المتجرّدين".([vi])
وقيل في ذمّها "وتعداد أصناف معايبها ومثالبها؛ مِن لؤمها وجبنها، وضعفها وشرَهها، وغدْرِها وبَذَائها، وجهْلها وتسرُّعها، ونتْنها وقذَرها، وما جاء في الآثار من النَّهْي عنِ اتّخاذها وإمساكها، ومن الأمْر بقتْلِها وطردها، ومن كثرة جناياتها وقلَّة رَدّها،([vii]) ومن ضرب المثل بلؤمها ونذالتها، وقبحِها وقبْح معاظلتِها،([viii]) ومِن سماجة نُباحِها، وكثرة أذاها، وتقذُّر المسلمين من دنوِّها، وَأنّها تأكل لحومَ النّاسِ، وأنّها كالخلْق المركّبِ والحيوان الملفّق: كالبغل في الدّوابِّ، وكالراعِبيِّ في الحمام، وأنّها لا سبعٌ ولا بهيمة، ولا إنسيَّةٌ ولا جِنِّيَّة، وأنّها من الحِنِّ([ix]) دون الجِنّ، وأنّها مطايا الجِنِّ ونوعٌ من المِسْخ، وأنَّها تنبُش القبور، وتأكل الموتى، وأنّها يعتريها الكَلَبُ مِن أكل لحوم النّاس".([x])
وقيل: "وما بلَغ من قدر الكلب مع لؤم أصله، وخُبث طبعه، وسقوط قدره، ومهانة نفسه، ومع قلَّة خيره، وكثرة شرّه، واجتماع الأمم كلِّها على استسقاطه، واستسفاله، ومع ضربهم المثل في ذلك كلِّه به، ومع حاله الّتي يعرف بها، من العجز عنْ صولة السِّباع واقتدارها... ولأنّ الكلب ليس بسبع تامّ، ولا بهيمة تامّة، حتّى كأنّه من الخلْق المركّب والطّبائع الملفّقة، والأخلاط المجتلبة، كالبغل المتلوِّن في أخلاقه، الكثير العيوب المتولّدة عن مزاجه".([xi])
فلماذا كان الكلب ممدوحًا مذمومًا في الوقت نفسه؟ وما هي الصّفات الّتي ذمّت فيه، أو الّتي مُدحت فيه؟ وهل كان العرب على حقّ في ما وصفوه من صفاته، وفي آرائهم فيه؟ هذا ما أحاول معالجته في هذا البحث.
(...)
***
* باحثة لبنانية - تعدّ أطروحة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها في جامعة الجنان (لبنان)
[1]- انظر: الإصحاح الثّالث من سفر التّكوين من الكتاب المقدّس
[2]- الكلب حيوان ثدييّ لاحم، جمجمته مستطيلة، في فمه 42 سنًّا لتمزيق اللَّحم. يتميّز بسرعة العدو، وبحاسّتي الشَّمّ والسّمع. والكلاب أنواع عديدة، تختلف في ما بينها بالحجم، والوزن، واللّون، والعمر، وغير ذلك.
والكلب المنزليّ أو كلب الحراسة، أو كلب الرّعي دُجِّن قبل خمسة عشر ألف سنة، ومنه أكثر من ثمانين سلالة، طوله بين 120 و150 سنتم، ووزنه بين 20 و40 كلغ. له عضلات قويّة تجعله قادرًا على الوثْب الطّويل. عيناه صغيرتان على جانبيْ رأسه، يستطيع بهما الرّؤية على مسافة بعيدة. تتزاوج أنثاه مع عدّة ذكور، وتحمل مدّة تتراوح من 63 إلى 67 يومًا، وتضع بين 5 إلى 6 جِرار. عمره بين 14 و18 سنة.
انظر: موسوعة المورد العربية 974/2؛ والموسوعة العمانية 8/2993؛ 2/293 univers des animaux
[3]- الذّمار: ما يلزمك حفظه وحمايته
[4] - الثقافة: الحذق والفطنة
[5]- الحيوان 1/ 222- 223
[6]- تفضيل الكلاب عن كثير ممّن لبس الثّياب، ص 103- 104
[7]- الرد: النّفع
[8]- العظال: الملازمة في السفاد من الكلب ونحوه
[9]- الحِنّ: سَفلة الجنّ وضعفاؤهم (المعجم الكبير مادة حنن)
[10]- الحيوان 1/102.
[11]- الحيوان 1/102.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق