♦ فارس ديب حنّا *
- نبذة عن البحث
يُعرّف هذا البحث الصدق والكذب، استنادًا إلى معاجم المصطلحات، ثمّ يُبيّن نظرة كلّ من العرب واللبنانيين إلى هذين المفهومين الأخلاقيّين المتناقضين، بالاستناد إلى كثرة من أمثالهم، حارصًا على تخريج كلّ مثل من مصادر الأمثال العربيّة واللبنانيّة الكثيرة، مشيرًا إلى ما ضرب به العرب المثل في كلّ من الصدق والكذب، مستخلصًا أنه لا تناقض بين أمثال العرب وأمثال اللبنانيين فيهما، بل تكامل وتوافق.
- الكلمات المفاتيح: الصدق، الكذب، المثل، الفضيلة، الرذيلة
***
1- تعريف الصّدق:
قال أبو البقاء الكفويّ (1094ه/ 1683م): "الصّدق إخبار عن المخْبَر به على ما عليه، مع العلم بأنّه كذلك"([i])، أو "هو أن يكون الحكم لشيء على شيء إثباتًا أو نفيًّا مطابقًا لما في نفس الأمر"([ii]).
2- الصِّدق في الأمثال العربيّة:
مدَح العربُ الصّدق، ودعوا، في أمثالهم إلى الالتزام به، قالوا: "سُبَّني واصْدُق"([iii])، أي: لا أبالي أن تسبَّني وتكون صادقًا. ووصفوا الصدق بأنّه:
- عِزّ، قالوا: "الصّدْق عِزّ، والكذب خضوع"([iv]).
- مَنْجاة. قالوا: "الصّدق منجاة"([v])، و"الصِّدق يُنجي، والكذب يُشجي"([vi])، و"مَنْ صدَقَ الله نجا"([vii])، و"إنْ كذِبٌ نَجّى، فصِدقٌ أخْلَق"([viii]).
- شفاء. قالوا: "الكذب داء، والصِّدْق شِفاء"([ix])، وذلك أنّ الصادق يعمل على تقديرٍ يكون فيه مُصيبًا، والكذّاب يعمل ضدّ ذلك.
- في مرتبة سامية بين المهابة والمحبّة. قالوا: "الصّدق بين المهابة والمحبّة"([x]).
- الناطق عن حقيقة أمر الإنسان لا الوعيد. قالوا: "الصِّدْق (أو صدقك) ينبئ عنك لا الوعيد"([xi])، أي: إنّما يُنبئ عدوَّك عنك أن تصدقه في المحاربة وغيرها، لا أن تهدِّده دون تنفيذ تهديدك.
وقالوا في تصديق الرجل صاحبه عند إخباره إيّاه: "صدَقَني (أو صدَقَك) سِنُّ بَكْرِه"([xii])، و"صَدَقَك (أو صدَقَني) وسْمَ قِدْحه"([xiii])، و"صَدَقَني قُحاح (أو قُحّ) أمره"([xiv])، أي: صدقني صِحَّة أمره وخالصه.
وبحسبان الصدق عند العرب عزًّا، ومنجاة، وشفاء، وفي مرتبة سامية بين المهابة والمحبّة، فإنّ الصادق، عندهم، عزيز الجانب، ومهيب، ومحبوب، وفي مأمن المخاطر والأمراض، وهو، بالإضافة إلى ذلك، قويّ الحجّة صادقها. قالوا: "مَنْ صَدَقَتْ لهجتُه، صدقت حجّته"([xv]).
وبالرغم من مدحهم للصدق والصادق، رأى العرب أنّ "الصّدق في بعض الأمور عجْز"([xvi]).
3- مَنْ ضرَبَ العرب المثل بهم في الصدق:
مِمّن ضرب العرب بهم الأمثال في الصدق:
- أبو ذرّ الغفاريّ ([xvii])، وهو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن بني غفار (...- 32ه/...- 652م): من كِبار الصّحابة ([xviii]).
- حَذام، قالوا: "القولُ ما قالتْ حَذامِ"([xix]). وهي حذام بنت الريّان بن جسر بن تميم، عرفت من أسراب القطا أنّ أعداء قومها يسيرون ليلاً نحوهم، فخرجت تقول (من الوافر):
ألا يا قومَنا ارتحِلوا وسيروا فَلَوْ تُرِكَ القطا لَيْلاً، لناما
فقال ديسم بن ظالم الأعصري (من الوافر):
إذا قالتْ حَذامِ، فصَدِّقوها فإنَّ القولَ ما قالَتْ حَذامِ ([xx])
فارتحل قومها، واعتصموا بالجبل، فيئس أعداؤهم من الإيقاع بهم، فرجعوا عنهم ([xxi]).
- الرائد: قالوا: "لا يكذبُ الرائدُ أهْلَه"([xxii])، و"الرائد لا يكذب أهله"([xxiii])، وهو الّذي يقدِّمونه؛ ليرتاد لهم كلأً، أو منزلاً، أو موضع حِرْزٍ، يلجأون إليه من عدوّ يطلبهم، فإن كذِبَهم، أو غرَّهم، أهلكهم. قالوا: "إذا كذب الرائد، هلك الوارد"([xxiv]).
- القطاة ([xxv])، وهي نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، ويتّخذ أفحوصه في الأرض، ويطير جماعات، ويقطع مسافات شاسعة ([xxvi]). وللقطاة صوت لا تغيِّره، وصوتها حكاية لاسمها، تقول: قَطا قَطا؛ ولذلك تسمّيها العرب: الصَّدوق ([xxvii]). وقالوا: "أنْسب من قطاة"([xxviii]).
كذلك ضربوا المثل في صدق حِسّ الأعراب، فقالوا: "أصدق حِسًّا من الأعراب"([xxix])، وبظنّ الألمعيّ ([xxx])، فقالوا: "أصْدَقُ ظنًّا من الألمعيّ"([xxxi]). قال أوس بن حجر (2 ق.ه/ 620م) (من المنسرح):
الألْمَعيُّ الّذي يظنُّ بكَ الـ ـظَنَّ كأنْ قَدْ رأى وقدْ سَمِعا ([xxxii])
- وعد إسماعيل ([xxxiii])، وذلك لأنّ الله تعالى أثنى عليه بصدق الوعد، فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا﴾([xxxiv]).
(...)
***
* باحث من لبنان. حائز شهادة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية
[i]- الكلّيّات 3/ 109.
[ii]- م. ن.، 3/ 110.
[iii]- جمهرة الأمثال 1/ 509؛ وزهر الأكم 3/ 159؛ والعقد الفريد 3/ 82؛ ومجمع الأمثال 1/ 342؛ والمستقصى 2/ 115.
[iv]- فصل المقال، ص 36؛ ومجمَع الأمثال 1/ 408؛ والمستقصى 1/ 327.
[v]- الفاخر، ص 264.
[vi]- التمثيل والمحاضرة، ص 243.
[vii]- العقد الفريد 3/ 82؛ وفصل المقال، ص 27؛ ومجمع الأمثال 2/ 296.
[viii]- مجمع الأمثال 1/ 69. أخلق: أجدر بالتنجية.
[ix]- العقد الفريد 3/ 82؛ وفصل المقال، ص 37؛ ومجمع الأمثال 2/ 166.
[x]- التمثيل والمحاضرة، ص 243.
[xi]- جمهرة الأمثال 1/ 578؛ وزهر الأكم 3/ 251؛ والعقد الفريد 1/ 50، 3/ 119؛ وفصل المقال، ص 448؛ ومجمع الأمثال 1/ 398، 422؛ والمستقصى 1/ 328.
[xii]- جمهرة الأمثال 1/ 575؛ وزهر الأكم 3/ 250؛ والعقد الفريد 3/ 83؛ وفصل المقال، ص 40، 41؛ ولسان العرب 10/193، مادّة (صدق)، 13/ 228، مادّة (سنن)، ومجمع الأمثال 1/ 392، 398؛ والمستقصى 2/ 140. والبكر: الفتيّ من الإبل. وأصل المثل أنّ رجلاً ساومَ آخر في بكر. فقال: ما سِنُّه؟ فقال صاحبه: بازِل (هو الّذي طلعت نابه، ويكون ذلك في السنة الثامنة أو التاسعة). ثمّ نَفَر البكر، فقال له صاحبه: هِدَعْ هِدَعْ، وهذه لفظة يُسَكَّن بها الصِّغار من الإبل. فلمّا سمع المشتري هذه الكلمة، قال هذا القول. يريد أنّه صَدَقَ في سنّه، لـمّا دعاه بتلك الكلمة، وقد كان كاذبًا.
[xiii]- لسان العرب 2/ 555، مادّة (قدح)؛ ومجمع الأمثال 1/ 398؛ والمستقصى 2/ 140. وسْم القِدْح: العلامة التي عليه تدلّ على نصيبه.
[xiv]- مجمع الأمثال 1/ 405.
[xv]- التمثيل والمحاضرة، ص 243.
[xvi]- مجمع الأمثال 1/ 408.
[xvii]- ثمار القلوب، ص 87؛ والعقد الفريد 3/ 70.
[xviii]- الإصابة في تمييز الصحابة 7/60؛ والأعلام 2/ 140.
[xix]- جمهرة الأمثال 2/ 116؛ وخزانة الأدب 10/97؛ والعقد الفريد 3/83؛ وفصل المقال، ص 41؛ ولسان العرب 12/199، مادّة (حذم)؛ ومجمع الأمثال 2/ 106، 175؛ والمستقصى 1/ 340.
[xx]- البيت له في جمهرة الأمثال 2/ 116؛ والعقد الفريد 3/ 83؛ وفصل المقال، ص 4؛ ولسان العرب 12/ 119؛ ومجمع الأمثال 2/ 106؛ ولديسم بن طارق في مجمع الأمثال 2/ 175؛ وللجيم أو لدميس بن ظالم الأعصري في المستقصى 1/ 340.
[xxi]- انظر مصادر المثل المتقدّمة.
[xxii]- العقد الفريد 3/ 82؛ وفصل المقال، ص 37؛ ومجمع الأمثال 2/ 233؛ والمستقصى 2/ 274.
[xxiii]- جمهرة الأمثال 1/ 474؛ والحيوان 4/ 8؛ ولسان العرب 3/ 187، مادّة (رود).
[xxiv]- محاضرات الأدباء 1/ 122. والمعنى: إذا كذب الرائد على الورّاد من قومه بإنزالهم في مكان جديب، يتسبّب في هلاكهم.
[xxv]- الألفاظ الكتابية، ص 281؛ وثمار القلوب، ص 482؛ وجمهرة الأمثال 1/ 584؛ والحيوان 5/ 573، 7/ 10؛ والدرّة الفاخرة 1/ 265، 2/ 446؛ وزهر الأكم 3/ 251؛ ولسان العرب 2/ 388ـ مادّة (هدج)، 15/ 189، مادّة (قطا)؛ ومجمع الأمثال 1/ 412؛ والمستقصى 1/ 206.
[xxvi]- المعجم الوسيط، مادّة (قطا).
[xxvii]- مجمع الأمثال 1/ 412.
[xxviii]- ثمار القلوب، ص 482؛ وجمهرة الأمثال 2/ 319؛ والدرّة الفاخرة 1/ 265، 2/ 402؛ ومجمع الأمثال 1/ 412، 2/ 347؛ والمستقصى 1/ 391. وأنسب: من النسبة؛ لأنّها إذا صوّتت، عُرفت.
[xxix]- خزانة الأدب 11/ 184.
[xxx]- الألمعي: الذكيّ المتوقّد الذهن الصادق الفِراسة (المعجم الوسيط، مادّة (لمع)).
[xxxi]- جمهرة الأمثال 1/ 584؛ والدرة الفاخرة 1/ 266؛ ومجمع الأمثال 1/ 412؛ والمستقصى 1/ 205.
[xxxii]- البيت له في ديوانه، ص 53؛ ومجمع الأمثال 1/ 412؛ والمستقصى 1/ 205.
[xxxiii]- ثمار القلوب، ص 45. وإسماعيل هو ابن إبراهيم الخليل من هاجر المصريّة. من نسله العرب المستعربة، أو عرب الشمال بنو عدنان. يعدّه المسلمون من الأنبياء (المنجد الكبير في الأعلام، ص 85).
[xxxiv]- مريم 19: 54.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق