♦ هشام شامل زين الدين *
أحدثت تداعيات فايروس كورونا على الفنون عمومًا والمسرح خصوصًا تحولًا دراماتيكيًا في أسلوب التواصل بين المسرحي وجمهوره، وانعكس ذلك على مفهوم الفن المسرحي ودوره ووظيفته وطرائق عرضه وتلقيه، مما أوقع العديد من المسرحيين في حيرة من أمرهم: هل يستسلمون للتغيير المفروض عليهم بقوة الفيروس أم ينتظرون إلى حين زواله ويعودون إلى خشباتهم وجمهورهم؟
انطلقت فكرة وجود "الجدار الخامس" في المسرح من الأزمة المستجدة والضياع الذي أحدثته بيننا كمسرحيين، هذا الجدار الذي فُرض علينا وبات حاضرًا في يومياتنا وفي أنشطتنا المسرحية "الالكترونية" كافة.
فلماذا تسميته بـ"الجدار الخامس"؟
منذ منتصف القرن العشرين بدأت جهود المنظرين والعاملين في المسرح العالمي وخصوصًا الأوروبي، لتحطيم "الجدار الرابع" الذي يفصل بين خشبة المسرح وصالة الجمهور والذي كان يمنع حدوث التفاعل الفكري بين العرض والمتلقي، لأن المسرح التقليدي قام خلال قرون طويلة، على مبدأ الايهام المسرحي.
إن طرح فكرة وجود "الجدار الخامس" في المسرح اليوم، تستوجب التوقف عندها، وبدء التفكير بكيفية هدمه والتخلص منه تمامًا، كما أفرزت التجارب الحداثية والطليعية في مسرح القرن العشرين أفكارًا وممارسات عملية أدت إلى هدم الجدار الرابع والخروج من زمن الكلاسيكية والتقليد إلى زمن التجديد والحداثة في المسرح العالمي على أيدي الروسي ميير خولد (Vsevolod Meyerhold/ 1874– 1940)، والألماني بريخت (Brecht/ 1898– 1956) والبولندي غروتوفسكي (Grotowski/ 1933– 1999) والكثيرين غيرهم.
إن مصطلح "الجدار الخامس" (التكنولوجي) في المسرح جديد، ولا يوجد توصيف نظري له بعد، وهو يتمحور حول مسألة التحدي الذي سنواجهه في المستقبل والمتعلق بضرورة هدم هذا الجدار في المسرح، الجدار الإلكتروني الذي هبط على المسرحيين كالقدر، وهو يمثل اليوم مشكلة وجودية على الرغم من محاولات بعض المسرحيين التكيف معه كواقع مفروض علينا نتيجة لتفشي وباء كورونا.
إن "الجدار الخامس" المتمثل بالأجهزة الالكترونية وشاشاتها الزجاجية الذكية (الكمبيوتر، اللابتوب، التلفون، الالواح الالكترونية...) التي نشاهد من خلالها المسرح الافتراضي، هو أخطر على عملية التلقي وعلى جماليات العرض المسرحي وعلى جدلية التأثر والتأثير الفكري والحسي في المسرح من الجدار الرابع الوهمي الذي كان يفصل بين المشاهد والممثل على الخشبة في القرون الماضية.
إن هذا الجدار الجديد أشد خطورة، لأنه يقضي على مبرر وجود المسرح في الحياة، أي الشعور الحي التفاعلي بين كائنات حية تجهد جماليًا وفكريًا وجسديًا من أجل تبادل شيفرات وعلامات وحركات وأصوات وكلمات وأحاسيس إنسانية بالدرجة الأولى كانت موجودة قبل التكنولوجيا وستبقى بعدها.
إن الرضوخ والقبول بوجود الجدار الخامس هو بمثابة اطلاق رصاصة الرحمة على المسرح الحي، وكما كسّر طليعيو المسرح في القرن العشرين الجدار الرابع وهدّموه، علينا أن نتصدى بكل امكاناتنا الفكرية والجمالية والجسدية والنضالية حتى، كي نمنع هذا الجدار من الترسخ والتشبت بخشبة المسرح كجزء أساسي منها في المستقبل.
أطلق هذه العبارة أو هذا المصطلح "الجدار الخامس" في المسرح للتنبيه من خطورته، وأنا لا أملك أجوبة عن تساؤلاتي حوله، ولا أعرف إذا كنا في السنوات المقبلة سنتمكن من الانتصار للمسرح الإنساني الحي الشفاف الصادق العفوي، والابقاء عليه من دون أي حواجز إلكترونية وغيرها، ولا أستطيع التكهن بمفاجآت التطور التكنولوجي، هذا "الوحش الجميل" الذي يجتاحنا بذكائه الاصطناعي بسرعة هائلة، وأدعو عبر افتتاحية "مجلة الحداثة اللبنانية" مجددًا،** كل المسرحيين في لبنان والعالم، إلى هذه المقاومة، وسلاحنا في هذه المعركة بسيط جدًا؛ الخشبة والصالة والجمهور، ورفض عرض الأعمال المسرحية على الشاشات الإلكترونية، ورفض تحويلها الى فن آخر يستمد حضوره من الكاميرا والشاشة والكهرباء، لأن ذلك سيشكل بداية مرحلة الانقراض للفن المسرحي آخر الفنون الحيّة التي لا تزال تعتمد بشكل أساس على النبض الإنساني والشعور والتفاعل الحي.
***
* بروفيسور في الجامعة اللبنانية (رئيس الفرقة البحثية في الفنون البصرية). باحث ومؤلف ومخرج مسرحي
** كنت قد طرحت مصطلح "الجدار الخامس في المسرح" في بحث لي قدمته في ندوة افتراضية بمناسبة اليوم العالمي للمسرح ضمن فعالية لـ"ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي" – آذار (مارس) 2021
هناك تعليق واحد:
كل التوفيق والنجاح����
إرسال تعليق