♦ ناصر حسن عليق *
- نبذة عن البحث
يعدّ الشاعر والفيلسوف العربي أبو العلاء المعري** (973 - 1057م) ظاهرة طبيعية من حيث مفهوم قانون التطور في مجتمع الفكر والثقافة، وإذا حاولنا مقارنته بإنسان عصره من رجل الدين ورجل السياسة والسلوك أيضًا، نجده مُغايرًا مُتميزًا عنهم، رافضًا طقوسهم، ناقمًا على آرائهم، وهنا تكمن ثوريته، وبالتالي تخطيه لزمنه ومجتمعه.
تعامل أبو العلاء المعري مع نفسه بتقنية عالية جدًا، تقنية مُغايرة لما يلتمسه أهل الفكر والثقافة الذين يملكون ما لا يملكه من نعم إلهية في الشكل، لكن تميّز عنهم في نعمة البصيرة، من هنا لقب نفسه بـ"رهين المحبسين" للزومه بيته وفقدان بصره، ثم لمّا أمعن في البحث عن أسرار الحياة، وأنفذ أشعة عقله إلى أعماقها، أضاف إليهما سجنًا ثالثًا وهو حبس الروح في الجسد، فأصبح في ثلاثة سجون مستشهدًا بقول له:
أراني في الثلاثة من سجونيفلا تسأل عن الخبر النبيثلفقدي ناظري ولزوم بيتيوكون النَفس في الجسدِ الخبيث (1)
من خلال هذه النعمة استطاع المعري قراءة الوجود الذي بدا له بالنظر التأملي الثاقب، سخيفًا ورائعًا في آن: سخيفًا عندما ينقلب الفاشل بطلًا في غفلة الزمن؛ سخيفًا حين يزيّف الحكّام وظيفتهم ومسؤولياتهم، فينقلبون حكّامًا متسلطون على الشعب بدل من أن يكونوا في خدمته؛ سخيفًا عندما يرى رجل الدين يعيش على حساب الرعية يحمل أوزاره وعقده متخذًا الدين مطية حتى يصل بالعامة مرحلة الشّك بالدين نفسه؛ ورائعًا عندما يحضر العقل رافضًا كل هذا ومتحررًا من كل هذا، لينقلب إنسان هذا العقل نموذجًا مغايرًا لغيره من البشر؛ رائعًا لحظة يشعر أنه قادر على التعبير بحرية، على التغيير.
هذا المنهج الذي تميّز به المعري يحاكي مواقف الفيلسوف والحكيم اليوناني سقراط (Socrates)، وهو يقارع ويناقش السفسطائيين (The sophists) بمنطق ودليل وبرهان. ومنهج المعري يصل به إلى الوجود الموجود، إلى الغيب والمصير، وما وراء الحجب، هو السّر والعالم الأكبر.
كان المعري من دعاة العقل، مُبشّرًا بإمامته ونبوته، في عصر فُقدت فيه القيم وشوّهت الحقائق، واستبعد العقل، وساد التقليد والإرتهان. لكن ما نراه حقيقة أن المعري يقع أحيانًا في التناقض؛ ففي الوقت الذي يناشد العقل ضد العقائد الدينية في بعض المقاطع في اللزوميات***، فإننا نراه في مقاطع أخرى يظهر عجز العقل وشلله كي يُسلّم أمره إلى الله.
أصبح المعري برأي البعض مرتابًا، ولدى البعض الآخر عقلانيًّا؛ فمنهم من نعته بالتقيّ وحسن العقيدة، ومنهم من حكم عليه بالكفر والإلحاد، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه من الدين والإسلام، وحرّفوا كلامه عن مواضعه.
وأكثر من ذلك نجد بعض الباحثين يتجنون على أبي العلاء المعري فيسلبونه حقّه في لقب فيلسوف، لأن فلسفته لم تكن تخلو من الخيال والعاطفة، وقبله الفيلسوف اليوناني أفلاطون (Plato) لم تكن فلسفته تخلو من الخيال والعاطفة والأسطورة. مما جعل تلميذه أرسطو (Aristotle) يشنّ عليه حربًا لا هوادة فيها، لكنه برغم ذلك لم ينزع عنه صفة الفلسفة.
هكذا يبدو المعري ثائرًا لا بوجه البشر بل بشّر هذا الوجود، ثورته إذًا ليست على الواقع في الأرض، ولا على أرض الواقع، بل على المجهول من أمر هذا الواقع.
انطلاقًا من هذه المعطيات برز اسم المعري الذي خرج على مألوف الشعر، والنثر، شكلًا ومضمونًا، ولم يُعن بالأغراض الشعرية المتداولة، بل اتخذ لنفسه مسارًا آخر غرّد خارج سربه، استمع لذاته، وألزم نفسه الابتعاد من الملذات، وكل ما يطلبه البشر من المال والشهرة، فعمل على التحصيل العلمي والثقافي في بداية حياته، ومن ثم اجتهد في التدريس والبحث من ثنايا وجدانه وإحساسه وفكره، وأبدع شعرًا وقضايا مثيرة للجدل ضمت آراءه وأفكاره ومعتقداته ونظرته إلى الدنيا، إلى الوجود والكون، إلى الإنسان، إلى الحياة والموت.
كان شعره متفلسفًا، فمن خلال وصفه للعالم والبشر وما يسودهما من فساد وغدر، ومن خلال نقده الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية، عبر من الماضي ليعبّر عن الحاضر. وبدا متشائمًا أشدّ التشاؤم، زاهدًا إلى أبعد الحدود، ناقمًا على الدنيا، وعلى أبنائها، مُشككًا حينًا. وفي معظم الأحيان، بدا مؤمنًا أشدّ الإيمان يقف مُستغفرًا تائبًا إلى ربّه، وأن إيمانه قائم على المعرفة العقلية، والثقة التامة بالله، إيمان بالذات الإلهية، وبأن العقل هو غرسة تثبت في الإنسان، لكن وجب على الإنسان أن يرويها وأن يحسن الاهتمام بها، ولا يخلط معها أي شيء.
هكذا كانت مآثر المعري الفكرية والفلسفية شعرًا ونثرًا، تلامس عناوين بل تحاكي وتبحث في عناوين لطالما بحثها فلاسفة من الأغريق حتى يومنا هذا، وعلى سبيل المثال لا الحصر: الوجود والله والإنسان، وما كتبه المعري في تلك العناوين وغيرها، كان مستغرقًا في المنظومة الفلسفية بشكل واضح من خلال مناحٍ فلسفية تشير إلى مضمونها الذي دفعني لأسلط الأضواء على هذا الجانب من نتاج المعري الفكري الفلسفي الذي لم يكن فلسفة وجودية كاملة، ولا متماسكة كغيره من الفلاسفة الوجوديين أمثال الفرنسي جان بول سارتر (Jean-Paul Charles) والألماني كارل ياسبرز (Karl Jaspers) وغيرهما.
لكن وبرغم ذلك، يمكن أن يؤسس على تلك المناحي الفلسفية بغية بحثها وقراءتها وتحليلها. وبالتالي لا بُدّ من أشكلة المباني الوجودية في فلسفة المعري وهي:
· هل قارب المعري بما قدّمه من شعر ونثر وفكر روح الفلسفة الوجودية؟
· هل استطاع أن يُثبت المنحى الوجودي من خلال نصوصه وأفكاره؟
· هل كانت تصورات المعري وتقديراته حول مفهوم الله عز وجل مصداقًا ثابتًا أم متحركًا؟
استكمالًا لخطوات البحث لا بُدّ من تحديد المنهج المعتمد وهو المنهج التحليلي الذي أحاول من خلاله تحليل مضمون العناوين التي أركز عليها للوصول إلى النتائج المرجوة.
من هنا يكون البحث في الوجود والله والإنسان من وجهة نظر المعري، حيث وبعد الدراسة والتحليل، أقف إلى ما وصل إليه على المستوى المعرفي والفلسفي.