♦ علي عارف نسر *
نبذة عن البحث
يشكّل العمل الأدبي عمومًا، مسرحًا تُعرض على خشباته أدوار متعددة ومتشعّبة من الحياة. وغالبًا ما يشكّل الأدب معادلا موضوعيًّا للواقع الحياتي، ما أدخل العديد من الأدباء في باب الاتهامات، إذ أشير إليهم بأصابع اللوم والاتهام، بأنّهم ناقلون ومصوّرون من دون تعديل على المشاهد الحيّة في أحيان كثيرة... وقديم هذا الاتهام، إذ يعود إلى "أفلاطون" الّذي عاب على الشعراء محاكاتهم لصور المُثل، ما جعلهم يحاكون المحاكاة. لكنّ العمل الفنيّ الّذي يستحقّ أن يحمل لقب الهوية الفنية والصفة الابداعيّة، هو الذي لا يتكلّم على الواقع بقدر ما يخلخل هذا الواقع، فيأتي بما يجب أن يقال. وهذا ما تطرّق إليه "أرسطو" مخالفًا رأي أستاذه في موضوع المحاكاة، حين وجد أنّ الأديب لا ينقل المنقول فحسب، بل يتصرّف فيه. فيرى أنّ "الشاعر لا يحاكي ما هو كائن ولكنّه يحاكي ما يمكن أن يكون أو ما ينبغي أن يكون بالضرورة أو الاحتمال"(1).
كلّ هذا، يفرض على الأديب أن يجعل المستقبل هدفًا، إذ إنّ المتلقّي لا يخفى عليه الحاضر وما فيه من وقائع ومشكلات وعيوب وجمال، فهو عليه شهيد. كما في إمكانه أن يتعرّف إلى تراثه وما فيه من قيم ومثل وانجازات واخفاقات، فيكون عليه شاهدًا، ما يجعله مستغنيًا عمّا يقدّمه له الأدباء من تقارير ووثائق بامكانه الحصول عليها عبر طرق أخرى. وكما أشرنا، فليس من ضروب الفنّ أن يقال الواقع كما هو، بل إنّ المسؤولية الملقاة على أكتاف الفنّانين تختصر في مدى قدراتهم على رسم صورة مستقبليّة، وبناء وعي ممكن انطلاقًا من الحاضر والوعي الفعلي القائم، واتّكاءً على عصا الماضي والتراث. هذه الضبابية في التعامل مع الحاضر أو الحداثة والماضي أو التراث، تشكّل سببًا جوهريًّا من أسباب تخلّف هذه الأمّة اليوم، إذ غالبًا ما نتّخذ من الأيّام السّالفة والماضي المشرق، ملاذًا نتقوقع في أصدافه خوفًا على الوجود وحفاظًا على النوع، فنستحيل سلاحف نخفي رؤوسنا في ما فوق ظهورنا من تراث متجمّد إذا ما شعرنا، أو أوهمنا أنفسنا، بأنّ خطرًا ما يحوم حولنا، فيتدثّر الرأس محتميًا، لكنّه يجهل ما يدور حوله من حركات، غالبًا ما تسبقه وتتجاوزه. فقد تغلّفنا بمفاهيم وقوالب غير قابلة للتحوّل والتعديل، وقدّسنا كلّ ما هو ماض أكثر مما احترمناه، ولم نستفد منه للوثوب إلى الأمام كما فعلت كلّ الحركات التغييرية والنهضوية عبر التاريخ. فإنّ الغيورين والخائفين على مصير هذه الأمّة، "عملوا على تحريك المفاهيم [السابقة والسائدة] من دون إبداع مفاهيم قادرة على إحداث الحركة"(2)، وبدلا من الاتيان بما تختزنه ثقافتنا من معارف وعلوم وأساطير... إلى أيّامنا هذه، وتوظيفها بما يخدم حركة العجلات الحياتية، نرى أننا نقوم بما يشبه عملية النكوص نحو الوراء، والاقامة في الماضي واطالة البقاء هناك، ما جعل هذا الماضي التراثي عاملا من عوامل العرقلة ووضع الأحجار أمام دولاب الزمن وحركته.
يشكّل الأدب وسيلة أساسيّة في معالجة هذه القضية، فقدّم نفسه، شكلا ومضمونًا، صورة واضحة تختزن في إطارها حركية الصراع بين الحداثة والتراث، فحاول الأدباء أن يجعلوا من العلاقة بين طرفي النزاع، علاقة نديّة أكثر مما هي علاقة ضديّة، فنجح بعضهم وأخفق بعضهم الآخر مكرّسًا صورة الصراع، منتصرًا لأحد الطرفين.
ويعدّ ديوان الشاعر العراقي أحمد محمّد رمضان: "طين الأبديّة"، دليلًا واضحًا على ما يعاني منه مجتمعنا اليوم تمزّقًا وتشظّيًا وتخبّطًا، في أمواج التناقضات والتباينات التي غالبًا ما تنتهي بصراعات تستخدم فيها وسائل الاقصاء والالغاء على مختلف أنواعها، ويُسوّغ فيها العنف أحيانًا. فكيف تجلّت هذه القضايا، وكيف وظّف الشاعر صورة الصراع السرمديّ في إيصال رسالته وبلوغ هدفه شكلا ومضمونًا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق