♦ فرحان صالح *
تفنن الفراعنة في بناء المعابد، وكانت تجربتهم هي خلاصة الموروثات الدينية التي تواصلت وتناسخت عبر التاريخ، كذلك تكاملت هذه التجربة الحضارية الفرعونية مع تجربة وادي الرافدين، وإن تأخرت هذه التجربة الحضارية عن مثيلتها المصرية لعوامل طبيعية معينة.
لقد تميزت جغرافية التربة البابلية بمواصفات لم تعرفها التربة المصرية، فتربة بابل لم تكن أراضيها مهيئة لسد حاجات السكان من المواد الزراعية. كان ذلك بسبب كثرة المستنقعات في سهول بابل التي تأخر جفافها إلى عدة قرون، وهذا ما دفع المؤرخين إلى القول بأسبقية الحضارة المصرية عن مثيلتها العراقية؛ فوادي النيل عرف نهضة زراعية مبكرة، حيث توفرت الحاجات من المواد الزراعية على تنوعها، كذلك الأخشاب والصخور والنحاس ونبات البابيروس الذي صُنعت أوراق البردى منه. كل هذا التطور ساعد على نشوء المدن في مصر، خاصة حول مياه النيل. أما في العراق فقد تنوعت الأجناس البشرية التي كانت تأتي من أماكن متعدده. في حين أن مصر لم تكن تعرف هذه الظاهره سوى في فترات متأخرة.
لقد ساعد كل ذلك مصر على إدارة شؤونها بنفسها، كذلك سهل وحدتها السياسية التي كان نشوء المدن من أبرز معالمها، في حين إن هذا التطور لم تعرفه الطبيعة الجغرافية لوادي الرافدين، ما أدى إلى تأخر حضورها الحضاري عن مصر لمئات السنين. ففي مصر كذلك في العراق، كانت قد فاضت مياه النيل، ومياه دجلة والفرات، وإن كان ذلك قد حصل مبكرًا في مصر، ومتأخرًا في العراق كما يرى علماء الجيولوجيه. وهذا ما حوّل أراضي كل منهما إلى مستنقعات، ومن بعد جفاف المياه الذي استمر لعقود من الزمن، نمت الأعشاب واُستثمرت الأرض بزراعتها وتشجيرها ما ساعد مصر، قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد على الاستقرار، وتمتع مجتمعها بالوحدة والسلام، بعكس بابل التي تأخر جفاف المستنقعات لعدة قرون، وأدى إلى التأخر في استغلال بيئتها زراعيًّا، فضلاً عمّا عانته بلاد الرافدين من الحروب الأهلية والغزوات الخارجية.
في هذين البلدين قامت أقدم وأرقى الحضارات التي استندت عليها جميع الحضارات القديمة؛ فمن مصر أخذ الإغريق علم الهندسة والتشريع والفلسفة وفكرة نشوء الزمن، ومن الفينيقيين أخذوا الأبجدية، ومن بلاد الرافدين علم الفلك... فكانت الإمبراطورية المصرية تمتد من النوبة حتى كركميش (جرابلس) والأمبراطورية الأشورية تمتد من بلاد فارس حتى وادي النيل.
- آلهة الكعبات المقدسة
انتشرت المعطيات الحضارية القديمة لمصر والعراق في غير مكان؛ فالأديان في أول نشأتها، اهتمت بنشر قوانين الأدب والأخلاق، وهدف تلك القوانين والنواميس تطويع الإنسان وتدجينه والعمل عل تكيفه ظاهريًّا أمام إله أعلى، وعمليًّا استلاب حريته، وخضوعه لزعيم القبيلة أو غيره من زعماء. ففي الجزيرة العربية، قلّدت القبائل المنتشرة هناك هاتين التجربتين المتشابهتين في الشكل والمضمون، وإن كانت كل منهما قد رسمت صورًا للقبة السماوية ذات الأسقف المتحركة والشبيهة بخريطة السماء الفلكية المتغيرة... لقد انتقلت هذه الرسوم عبر القبائل إلى الجزيرة وغيرها، حاملة اعتقادًا من أن ما أوجدوه على الأرض هو ذاته المتشابه مع ما عليه ببيوت الآلهة في السماء، فبنوا على الأرض ما اعتقدوا أنه في السماء. هذا النسق المفتوح على الجهات الأربع، كان الهدف من بنائه رصد الأجرام السماوية ومراقبتها.
لقد انتشرت هذه البيوت التي سميت في الجزيرة العربية بـ"الكعبات" تلك البيوت التي انتشرت قبل القرن السابع الميلادي، وكانت كعبة مكة التي قيل إن النبي إبراهيم هو من بناها، نموذجًا لما رسمته واحتوته ديانات عصرها، أي نحو ثلاثمائة وخمس وستين تمثالا ورمزًا دينيًّا، وكانت في شكلها، قريبة عمّا هي عليه بيوت الآلهة في المشرق، لكنها متميزة عمّا هي عليه في مصر.
احتوت كعبة مكة على تماثيل للنبي إبراهيم، والمسيح والعذراء، أيضًا لللآت والعزى ومناة وغير ذلك من رموز دينية معروفة ومنتشرة في ذاك الزمن. وكانت الرموز المسيحية الأكثر حضورًا وانتشارًا، بسبب أن مكة بالإضافة لنجران كانتا من أبرز المدن التي انتشرت فيها الديانة المسيحية.
مثّلت هذه الكعبات مركز جذب وتجمع قبلي ديني، وإن كانت في أصولها الأولى تدار من آلهة من النسوة. وكانت الفرق المنتشرة التي تدين بالعقيدتين اليهودية والمسيحية ذات سطوة وحضور في الجزيرة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تمجيد الشعراء المسيحيين للعذراء والمسيح، كذلك تمجيدهم اللات والعزة ومناة وغيرها من معبودات تجسدت رموزها في هذه الكعبات التي كانت أمكنة لرموز دينية تمثل تعددية المعتقدات القبلية، وبالتالي الروح الإلهية التي تعبدها وتدين بها قبائل الجزيرة العربية واليمن، ومن أبرز هذه الكعبات:
- كعبة مأرب، وهي الأشهر، كان لها أبواب تفتح وتغلق في مواعيد معينة.
- كعبة "ذي الشري" عرفت في مدينة البطراء، وكان يقدسها العرب.
- كعبة بُني في ساحتها تمثالان لأسدين من البرونز، يمتطيهما طفلان.
- كعبة نجران التي أسسها مسيحيون، تمت تسميتها باسم الربّة.
كما وجدت كعبة سميت باسم العزى وأخرى باسم الشامية وغمدان، وغيرها العشرات من الكعبات التي انتشرت في أمكنة مختلفة، وكان لكل قبيلة أو أكثر، كعبة تجتمع وتتحاور فيها مع إلهها الحامي لها.
حملت هذه المعتقدات بتنوعها، إيمانًا بإله يذوب بالوجود الكوني، ولا انفصام بينه وبين موجودات هذا الكون، فكل ما في هذا الكون محض تجليات لهذا الإله. لذا عبرت هذه الكعبات بما احتوته، على هذا الشعور المعتقدي المنتشر في حضارتي مصر ووادي الرافدين.
الله كيان متدفق ومتغير، وقد عبرت عن ذلك تلك التنوعات المنتشرة في هذه الكعبات، أي 365 رمزًا وتمثالًا، هذه التي كانت متصالحة مع إلهها ومع ما تؤمن به وتعتقده، فالمعتقد الديني القديم، ورث ما بنته شراكة أمّنا حواء وأبينا آدم في رؤيتيهما لكيفية بناء عالمهما. حصل ذلك بعد انفصالهما عن العالم الحيواني الأول. لقد تغلبت في البدء، المساحة الأنثوية على ما عداها، ومن ثم بعد تدجين آدم من قبل حواء واستقرارهما معًا، برزت النزعة العقدية التي تصالحت مع تقدم الزمن مع إله، تساوت فيه المساحة الأنثويه مع المساحة الذكورية. فتصالحت بهذه المصالحة الكائنات جميعها، وعبرت عن هذه المصالحة "الكعبات" التي لم يميز المشرفون عليها، بين موجودات الطبيعة من ذكر وأنثى، أو شجرة وطير وحيوان وغير ذلك من كائنات.
لقد وجدت في تلك الكعبات كل الرموز التي تمت عباداتها والتي تمثل كل موجودات الطبيعة؛ فاللات مثلًا رمزت للبعض، بالشمس، وكان التجلي الأول لفكرة الإله بطبعته الأولى، وكانت أيضًا التجلي الأول لفكرة الإلهة الأنثوية، فتعبير الله ذاته انبثق من اسم اللات، والله ذاته في طبعته الأولى كان ابنًا للات، إلا أنه عندما كبرت مكانته أصبح زوجًا لها. هذا هو الاعتقاد الأول، لقد كانت الآلهة الأولى القديمة جميعها من النساء الناطقات باسم الغيب. وعرف منها في وقت متأخر: الزبّاء والكاهنة وسلمى الهمدانية وسجاح وغيرهن الكثيرات.
وكانت كعبة الله بمكة أيضّا بالطائف ونجران، عنوانًا لتلك العبادات التي انتشرت في معظمها في نهاية العصر المطريركي واستمرت حتى ظهور المشروع المحمدي. لقد سمي الصبح على سبيل المثال، ابنًا للات، لأنه من ضوئها، وسُمي الحجر الأسود الذي يتدافع المسلمون على لمسه، بالحجر المقدس، حيث ارتبط اسمه باللات وقُدّس اعتقادًا بأنه سقط من السماء... السماء التي كان ينظر إليها أنها جدار صلب يحبس الماء الذي يتدفق ويغمر السماء والأرض. لقد عُدّ الحجر الأسود بأنه مساحة سقطت من السماء على الأرض، ومن هنا جاءت قداسته.
تعممت عبادة اللات، لكن عندما جاء محمد بمشروعه الديني، أمر بهدم كعبة اللات، مع أنه حينما حطّم الأصنام الموجودة في مكة، احتفظ بتمثالي السيدة مريم وعيسى المسيح، والملاحظ أنه بعد تدمير كعبة اللات (أم الإلهة) أخذت النذور منها وهي أكداس من الذهب والفضة وغير ذلك، وأمر محمد باعطائها إلى أبي سفيان بن حرب. هذا ولم تكن صورة العزى ومناة وغيرهما أقل مكانة وحضور من اللات، بل كانت لكل واحدة منها مكانتها عند القبيلة التي تعتقد بمعجزاتها؛ فللعزى تمثالان عظيمان من ذهب، وكان يطوف حولهما المريدون، وخصصت لها مساحة واسعة من الحمى الأرض، أي الحرم المقدس، حيث حرم فيها الصيد والاعتداء. وهكذا بالنسبة إلى الكعبات الأخرى، وكان الحرم مساحة يجتمع فيها المتخاصمون من القبائل للحوار والتفاهم.
شكلت كل من هذه المعبودات مساحة من مساحات الأنوثة الكونية. وكانت قبائل قريش وكنانة وغيرهما تعظم العزى التي انتشرت عباداتها في بصرى الشام، وفسّر بعض المستشرقين هذه الظاهرة، بأن اللات والعزى كانتا ترمزان عند الأقدمين إلى كوكبي الصباح والمساء.
لكن حين جاء المشروع الإسلامي، تبدلت العادات والتقاليد، وتبدلت وظيفة المعابد وبدأ عصر جديد، خرجت المرأة من التاريخ، ومن دائرة القيمة التي كانت تتمتع فيها.
كانت تلك الكعبات ملاذًا لعبادات القبائل والحج إليها، وكان لكل منها وظيفة بمثابة مؤسسة علمية للرصد الفلكي، فمنها كان يتابع دوران النجوم والأفلاك حول عرش الله، العرش الذي يحمله ثمانية من الملائكة. كما روّج لذلك الإبراهيميون التي اختلفت نظرتهم العقدية عمّن سبقهم، فوظيفة الكعبات في الحضارتين الفرعونية ووادي الرافدين، مكان أو بقعة مقدسة تدار من خلالها منظومة الوجود المرتبطة بضبط التقويم السنوي، أو ضبط قياس حركة الأفلاك، وبالتالي حركة الزمن الإلهي.
هناك رواية حول بناء الكعبة، فالله خلق موضعها حسب الرواية الإسلامية، قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي عام. وإن الله بعث الملائكة وقال: ابنوا لي في الأرض بيتًا، فلمّا جاء الطوفان في عهد نوح، رفعه الله (أي البيت الكعبة) إلى السماء الرابعة، وأخذ جبريل الحجر الأسود الذي هو هدية السماء إلى الأرض، وقد وهبه الله إلى إبراهيم يوم بنى الكعبة، ووضعه في الجبل مقابل مكة، خوفًا عليه من الغرق، فكان البيت هو بيت إبراهيم. فلما ولد إسماعيل أمره الله ببناء بيت يتم ذكره فيه، فقال يا رب بيتي صنعته. فأرسل الله صورة للكعبة فوضعت في موضع البيت، ونودي يا إبراهيم ابن على ظلها، لا تزد، لا تنقص، فكان جبريل يعلمه وإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ثم إن جبريل قصد جبل أبي قبيس، فاستخرج الحجر الأسود منه وأعطاه لإبراهيم فصار حجر الزاوية في البناء... هذه هي الرواية الإسلامية حول كيفية نشوء الكعبات المقدسة.
- النسئ وتحريمه
حّرم الإسلام النسئ، وحذر من تعميم التعاليم المصرية التي رسمت لكيفية نشوء الزمن، فالنسئ الذي حذر منه في "سورة التوبة : 37": ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾، يبدو أنه قُصد منه الأيام المنسية في التقويم السنوي الفرعوني، أي الأيام التي أضافها النساؤون إلى التقويم الزمني حتى ينضبط. وكانت ملاحظاتهم مرتبطة بمراقبتهم لتدفق حركة مياه النيل، أو ما كانوا يسمونه حركة مياه الجنة، تلك التي يتم رصدها لحظة شروق الشمس صباحًا وكانت تظهر بظهور النجم اليماني الشعرى مرة واحدة في السنة، وكان هذا النجم يسهل رصده وتحديد طوله ودورته، وصولاً لتحديد السنة الشمسية التي قسموها 12 شهرًا، أي انهم حددوا مجموع أيام السنة بـ360 يومًا، ثم لاحظوا أن الشعرى اليماني يتخلف عن ميعاده خمسة أيام كل عام، وقد سموها الأيام المنسية، أو النسئ، وأضافوا إلى الأيام المنسية يومًا سادسًا كل أربع سنوات، سموه يوم أوزوريس، وهكذا أصبحت السنة المصرية 365 ليضيفوا أيضا كل أربع سنوات يومًا أي خمس ساعات و499 دقيقة.
بهذه الدقة رسم الفراعنة رؤيتهم للزمن الذي تأخذ به البشرية اليوم. لقد ولّدت الأيام المنسيّة في الذاكرة الشعبية المصرية، أشكالاً متنوعة للإله ووظيفته:
الصورة الأولى لـ"رع" الذي خاطب الأشمونيين قائلاً لهم: أنا الإله الذي خلق نفسه. والثانية لـ"نو" الذي صنع اسمه ليتكوّن من جماعة الآلهة، إله. والثالثة لايزيس التي كانت رمزًا للخير، والرابعة لأوزوريس رمز الخصوبة، والخامسة لسيام رمز الشر. والسادسة لنفتنيس رمز البركة...
ورأى العلامة محمد حسين هيكل في هذا التدرج، أنه لا بدّ أن تكون لأسماء الآلهة مدلولات رمزية أو لغوية تعبر تعبيرًا صحيحًا عن حكمة وعلم خالصين لا تشوبهما أية شائبة تضعف من قدرهما. وتتبين هذه الحكمة عند الفراعنة من مراقبتهم للأفلاك السماوية واكتشافهم للشعرى اليماني الذي قدّسوه بحسبانه الأساس الذي ساعدهم في الوصول لرسم معالم النظام الفلكي كله، وعبره اكتشف الفراعنة حساب دورة الزمن الذي عبر مراقبته، وضعوا نظريتهم حول تشكل الزمن ونشوئه.
بهذا الاختراع تحولت البشرية من مجرد قطعان من الحيوانات إلى كيانات بشرية تتحرك داخل إطار منظومة حسابية ثابتة سموها الزمن. ويلحظ هيكل أن قدماء المصريين استغلوا قوى الطبيعة عن طريق العلم بخير مما استغلها من خلفهم من سائر الأمم، ويتبين من خلال النصوص، أنهم بلغوا في بعض الأحيان، مدى لم تبلغه الإنسانية الحاضرة.
ويضيف هيكل: يوم كانت مدنية الفراعنة قائمة، كان اليونانيون يغترفون من علوم مصر ومن حضارتها، وكانوا على أوثق الاتصال بها. كذلك ذهب أحمد باشا كمال إلى نظرية في أصل اللغة العربية، تقول إن هذه اللغة ترجع في أصولها إلى اللغة الهيروغليفية.
كل ذلك يؤكد أن الأمم المجاورة لمصر، خضعت في التاريخ، لحظوظ متشابهة واحدة تجعلها وحدة لا تفصل بينها الأحداث ولا مدّ السياسة وجزرها.
- وظيفة الكعبات
كان العرب قبل الإسلام، يحجّون إلى كعباتهم المقدسة مرتين في العام؛ الأولى في الربيع والأخرى في الصيف، لمدة شهرين، وكانت زيارتهم تتقارب مع اقتران الشمس ببرج الثور، وهنا تكمن أهمية الثور عند الفراعنة، حيث يعدّونه رمزًا للذكورة الكونية في الوجود، كما عدّوا كوكب الزهرة رمزًا للأنوثة الكونية.
كانت تلك الكعبات إذًا، ملاذًا لعبادات القبائل والحج إليها، ولكلٍّ منها وظيفة تشابه الأخرى، وكانت أيضًا بمثابة مؤسسات علمية للأرصاد الفلكية كما ذكرنا، وهي المكان، أو البقعة التي تدار عبرها منظومة الوجود المرتبطة ليس بضبط التقويم الزمني وبقياس حركة الأفلاك فحسب، بل بحركة الزمن الإلهي أيضًا. وقد حذّر نبي الإسلام من بعض العادات، وإن كان قد أخذ بالكثير مما كان سائدًا، فتقويم النسئ حذّر الرسول منه، لاختلافه عمّا أتى به وتبناه حين شرّع التقويم الهجري، إذ تبنّى التقويم القمري الذي لا يزال المسلمون ياخذون به.
- أهل مكة
إذا عدنا قليلًا إلى مرحلة ما قبل طرح المشروع التوحيدي المحمدي، كانت تحكم الجزيرة العربية مجموعات من القبائل، وكانت مكة بطبيعتها ومناخها القاسيين في منخفض بين جبلين، وقليلة المياه وهي عبارة عن وادٍ لا ينفع للزراعة، تحيطها الجبال الجرداء، ومياهها نادرة باستثناء بئر زمزم التي كانت مياهه أقرب إلى المياه المعدنية، وعلى الرغم من سكن أقوام مختلفين مكة، إلا أن السيطرة الأساسية في القرن السادس أصبحت لقريش، حتى أصبح اسم قريش مرادفًا لاسم المدينة مكة. هذا وكانت طبقة الأغنياء والتجّار تسكن في وسطها وبجوار الحرم المكي، في حين كان فقراء مكة ومعظمهم من قريش، يسكنون في الأطراف، وقد جاء قصي بن كلاب فوحّد المدينة تحت قيادة قريش، وفرض سلطته عليها، ففي عهد آل كلاب ومن تلاهم من حكّام، أصبحت قريش تسيطر على مكة التي تحولت إلى محطة ترانزيت (حسب التعبير الشائع اليوم) للقوافل التي تمرّ على أراضيها، وكانت تفرض على كل قافلة مبلغًا من المال، ضريبة مرور. وبهذا الإجراء أصبح أبناء مكة يحمون القوافل ويحرسونها خوفًا من قطاع الطرق، أيضًا أصبحت مكة مركزًا جاذبًا للأقوام المحيطة من أفريقيا، الحبشة وغيرها من جماعات كانت تأتي لكسب رزقها. وكانت أيضًا سوقًا لتجارة العبيد والأرقاء والمواشي وغير ذلك...
برزت في مكة طبقة من الأغنياء التجّار، كانت على غاية من الثراء، منهم وأهمهم بعض الخلفاء ممن التحقوا بالرسول كابن سفيان والوليد بن المغيرة وأبي بكر الصديق (بن قحافه) وعثمان بن عفان الذي وجدت في خزانته، حين موته 150 ألف دينار، وخلف خيلًا وإبلًا لا تحصى... والزبير بن العوام بن خويلد الذي بلغت ثروته 50 مليون دينار وألف فرس وألف عبد، إضافة لأراضٍ وعقارات في مصر والكوفة والبصرة. أما عبد الرحمن بن عوف فكانت على مربطه مائة فرس وألف بعير وعشرة آلاف شاة، وسعد بن أبي وقاص التي بلغت أمواله مليونين وستمائة وثمانية وثمانون ألف دينار...
ومن النساء خديجة بنت خويلد التي أصبحت في ما بعد زوجة النبي، وأم أبي لهب، وزوجة أبي سفيان والدة معاويه.
- الآب والابن والروح القدس
في كتابه العقائد الوثنية في الديانة المسيحية يذكر محمد طاهر التنير أن الأديان التي اعتنقها الإنسان لا تحصى، وأكثرها مشابه لبعضه، والاختلاف محصور باختلاف أسماء الآلهة، لكن المفارفه أنه عندما يأتي نبي يتبعه قومه. وبعدما يتوفى يقوم أتباعه بإدخال بعض العقائد الوثنية التي توارثوها عن جدودهم... كما كانوا يقتبسون من الديانات الوثنية التعاليم التي يحشرونها إلى دينهم، كما جرى مع موسى حينما عبد قومه العجل (بتصرف ص5). ومن المعلوم أن الأمم الوثنية كانت تعبد آلهة متعددة، حتى أنها لم تترك قوة من قوى الطبيعة إلا عبدتها، كإله الرعد وإله الماء وإله الهواء وإله النار وإله الكواكب... ومن الأمم من عبد الحيوان كبني إسرائيل، ومنها من قدّس النبي آدم فقالت إنه َمثلث الأقانيم ودعوه الآب والابن والروح القدس، كالإبراهميين والبابليين والأشوريين... فالإبراهيمون رأوا أن الثالوث المقدس غير منقسم في الجوهر، فـ"برهمة" الآب هو الممثل لمبادئ التكوين والخلق، و"فشنو" الابن يمثل مبادئ الحماية والحفظ، و"سيفا" الروح القدس المبيد والمعيد... أما كريشنا الرب فهو المخلص والروح العظيمة الحافظة للعالم، وهو أيضا أحد الأقانيم الثلاثة، وهو "الإله الواحد". يقول كرشنا: أنا رب المخلوقات جميعها. أنا سرّ الألف والواو والميم (اوم). أنا برهمة وفشنو وسيفا التي هي (ثلاثة آلهة بإله واحد). ويقولون عن هذه الأقانيم الثلاثة: الخالق والحافظ والمهلك.
أما الصينيون واليابانيون فلهم تقاليدهم المتشابهة، فهم يعبدون إلهًا مثلث الأقانيم يسمونه "فو" الثالوث النقي أو العقل الأبدي، وهو ذو ثلاثة أشكال وذو صفة واحدة. و"بوذا" هو خلاصة هذه التعاليم ويسمونه "فو". ومن هذا الواحد انبثق ثان، ومن الثاني انبثق الثالث، ومن الثلاثة انبثق كل شيء. وقد اتفقوا على أن أصل كل شيء واحد.
أما المصريون القدماء فاعتقدوا بالعقائد نفسها، وقد يكونون هم مبتكروها أو من أضافوا إليها، فقد عبدوا إلهًا مثلث الأقانيم، وقد صوروه على شكل جناح الطير ووكر أفعى، ما يعني اختلاف وظائفه وصفاته. وفي معبد ممفيس تبدو الصورة الواضحة المتشابهة مع معبودات الهنود والصينيين، لكن ملك مصر الفرعوني سأل الكاهن تنيوشوكي أن يخبره هل كان قبله أحد أعظم منه، أو هل يكون بعده من هو أعظم منه؟ فأجاب الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو أولا "الله"، ثم "الكلمة"، ومعهما "روح القدس"، وهؤلاء الثلاثة ذو طبيعة واحدة، وهم واحد في ذاته، وعنهم صدرت القوة الأبدية. فاذهب أيها الفاني صاحب الحياة القصيرة.
هكذا كانت وظيفة الآلهة، وهكذا نشأت الأديان، فما هي اليوم وظيفة المؤسسات الدينية المتشابهة مع بعضها اليوم؟ وهل تطورت التعاليم الدينية عمّا كانت عليه من قبل؟
***
* رئيس تحرير مجلة الحداثة وأمين عام حلقة الحوار الثقافي
مكتبة البحث
- أحمد بدوي، في موكب الشمس (1 و2)، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1950
- أحمد يوسف داود، الميراث العظيم، دار المستقبل، دمشق 1991
- أرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، ترجمة طلعت الشايب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهره 2000
- إلياس المر، الإسلام بدعة نصرانية، لا مكان، لا تاريخ.
- أنيس فريحة، ملاحم وأساطير من أوغاريت، دار النهار، بيروت 1980
- ب. كوملان، الأساطير الإغريقية والرومانية، ترجمة أحمد رضا محمد رضا، مراجعة محمود خليل النحاس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1992
- خليل أحمد خليل، مضمون الأسطورة في الفكر العربي، دار الطليعة، بيروت 1973
- خليل عبد الكريم، النص المؤسس ومجتمعه، دار مصر المحروسة، ط 2، القاهره 2002
- خودا بخش، الحضارة الإسلامية، ترجمة علي حسني الخربوطلي، دار الكتب الحديثة، القاهرة 1960
- رضا جواد الهاشمي، نظام العائلة في العهد البابلي القديم، جامعة البصرة، بغداد، لا تاريخ
- زكريا كايا، حقيقة تاريخ المشرق، منشورات الجبهة المشرقية، بيروت 1994
- السيد الأسود، الدين والتصور الشعبي للكون، المجلس العلى للثقافة، القاهرة 2005
- شريف حامد سالم، نقد العهد القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة 2011
- صالح سالم هيكل، مفتاح كتاب الحياة، راجع مقدمة الكتاب لمحمد حسين هيكل، ص 31 وما بعد، مطبعة فؤاد 1930
- طريف الخالدي، دراسات في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ط2، در الطليعة، بيروت 1979
- عبد الرحمن الشرقاوي، محمد رسول الحرية، عالم الكتب، القاهرة 1962
- عيسى الحلو، عصور ما قبل التاريخ وتاريخ بابل القديم، دار الطليعة، بيروت 1960
- غريغوريوس الملطي، تاريخ مختصر الدول، سلسلة منابع الثقافة الإسلامية، لا مكان، لا تاريخ.
- فاطمه المرنيسي، السلطانات المنسيات، ترجمة جميل معلي وعبد الهادي عباس، دار الحصاد للنشر دمشق 1994
- فرحان صالح، المادية التاريخية والوعي القومي عند العرب، ط2، دار الحداثة، بيروت 1981، ومجلة الحداثة، الأعداد من 201 إلى 206، بيروت 2020 – 2021
- فريدريك معتوق، مرتكزات السيطرة الشرقية، دار الحداثة، بيروت 2008
- فيليب حتي، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، دار الثقافة، بيروت 1958، وتاريخ العرب (مطول)، لحتي وإدورد جرجي وجبرائيل جبور، جزء1، دار الكشاف، بيروت 1965
- كارل بروكلَمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، دار العلم الملايين، ط5، بيروت 1968
- لويس جزنبرج، قصص اليهود (ص 93 وما بعدها)، ترجمة جمال الرفاعي، تقديم محمد خليفة حسن، ط2، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2002
- محمود كامل المحامي، الدولة العربية الكبرى، دار المعارف، مصر 1966
- ناجيه الوريمي، زعامة المرأة في الإسلام المبكر، ص 27 وما بعد، دار الجنوب 2016
- نبيل محمد رشوان، كفار قريش، منشورات البندقية، القاهرة 2017. ودولة الخلافة العبرانية، منشورات البندقيه، القاهرة 2017
- هيرودوت يتحدث عن مصر، ترجمة د. محمد صقر خفاجة، تقديم د. أحمد بدوي، دار القلم، القاهرة 1966
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق