مريم محمود سرور *
"Poetry and Religion: The Effectiveness of the Sacred Religious Symbol in Arabic Poetry" by kamel saleh
- Mariam Mahmoud Srour
مستخلص - Abstract
- الكلمات المفتاحية: الشعر والدين؛ الرمز الديني؛ الكتب المقدّسة؛ كامل صالح
***
- Abstract:
In his book "Poetry and Religion: The Effectiveness of the Sacred Religious Symbol in Arabic Poetry", published in Beirut in 2004 - 2005 by Dar Al-Hadatha & Cairo in 2010 by the Supreme Council of Culture in its Third edition, the lebanese academic Kamel Farhan Saleh addresses the effectiveness of the religious symbol in Arabic poetry. The book consists of three sections, each one includes two chapters, and the author believes that when contemporary Arab poets wanted to express a crisis plaguing their societies or entity, some of them chose to lean on a religious dimension in their poetry, to express what they wanted to say through it.
- Keywords:
Symbol – Religious Symbol – Holy Books – Myth – Sufism
***
- المدخل
تعرض هذه القراءة أبرز ما جاء في كتاب "الشّعر والدّين، فاعليّة الرّمز الدّيني المقدّس في الشعر العربي" لكامل صالح[1]، فيرى الكاتب أنّ طبيعة الرّمز الدّيني غنية ومثيرة تتفرّق دراستها في فروع شتّى من المعرفة؛ في علم الدّيانات والأنثروبولوجيا وعلم النفس والاجتماع وعلم اللغة نفسه، ولكن طبيعة هذا البحث لا تسمح بتمثل طبيعة الرمز في أطر هذه المعارف المختلفة، إنّما ما يهمّ هو تفهّم طبيعة الرّمز، والرّمز الشّعري على وجه التّحديد.
الباب الأوّل: فاعليّة النّصّ الدّيني في الشّعر العربيّ في أبرز محطّاتها
استهلّ الكاتب هذا الباب بمدخل بحث فيه العلاقة بين الدّين والشّعر، فيرى أنّ الارتباط الوثيق بين الدّين والفنّ بشكل عام، والشّعر بوجه خاص، يُلازم تطوّر المجتمعات البشريّة.
الفصل الأوّل: الدّين والشّعر في المجتمع العربي القديم
يقارب الكاتب في هذا القسم الكتاب المقدّس بعهديه القديم([2]) (التوراة) والجديد (الإنجيل) بحثًا عن علاقته بالشّعر، وذلك ليسهل التعرّف إلى رموزه الدينيّة في الشّعر العربي في مراحل تطوّره اللاحقة، ثمّ القرآن الكريم بحسبانه آخر الكتب المقدّسة (ص 54).
تعدّ التوراة فضلًا عن أنّها كتاب مقدّس، موسوعة تاريخيّة، اشتملت على خبرات حضاريّة ممتدّة في أعماق الزمن، وضّحت كل ما كان لدى هؤلاء القوم من قصص وأساطير وفلسفة وتشريع، وغزل ورثاء ومديح وهجاء. وأهمّ ما يسترعي القارئ في لغة التوراة نبرة الصّدق الفنّي، "وإذا استثنينا الشّرائع، وبعض النّصوص النثريّة الواردة في العهد القديم، لجاز القول إنّ معظم نصوصه المتبقية هي أقرب ما يكون إلى الشّعر، أو هي شعر "خالص" إذا صحّ التّعبير، فالعهد القديم يضمّ عددًا من الأسفار الشّعريّة التي يمكن وصفها من روائع الكتابات العبريّة" (ص 56). ولعلّ الحديث عن تاريخ قصيدة النثر الحديثة، "يمكن إيجاد جذور له في العهد القديم، إضافة إلى غنى النّصوص التوراتيّة بالرّموز والرؤى والوحدة الموضوعيّة، والوحدة الموضوعيّة التي تعدّ من أسس قصيدة النثر. فالشاعر أنسي الحاج([3])، يؤكّد لإحدى الصحف أنه تأثر بالكتاب المقدّس، كذلك يمكن الحديث عن شعر يوسف الخال([4]) الغني باتّكاءاته على النصّ الإنجيلي المُقدّس".
أمّا في الإنجيل أو العهد الجديد، فلم يكن أقلّ شاعريّة من التوراة، وأبرز ما يزخر به من حكمة ذات طابع شعري مثل: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر" (يوحنا: 8)، و"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (لوقا:2)
كما أنّ "حياة السيّد المسيح ذاته مثيرة للخيال خارقة للعادة، من ولادته العذراوية، وصلبه، وقيامته، وموقفه من مريم المجدليّة، وإحياؤه للعازر، وخطاب السيّد المسيح كان ذات شاعريّة عالية، يعتمد على كثافته في التّعبير، وذا أسلوب راقٍ" (ص 63).
إذا كان الباحثون في "نصّ الكتاب المقدّس لم يجدوا حرجًا بوصف بعض نصوص الكتاب المقدّس شعرًا، فإنّ حسبان ذلك بالنسبة إلى القرآن([5])، أدّى إلى بروز إشكالية حادّة تمثّلت في نفي النّصّ القرآني نفسه لوصفه بالشّعر، أو أن يكون النبيّ محمّد شاعرًا، واتّهام الشّعراء بأنّهم يقولون ما لا يفعلون كما ورد في سورة الشّعراء الآية: 226" (ص66).
ويُلاحظ ابن خلدون أنّ "العرب انصرفوا عن الشّعر أوّل الإسلام، وأدهشهم أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم" (ص 67).
الفصل الثّاني: الرّموز الدينيّة في الشّعر العربي
أما في هذا الفصل فيلحظ صالح، أنّ استخدام الرّمز الديني في الشّعر يكشف آفاقًا عدّة حول النّصّ أو حول كاتبه، ويفتح الباب للإطلالة على بنية النّصّ والمساحة المكانيّة التي ينطلق منها (ص 81).
- اليهوديّة: عرفت الديانة اليهوديّة عند العرب قبل الإسلام، وسكن اليهود – بحسب صالح - في مواضع عديدة، تقع ما بين فلسطين ويثرب، كما سكنوا في اليمن، وفي مواضع أخرى من الجزيرة العربيّة، ومن الطبيعي أن يتأثّر اليهود بالحياة العربيّة الجاهليّة ويؤثروا بها. أمّا تأثير اليهوديّة في الحياة العربيّة، فقد ظهر في مجالات عدّة، فيُلاحظ "وصول بعض مصطلحات الديانة اليهوديّة في الشّعر، مثل لفظة "حبر" التي تشير عند اليهود إلى العلم والمعرفة، وورود لغة "التوراة" في الأشعار، إضافة إلى توظيف قصّة النبي سليمان الحكيم، كما فعل النابغة الذبياني في قصيدته "يا دار ميّة" التي يمدح فيها الملك النعمان إلى سرد قصّة النبي سليمان" (ص 85-86).
- النصرانيّة/ المسيحيّة: إنّ عرب الجزيرة كانوا على "اتّصال دائم بالنصرانيّة، ولا سيّما أنّها كانت في سورية دينًا للدولة الرومية" (ص 155). وفي مكّة – بحسب صالح - انتشرت النصرانيّة في بني أسد عشيرة خديجة بنت خويلد زوجة الرسول (ص)، ويرجع الشّعر الذي قالته العرب قبل ظهور الإسلام وخلاله، مما اشتمل على إشارات دينيّة نصرانيّة، وفي عهد النبي. كانت النصرانيّة واسعة الانتشار، وقد أشار حسّان بن ثابت إلى وجود نصارى ويهود بالمدينة عند وفاة النبي محمد (ص104).
إنّ فاعليّة النّصّ الدّيني النصراني بعد الإسلام "كان لها الأثر البارز في حركيّة الشّعر العربي، وقد تجلّت أكثر ما تجلّت في العصر الحديث" (ص112).
- الإسلام والشّعر: في هذا الجزء من الكتاب، يوضح صالح في كتابه، أن الحياة العربيّة مع دعوة النبي محمد (ص) النّاس إلى الإسلام، بدأت تلمس تغييرات عديدة ليس على صعيد الشّعر فحسب، بل على مظاهر الحياة كافّة، وأشاع القرآن ثقافة وأفكارًا وقيمًا وحضارة في عالم اللّغة العربيّة (ص117)، وكان أثر القرآن واضحًا في الأدب العربي، في مبناه ومعناه ومضامينه الفكريّة، ولا شكّ في أنّ مسيرة الشّعر العربي، أخذت مع الإسلام منحىً آخر مختلفًا، فقد أدخل الشّاعر من معجم الإسلام ما يتعلّق بقضايا القصيدة من دون أن يتوقّف عند فلسفتها (ص 118-122). أمّا بالنسبة إلى الرّموز الدينيّة المقدّسة، ومدى فاعليتها في الشّعر العربي، فقد "رافقت مسيرة الشّعر في العصور كافة، واستلّ الشّعراء الكثير ممّا جاء في القرآن، موظِّفين ذلك ضمن أشعارهم. وقد جاء ذلك عبر اللجوء إلى استخدام شعائر وشخصيّات وأساطير ومفاهيم دينيّة إسلاميّة متنوّعة".
الباب الثّاني: الهويّة الغرب والشّعر
الفصل الأوّل: خدوش المرايا والبحث عن الذّات
يشير صالح في هذا الفصل إلى أن المتابع للتيّار التجديدي في الشّعر العربي منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين، تجاوز الأطُر الشكليّة للقصيدة، ليطال أطرًا مجتمعية وفكريّة، وامتدّ ليرسخ رؤية شاملة مغايرة، إذ جاء هذا التيّار الشّعري نتاجًا لحركة تاريخيّة تميّزت بدورها بالصدمات والانكسارات، وتعرّض العالم العربي لمجموعة متلاحقة من المؤثّرات، ولعلّ أبرزها اتّصاله بالغرب (ص151)، وكانت الصّدمة الأولى – بحسب صالح - تكمن مع غزوة نابليون بونابرت (1769-1821) سنة 1798 إلى مصر، ولم يتّضح التأثير الحقيقي للغزو الفرنسي على مصر إلا في ما بعد، وذلك حين أحكم الوالي المصري محمد علي([6]) (1769 – 1849) قبضته على السّلطة، حيث راح يبحث عن سرّ تفوّق الغرب العسكري، وراح يستقدم التقنيّين والخبراء الأوروبيّين، وأقدم على تبنّي نظم التعليم الغربيّة، وإرسال الطلبة العرب في بعثات تعليميّة (ص152).
الفصل الثاني: المؤثّرات الأجنبية في الشّعر العربي الحديث
يرى صالح في هذا الفصل، أن التيّار الشّعري الذي ظهر منذ بدايات النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، تأثّر بنشاط الإرساليّات التبشيريّة المسيحيّة والأدب الغربي، وشرع شعراء هذا التيّار يهملون تدريجيًّا جميع ما غلب على القصيدة التقليديّة من سمات، محاولين تبنّي الأسلوب الشعري البسيط والجديد، وأشكال أكثر تحرُّرًا وموضوعات جديدة (ص 108)، أمام هذا الوضع الجديد ازداد الانتقاد للقصيدة الكلاسيكيّة.
إنّ الحداثة الأوروبيّة نشأت نتيجة التغاير الذي حصل في مختلف ميادين الحياة، ويُعد الشاعر عزرا باوند([7]) من قادة حركة التطوير في الشّعر المعاصر (ص 200).
وقد أدّت مجلة شعر التي أسّسها يوسف الخال، دورًا بارزًا في تعزيز معرفة الشّعراء العرب المعاصرين بالثّقافة الغربيّة، وذلك عبر الترجمات التي كانت تنشرها عبر صفحاتها، كذلك كان للخال – بحسب صالح - دورٌ بارز في ترجمة الكتاب المقدّس إلى ترجمة عربيّة حديثة، وكان الخال قد أنجز قبل وفاته ترجمة جزء كبير من العهد القديم (ص 201).
وقد غدت قصيدة "الأرض الخراب" لـ ت. س. إليوت([8]) "نموذجًا يعكس الاستعانة بالأسطورة للتّعبير عن الجدب والجفاف اللّذين تمثلهما الحضارة الحديثة بالنسبة إلى إليوت. وتعدّ هذه القصيدة من أعظم الأشعار التي كُتبت في الأدب الغربي المعاصر".
1- شعر إليوت والشّعر العربي
أ- بدر شاكر السيّاب، المسيح الإنساني: يظهر تأثير إليوت على الشعراء الشباب في فكرة التضحية التي تحتوي على موت الإله وبحثه مجدّدًا كل ربيع من كلّ عام، وتأثّر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب – بحسب صالح - بأفكار إليوت المسيحيّة، حيث يوظّف النّصّ الإنجيلي ليؤكّد فكرة الانبعاث، ويُلاحظ اتّكاء السياب على رمزي تموز والمسيح في ديوانه "أنشودة المطر" (ص217).
ب- يوسف الخال: فاعلية التكنيك وسقوط اللّغة: إنّ أبرز ما يظهر في تأثير إليوت في ثقافة الخال وشعره تحديدًا – بحسب صالح - هو تقاطع قصيدة الخال بقصيدة إليوت، عبر رّموز: إبراهيم – تموز – أدونيس، والخال استخدم تقنيّة تكاد تكون مطابقة للتقنيّة التي استخدمها إليوت في بنية إيقاع القصيدة (ص 219).
ج- خليل حاوي: النهر الرماد: لم يكن الشّاعر خليل حاوي بمعزل عن روح قصيدة "الأرض الخراب"، وقد تمكّن من أن ينطلق من هذه القصيدة ليتّخذ موقفًا وجوديًّا إنسانيًّا عامًّا (ص227)، "نهر الرماد" التي تُعدّ أبرز أعمال حاوي، يُلاحظ محاكاتها لعنوان "الأرض الخراب" لإليوت.
ويبرز صالح تأثير إليوت بالسياب والخال وحاوي، من خلال نماذج شعرية مختارة.
2- مجلة شعر: بين "صراع الهويّة" وتفعيل حضور الآخر
عاد يوسف الخال نهائيًّا من الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلى بيروت سنة 1955، حاملًا مشروع تأسيس مجلّة تعنى بالشّعر الجديد، واحتفت المجلة بمجموعة من الشعراء العرب، ودعت إلى ترسيخ الشعر العربي الحديث الذي تجلّت فيه فاعليّة الرّموز الدّينيّة والأسطورية.
الباب الثّالث: فاعليّة الرّمز الدّيني المقدّس في الشّعر العربي الحديث
يوضح صالح في هذا الباب أنه يصعب وضع فروقات نهائيّة بين مصطلح الرّمز والنموذج الأصلي والأسطورة، لكن من المؤكّد أنها من الأنواع التي برزت بفاعلية من خلال الصورة الشعريّة في العصر الحديث، وتوظيف هذه الأنواع في بناء القصيدة يعدّ من أعلى مستويات التّعبير الشّعري (ص253).
الفصل الأوّل: خدوش الثّالوث: الأسطورة الصوفيّة – الغرب
لعلّ انفتاح الشّعراء الرومانسيّين على الخطاب الصوفي – بحسب صالح - حصّنهم ضد كل ادّعاء بأنّ انفتاحهم هذا دعوة إلى التّغريب، أو أنها دعوة إلى القطيعة مع الماضي، وقد أسهمت حركة الاستشراق في التعريف بالنّصوص الصوفيّة، فعاد الشّعراء المعاصرون إلى التصوّف من أمكنة نظريّة مختلفة كان لها أثرها في إعادة بنائهم لها (ص259-261).
كذلك، وعى الشّعراء والنقّاد العرب أهميّة الأسطورة في الأدب منذ أوائل القرن العشرين، فوظّفوا أسطورة أدونيس – عشتروت، واتّخذ الافتتان بالأساطير عند الشّاعر العربي المعاصر شكّل الاستحضار والاستيحاء (ص264) ولم يكن اللجوء إلى توظيف الأسطورة بمعزل عن خوف ما يعتري الشّاعر العربي، فيحاول مثلًا السيّاب تبرير لجوئه إلى الخرافة والأسطورة والرّموز بالقول "إن هذا اللّجوء من مظاهر الشّعر الحديث المهمّة".
- اختراق النّظام الشّعري المتوارث
سعى الشعر العربي الحديث، - بحسب صالح- إلى خرق النظام الشّعري المتوارث، ويعلق صالح على صراع الريادة بين العراقيين السيّاب ونازك الملائكة، في التجديد الشعري، فيقلّل من أهمية هذه الإشكالية التي كتب عنها الكثير، قائلًا: لعلّ السّبب في تبنّي الشعراء للشّكل الجديد، يعود لعوامل عدّة، ومن أبرزها ترجمة الشّعر الأجنبي إلى العربيّة (ص270).
الفصل الثاني: الدّين والشّعر العربي الحديث (في فاعلية الحضور والتحوّل)
أ- المسيح وتموز: يطرح كتاب صالح سؤالًا ها هنا: لِمَ كان التّركيز على أسطورة تموز أو أدونيس في الشّعر العربي المعاصر، وطمس رمز المسيح الذي تماهى موته وانبعاثه من بين الأموات مع تموز الأسطورة؟ (ص 316). وعلى الرغم من أنّ الشّاعر العربي الحديث اتّكأ على رمز المسيح، يوضح صالح أنّ دارسي الأدب العربي الحديث وضعوا هذا في خانة الأسطورة، وغضّوا الطّرف عن كون هذا رمزًا دينيًّا يشير إلى المسيح. والفرق بين تموز والمسيح هو أنّ انبعاث تموز يتجدّد مع حركة الفصول، وليس رمز المسيح كذلك، ثمّ إن رمز تموز لا يتّصل بخطيئة أصلية (ص317).
ب- الشّاعر/ المسيح: لكن وعلى الرغم من ذلك، يؤكد صالح أن رمز المسيح بدا من أكثر الرّموز فاعليّة في الشّعر العربي الحديث، وهذه الأهمية جاءت نتيجة عوامل عديدة، أبرزها التقاطع مع الرّمز التموزي، إضافة إلى القيم التي تشير إليها حياة المسيح والفداء بنفسه لأجل مسح الخطيئة الأولى (ص 323).
ج- أبعاد ورموز دينيّة
- الخبز، أو العشاء الأخير([9]): يقول السيّد المسيح: أنا خبز الحياة... والخبز الذي سأعطيه أنا هو جسدي لأجل حياة العالم" (يوحنا 6: 48-51). بدءًا من هذا، يسأل صالح: كيف تناول الشّعر الحديث هذا "الخبز" الذي ارتبط بعوالم محورها الشاعر – الأرض – الآخرون: الحياة الأبديّة (ص335) فيوظّفه السياب مثلًا، في قصيدة "المسيح بعد الصلب" حيث يصبح قلبه الشمس، وهو الأرض. وهذا القلب هو المسيح الذي سيحلّ في كل من يأكل منه ويشرب، لأنه أصبح هو العشاء الأخير الربّاني (ص335).
- الأم (أو مريم العذراء): يتابع صالح المعالجة في تقديم نماذج شعرية مختارة، ليشير إلى أن رمز الأم يمتد في الوعي البشري إلى الأم الأولى: حواء، وإذا كانت التّوراة قدّمت المرأة في كثير من نصوصها بشكل سلبي، فإنها لقيت مع المسيحيّة شيئًا من الإنصاف والعدل، ليأتي القرآن فيرفعها ويكرّمها، ثمّة صور متعدّدة ترمز إلى بعد الأم في سيرة المسيح، وجميعها تؤكّد عودة المسيح إلى الأمّ ليولد ثانية. وهذا ما يبرزه صالح من خلال نماذج شعرية حديثة.
- لعازر: الميّت الحيّ: تشكّل شخصيّة لعازر في الدّين المسيحي مفصلًا بارزًا في حركيّة بدايات هذا الشخص الذي ذهب في الموت قرابة ثلاثة أيّام، وعاد منه حيًّا ليضيف إلى معجزات المسيح بعدًا آخر يلامس الفعل الإلهي (ص348).
أمام هذه المعجزة، يرى صالح أن الشّعر عامّة والعربي منه خاصّة، وقف متأمّلًا، ولا سيّما أن هذه المرحلة من الموت إلى الحياة تتقاطع في بُعدها الرّمزي مع المسيح وتموز، فوظّف الشّعراء العرب هذا الرّمز في شعرهم الحديث، حيث كان يشير إلى الواقع العربي المتداعي تحت وطأة الهزّائم والحكام المستبدّين، واستخدامه يعني السّعي إلى الخروج من هذا الواقع المتردّي إلى الحرّية والحياة (ص348).
- يهوذا: يصعب على الذّاكرة البشريّة أن تذكر يهوذا دون أن تعرّج على خيانته العظمى – بحسب صالح - إذ باع "ابن الله" و"ابن الإنسان" و"ابن الحياة" ببعض دنانير، ولعلّ المشهد اكتسب بُعده الدرامي بالقبلة التي وضعها يهوذا على خدّ المسيح، فالقبلة التي هي رمز من رموز الحبّ، تحوّلت في المشهد الإنجيلي إلى فعل خيانة (ص 356).
هذه الدلالة الأخلاقية دعت الشّعراء لاستدعاء يهوذا من المجال الديني إلى الشعر.
- الماء أو "الشعراء المائيّون": يقول صالح: الماء تطهير وشرط للخصب، ويسأل في كتابه "الشعر والدين": ألم يطهر الله الأرض بالطوفان، ويخلق من الماء كلّ شيء حي؟ لذا يُعدّ الماء من العناصر المقدّسة في الأديان؛ من هنا كانت المعموديّة بالماء بمثابة العودة إلى رحم الأم ليولد المؤمن من جديد، وكانت في الإسلام فعل تطهير قبل الصلاة...
- أنبياء: إن أبرز استخدام للرّموز الدينيّة/التاريخيّة في الشّعر العربي – بحسب صالح - هو استدعاء الشخصيّات، وتلبّسها والحوار معها، مما ينتج نصًّا يتقاطع فيه الشاعر/النبي. يعقد السيّاب مثلًا في قصيدة "سفر أيّوب"، مقارنة في ما عبّر به من ألم ومرض ووجع، وما مرّ به النبي أيّوب في تحمّله البلاء والصّبر عليه، كذلك أدونيس في قصيدة "نوح الجديد" يستعيد الطوفان، إنما بلغة انقلابيّة إذا صحّ التّعبير (ص 372-374).
- خاتمة
قد بدا واضحًا تأثّر النصّ الشعري العربي بالنّصوص الدينيّة المقدّسة قبل الإسلام في العديد من القصائد التي تؤكّد تأثّر واضعيها بالتّوراة أو الإنجيل. هذا، وقد تراجع الشّعر مع بدايات انتشار الإسلام الذي أبدى – بحسب صالح - شيئًا من التحفّظ، فسادت سلطة النّصّ القرآني المقدّس بصورة مطلقة. أما خلال القرون ما بعد العصر العبّاسي، فيمكن القول إنّ حركة الشّعر تجمّدت شكلًا في البحور الخليليّة، إلى أن تعرّض العالم العربي لصدمة اتّصاله بالغرب التي تراوحت ردود فعلها في غير اتجاه (ص 391-392).
إنّ المسيرة التجديديّة للشعر العربي أخذت تشقّ طريقها تحت تأثير الاتّصال المباشر بالثقافة الغربيّة، وأبرز مميّزات التجربة الشعريّة العربيّة هي الخروج عن الذاتيّة، وسعيها للتعبير عن قضايا الإنسان المعاصر، ويرى صالح أن الشّعر العربي الحديث لم يستخدم في بعض نماذجه التي تناولها كتابه "الشعر والدين"، الرّمز الديني المقدّس بشكل عام، بل صهر هذه الرّموز ضمن حدس واع يتوسّد الرؤيا الاستشرافية والاستيعاب النقدي للماضي (ص 394).
ختامًا من الملاحظ إحاطة كتاب الباحث اللبناني كامل صالح، بتوظيف الرّمز الديني، بدءًا من عصر ما قبل الإسلام وصولًا إلى الحداثة الشّعرية العربيّة، ثم توضيح مجمل الرّموز من أبعاد ورموز دينيّة إلى أماكن وإشارات، والتّوصل إلى أن استخدام الرّموز الدينيّة لا يعني أنّ الشّاعر ينطلق من تجربة دينيّة، إنما يتّكئ على ذلك ويفيد من دلالاته المختلفة.
***
* باحثة لبنانية. حائزة شهادة ماجستير في اللغة العربية وآدابها – الجامعة اللبنانية.
* Mariam Mahmoud Srour: Lebanese researcher. Master’s degree in Arabic Language and Literature - Lebanese University.
([1]) كامل فرحان صالح: شاعر وروائي وناقد وأكاديمي لبناني، وُلد في كفرشوبا (قضاء حاصبيا - جنوب لبنان) في العام 1969، وهو بروفيسور في الجامعة اللبنانيّة، وعمل سابقًا في الصّحافة لأكثر من عشرين سنة. له العديد من المؤلّفات النّقديّة، والشّعريّة، والرّوائيّة، فضلًا عن عشرات الأبحاث، والمقالات الأدبيّة والنّقديّة، وحاز الميداليّة الذّهبيّة عن فئة الشّعر في العام 1988 في لبنان، ومن أبرز أعماله الشّعريّة: أحزان مرئيّة (1985) – شوارع داخل الجسد (1991) – كنّاس الكلام (1993) – خذ ساقيك إلى النّبع (2013) – أبجديّة التّجاعيد (2021) – تنهيدة الكامل (2023). وله في الرّواية: جنون الحكاية (1999) – حبّ خارج البرد (2010)، وفي الدّراسة: الشّعر والدّين: فاعليّة الرّمز الدّيني المقدّس في الشّعر العربي (عدة طبعات)، حركيّة الأدب وفاعليّته – في الأنواع والمذاهب الأدبية (عدّة طبعات) – ملامح عن الأدب العالمي (عدّة طبعات) – في منهجيّة البحث العلمي (عدّة طبعات) – مدخل إلى الأدب الوجيز (2022) – أسئلة الشعر العربي الحديث: قضايا ومسارات في النّهضة والحداثة (2023) ...
([2]) أطلق المسيحيون اسم "العهد القديم" على الكتب السابقة للكتاب المقدس، والتوراة أو العهد القديم لفظة عبرية معناها التعليم والهوية وإصابة الهدف.
([3]) أنسي الحاج (1937 – 2014): شاعر لبناني، له عدد من المؤلّفات الشعريّة والنثريّة منها في الشعر: لن – الرأس المقطوع... وفي النثر: خواتم.
([4]) يوسف الخال: شاعر وصاحب مجلة شعر من لبنان، ولد في العام 1917 في سوريا، توفي في العام 1987. أبرز مؤلفاته: البئر المهجورة – الولادة الثّانية – الحداثة في الشعر...
([5]) القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزل بواسطة الملاك جبرائيل على النبي محمد وهو معجزته الكبرى.
([6]) محمد علي: والي مصر (1805-1848) ومؤسس الأسرة العلويّة التي حكمتها حتى 1952.
([7]) عزرا باوند (1885-1972): شاعر وناقد أميركي.
([8]) كتب الشاعر الأميركي ت. س. إليوت "الأرض الخراب" في لوزان حينما سافر إليها للاستشفاء في العام 1921.
([9]) العشاء الأخير: آخر عشاء تناوله يسوع المسيح مع تلاميذه في حجرة في بيت المقدس.
الحداثة (Al Hadatha) – مج. 31 - ع. 231 – ربيع 2024 Spring
ISSN: 2790-1785
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق