♦ فريد إمام عثمان *
نبذة عن البحث
حمل العقدان اللذان أعقبا الحرب العالميّة الثانية (1939-1945)، تطوّرات حاسمة على طريق تحديث القصيدة العربيّة، وصوغها بطريقة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعر العربي، منذ أن شاعت الموشّحات الأندلسيّة. ولا تشكّل المحاولات الخجولة التي قام بها الكاتب المصري لويس عوض (1915- 1990) وغيره، في العقود الأولى من القرن العشرين، سوى بذور ضعيفة نُثرت قبل أوانها، ولم تتوافر لها التربة المناسبة. وإذا كان هناك ما يشبه الاجماع على أنّ الشاعر العراقيّ بدر شاكر السيّاب (1926- 1964) هو السبّاق إلى حركة التحديث التي بدأت إرهاصاتها الأولى باعتماد شعر التفعيلة في كتابة القصيدة، فإنّ هذا قد جعله أستاذ الحداثة، بلا منازع، من غير أن يقف التحديث عند حدود الإيقاع الشعريّ، وإنّما تخطّاه شيئاً فشيئاً؛ ليصل إلى صوغ قصيدة عربيّة حديثة تواكب ما استجدّ من تطوّرات ثقافيّة وفكريّة وإيديولوجيّة واجتماعيّة.
لم يتأخّر الشعر العربيّ في مصر عن اللحاق بالركب السائر قدماً نحو تحديث القصيدة العربيّة، وهو الذي احتضن النهضة الشعريّة مع محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وغيرهم. وقد انخرط كبار الشعراء المصريّين في بلورة هذا التوجّه نحو التحديث، والتنظير له. ويُعدّ الشاعر صلاح عبد الصبور(1931-1981) واحداً من أبرز روّاد حركة الشعر الحرّ العربيّ- كما كان يسمّى في تلك المرحلة من الزمن- ومن رموز الحداثة العربية المتأثّرة بالفكر الغربي، كما يعدّ واحداً من الشعراء العرب القلائل الذين أسهموا إسهاماً بارزاً في التأليف المسرحي، وفي التنظير لشعر التفعيلة، أو للشعر الحرّ، كما كان يُعرف، في تلك المرحلة من الزمن.
ولعلّ من المفيد أن نقف بتمهّل أمام العوامل التي مكّنت عبد الصبور من تقديم شعر حداثيّ رفيع المستوى، ثم ندرس جوانب التحديث التي اعتمدها، بدءاً بالمستوى الإيقاعيّ، ثم المستويين الصرفيّ والنحويّ، والمستوى التصويريّ، وصولاً إلى رؤية الشاعر إلى العالم، وكيفيّة التعبير عنها.
التعريف بالشاعر
وُلد عبد الصبور في إحدى قرى شرقيّ دلتا النيل، وتلقّى تعليمه في المدارس الحكومية، ثم درس اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليّاً). وفيها تتلمذ على الرائد المفكر الشيخ أمين الخولي الذي ضم تلميذه النجيب إلى جماعة (الأمناء) التي كوّنها، ثم إلى (الجمعية الأدبية) التي ورثت مهمّات الجماعة الأولى. وكان للجماعتين تأثير كبير في حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر، في تلك الحقبة من الزمن.
كان ديوان "الناس في بلادي" الصادر في العام1957، المجموعة الشعرية الأولى لعبد الصبور، كما كان أول ديوان للشعر الحديث (أو الشعر الحر، أو شعر التفعيلة) الذي هزّ الحياة الأدبية المصرية في ذلك الوقت. ولعلّ ما لفت أنظارَ القراء والنقاد، فيه، فرادةُ الصور الفنّيّة، واستخدام المفردات اليومية الشائعة، إلى جانب ثنائية السخرية والمأساة، وذلك المزج بين الحسّ السياسي والفلسفي بالموقف الاجتماعي الانتقادي الشديد الوضوح.
على امتداد حياته التي لم تطُل، أصدر عبد الصبور مجموعة دواوين، من أبرزها: "أقول لكم" في العام 1961، ثمّ "أحلام الفارس القديم" في العام 1964، أعقبه ديوان "تأمّلات في زمن جريح" في العام 1970، ثمّ "شجر الليل" في العام 1973، و"الإبحار في الذاكرة"، في العام 1977.
كتب عبد الصبور مجموعة من المسرحيات الشعرية، منها: "ليلى والمجنون" في العام 1971، وعُرضت على مسرح الطليعة في القاهرة في العام ذاته، و"مأساة الحلاج" في العام 1964، ثمّ "مسافر ليل" في العام 1968، أعقبها مسرحيّة "الأميرة تنتظر" في العام 1969، و"بعد أن يموت الملك" التي صدرت في العام 1975 .
نشر الشاعر مجموعة كتابات نثرية، نذكر منها: "حياتي في الشعر"، "أصوات العصر"، "رحلة الضمير المصري"، و"على مشارف الخمسين".
- مصادر ثقافة الشاعر
إذا كان من الصحيح أنّ الشاعر الكبير هو مثقّف كبير، فإنّ عبد الصبور قد امتلك ثقافة واسعة وعميقة، في آنٍ معاً، واستطاع أن يتمثّل الشعر العربيّ القديم، على اختلاف توجّهاته. وقد تنوعت المصادر التي تأثر بها إبداع الشاعر، منها شعر الصعاليك الذي تميّز بالثورة العارمة على الواقع القبليّ الظالم، كما تميّز بروح إنسانيّة صافية، كذلك ظهر تأثّره بشعر الحكمة العربيّ، خصوصاً شعر أبي الطيّب المتنبّي، وشعر أبي تمام الطائيّ، مروراً بسيَر وأفكار بعض أعلام الصوفيين العرب مثل الحلاج وبشر الحافي اللذين استخدم إشاراتهما بوصفها أقنعة لأفكاره وتصوّراته في بعض القصائد والمسرحيّات الشعريّة.
لم يقف عبد الصبور عند حدود التراث العربيّ، إنّما أفاد الشاعر من التراث الشعريّ الرمزي في الثقافة الغربيّة، خصوصاً التراث الفرنسي والألماني (ممثّلاً ببودلير وريلكه) والشعر الفلسفي الإنكليزي (ممثّلاً بجون دون وييتس وكيتس وت. س. إليوت على وجه الخصوص). وقد استطاع عبد الصبور استثمار إقامته في الهند، بشكل ناجح، عندما كان مستشاراً ثقافيّاً لسفارة بلاده، فأفاد خلالها من كنوز الفلسفات الهندية، ومن ثقافات الهند المتعدّدة الاتّجاهات.
صاغ عبد الصبور، بمقدرة فنّيّة، سبيكة شعرية نادرة، تشكّلت من صَهره لموهبته، ورؤيته إلى العالم من حوله، وخبراته الذاتية، مع ثقافته المكتسبة من الرصيد الإبداعي العربي ومن التراث الإنساني عمومًا. وبهذه الصياغة اكتمل نضجه وتصوّره للبناء الشعري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق