Al-Hadatha Journal: 32 years of communication - Welcome to the site (under construction). Here we publish Abstracts of research

بحث - Search

مجلة الحداثة: 32 عامًا من التواصل - أهلا بكم في الموقع الترويجي (قيد الانشاء) ننشر هنا ملخصات عن الأبحاث

المشاهدات

الافتتاحية: سؤال الحداثة وما بعده

د. هيثم فرحان صالح - مجلة الحداثة

هيثم فرحان صالح *

Editorial: The Question of Modernity and Beyond


يمكن القول إن إحدى المهام الرّئيسة التي دعت إليها الحداثة (Modernity) هي قدرة الإنسان على السيطرة على هذا العالم، وركّزت هذه القدرة على إخضاع الطبيعة بالعلوم. كانت مهمة الحداثة أيضًا، إطلاق حرية الإنسان من أسر الغيب، والقفص الحديدي للتقاليد، ورفع مستوى الحريّة، وضمان الفرديّة. فمن جهة، غيّرت الحداثة مقوّمات العيش الإنساني، وأحدثت تحولات في طرق الحياة الإنسانية، إلّا أنه من جهة أخرى، أدت في ما أدت إليه تلك التحولات، إلى امتزاج القديم بالحديث؛ فلا القديم تلاشى، ولا الحديث استقرّ واستمر، وهذا تجلّى واضحًا في كثير من تجارب دول العالم الثالث، ومنها العالم العربي، حيث شكّلت تحديثًا من دون حداثة.
أحدثت تلك التحولات لاحقًا، حالة من السّيولة، كما طرح مفكّرون في ما سماه عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) "الحداثة السائلة" (2017)، وجرى وصف تلك التحوّلات والتشكّلات المتمايزة من طرق الحياة الإنسانية بمصطلحات "ما بعد حداثيّة"؛ فهذا المصطلح حمل إشكاليّات في تعريفاته المختلفة، كما الحداثة، بحيث كانت إحدى إشكالياته الكبرى، هي في مدى شمولية تلك التعريفات لدول ومجتمعات لم تمرّ بمرحلة الحداثة، بالمعنى الذي عاشته أوروبا في القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية، من عصر التنوير إلى عصر الدولة الأمّة، ودولة الحداثة القائمة على العلمنة وحرية التفكير والثورة العلمية، والتعددية، والديمقراطيّة.
المقصود هنا: هل تندرج مسمّيات وتعريفات ما بعد الحداثة على مجتمعات لم تمرّ بمرحلة الحداثة وتشملها؟ إنّ كل منجزات عصر ما بعد الصناعة - الحداثة، تعمّمت على كلّ دول العالم من وسائل التواصل الاجتماعي إلى تقنيات الروبوت الآلي، وعصر الذكاء الاصطناعي.... هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كانت الاستجابات مختلفة في كيفية التعاطي مع تلك المنجزات، وكما قيل على سبيل المفارقة، إنّ دولًا دخلت إلى فضاء الاتصالات، وتطور وسائل التواصل والهواتف الذكية، قبل أن تنتشر فيها الوسائل التقليدية من هواتف سلكية، وسبل مواصلات وطرق تعود إلى عصر منجزات الحداثة!
من الضروري هنا الإضاءة على بعض التحولات الفكرية المصاحبة للحداثة، لفهم ما هي الإشكاليّات التي تعترضنا في فهم عالم ما بعد حداثي - صناعي، يتسيّد المشهد العالمي، ويؤثّر عميقًا في تحوّلات فكرية واجتماعيّة واقتصادية وسياسية، وعلى الصعد كافة، لا تني في الظهور، وتتبلور شيئًا فشيئًا على المسرح العالمي.
جرى التمييز بين مستويين من التحولات الفكرية المصاحبة للحداثة: المستوى الإبستمولوجي؛ والمستوى الفلسفي، وذلك على الرغم من تداخل هذين المستويين وتشابكهما إلى حدود كبيرة، حيث حدث الانتقال من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنيّة، رافق ذلك تطوير طرائق وأساليب جديدة في المعرفة، "فالمعرفة التقليدية تتسم بكونها معرفة كيفية ذاتية وانطباعية وقيميّة". أما المعرفة التقنيّة، "فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الحسابي، أي معرفة عمادها الملاحظة والتجربة والصياغة الرياضية والتكميم" (سبيلا، 2007، ص8). لذا، يُنظر إلى المعرفة العلمية بأنها استجابة للتقنية، وخضوع لمتطلباتها. في هذا الصدد، تُصبح المعرفة غير المنطبعة بالطابع العلمي - التقني، إشكالًا دنيا من المعرفة، واندرج ذلك في النظر إلى الفلسفة مثلًا، بحسبانها معرفة متجاوزة، فالمعرفة الحقّة بالمعنى هذا، هي المعرفة العلمية الاختبارية لا النظرية التأملية.
لا تكتفي هذه المعرفة العلمية – التقنية، بالحطّ من قيمة الأنماط المعرفية الأخرى، بل تطال الفضاء الثقافي كلّه، وتتحوّل إلى ثقافة وأيديولوجيا، وميتافيزيقيا أيضًا. إنّ المعرفة الحداثيّة عبر محاولتها السيطرة على الطبيعة، وارتباط المعرفة بالسلطة والقوة، لم تطل الطبيعة والعلوم الطبيعيّة فحسب، بل امتدّت سيطرتها على الإنسان والعلوم الإنسانية، وذلك حين اختلط همّ المعرفة والتحرر باستراتيجيات للسيطرة، حيث أصبح العلم التقني ثقافة تحلّ محلّ الثقافة التقليديّة، وتكيّفها بالتدريج، مزوّدًا المجتمع العصري بمشاعر الهوية والانتماء، من خلال المعرفة، وبالتالي صياغة قيم جديدة. اتخذ هذا المركّب المعرفي الجديد بالتدريج صورة ميتافيزيقيا، تُبشّر بالأمل وتعدّ بالخلاص، وتشكّل مصدرًا واهبًا للمعنى (ص 9).
هذا العلم - التقني أصبح أيضًا مصدرًا للشرعيّة والأيديولوجيا التي كانت إحدى تجلّياتها الديمقراطية - كتكنولوجيا سياسية - مستندة إلى العلم - التقني، والدنيوي بطبيعة الحال. كان الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس، هو التحول - النقلة، وذلك من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي. حوّلت الثورة الكوبرينيكيّة النظرة إلى الطبيعة إلى معادلات رياضيّة وأشكال هندسيّة، لكن في الوقت نفسه "رسم العلم الحديث لنفسه حدودًا في فهمه للطبيعة، فهو لم يدَّعِ أبدًا أنه يسعى لفهم الجواهر والأشياء في ذاتها"، بل قصر مسعاه منذ البداية على محاولة فهم الظواهر مركزًا على ما هو قابل للرصد وللتعبير الكمّي، وطغت النسبيّة لاحقًا على أحكامه ونظرياته. باختصار، كان عصر الحداثة هو العصر الذي اختلّ التوازن فيه بين الماضي والمستقبل، فهو العصر الذي يحيا بدلالة المستقبل، وينفتح على الجديد الآتي، فلم يعد يستمد قيمته ومعياريّته من عصور ماضية، بل من ذاته وذلك عبر تحقيق قطيعة جذرية مع التراث والتقليد.
من ناحية أخرى عُدّ الإنسان مركزًا للنظر والعمل، "وذاتيّة العقل الإنساني هي المؤسسة للمعرفة ولموضوعية الموضوعات" (Habermas, 1990, P9)، وتمّ إرجاع كلّ معرفة إلى الذات المفكرة أو الكوجيتو.
كما ذكر أعلاه، إنّ الحداثة غيّرت مقومات العيش الإنساني، وأعادت تعريف الزمان والمكان، لكن تلك التحولات لم تعمم، وبشكل أكثر دقة، تعمّمت منجزاتها التقنية سابقًا بمعزل عن أطرها الفكريّة والثقافيّة، والسياسيّة، وهذا ما يؤشكل علينا تحديدات مفاهيميّة تستطيع الإحاطة بتجلّيات تأثيرات عصر ما بعد الحداثة - الصناعة على شعوب الأرض، وقياس مدى ومقدار استجاباتها المختلفة.
لقد انتقلنا من التحديث المحدود إلى التحديث المعمّم خصوصًا مع المجتمعات ما بعد الصناعية أو ما بعد الحداثيّة، فمجتمع ما بعد الحداثة هو مجتمع تواصل قبل كل شيء، والإبداع الإنساني يشمل مجموع التجربة المعيشة، ولا ينحصر بشعب من شعوب الأرض.

***

* باحث لبناني. حائز شهادة دكتوراه في العلوم السياسية – الجامعة اللبنانية. له أبحاث ومؤلفات منشورة.

* Dr. Haytham Farhan Saleh: Lebanese researcher. He holds a PhD in political science from the Lebanese University. He has published research and books.

*

- باومان، زيغمونت (2017). الحداثة السائلة، (ط. 2). بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
- سبيلا، محمد (2007). الحداثة وما بعد الحداثة (ط. 2). المغرب: دار توبقال
- Habermas, Jürgen (1990). The philosophical discourse of modernity. Frederick Lawrence (Translator). MIT Press. Edition: Reprint.

الحداثة (Al Hadatha)
خريف - شتاء 2025- 2026 Autumn /Winter
العدد: 237 - 238 ISSUE
مجلد: 32 .Vol

ليست هناك تعليقات:

اقرأ أيضًا

تعليقات القرّاء

راسلنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تصنيفات وأعداد

Al Hadatha (1137) أبحاث في الأدب واللغة (393) أبحاث في الثقافة الشعبية (248) أبحاث في العلوم الاجتماعية (203) أبحاث في الفنون (178) أبحاث في التاريخ (148) أبحاث في التربية والتعليم (136) أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية (90) أبحاث في علم النفس (76) أبحاث في الفلسفة (67) مراجعات (64) أبحاث في الإعلام (43) خريف 2025 (42) شتاء 2026 (42) صيف 2019 (42) محتويات الأعداد (42) افتتاحية الأعداد (41) شتاء 2020 (38) خريف 2020 (37) ربيع 2020 (37) خريف 2019 (35) صيف 2020 (35) خريف 2023 (34) خريف 2024 (34) شتاء 2025 (34) أبحاث في الآثار (33) ربيع 2025 (33) شتاء 2024 (33) صيف 2024 (33) الحداثة : أعلام (32) ربيع 2024 (32) شتاء 2021 (31) الحداثة في الإعلام (28) أبحاث في القانون (26) خريف 2016 (26) شتاء 2017 (25) نوافذ (24) ربيع 2021 (23) صيف 2018 (23) صيف 2023 (23) خريف 2018 (22) ربيع 2022 (22) صيف 2017 (22) صيف 2025 (22) شتاء 2022 (21) خريف 2021 (20) ربيع 2017 (20) ربيع 2023 (20) صيف 2021 (20) أبحاث في العلوم والصحة (19) شتاء 2019 (19) أبحاث في كورونا (covid-19) (18) خريف 1994 (18) أبحاث في الجغرافيا (17) صيف 2022 (17) خريف 2001 (16) خريف 2022 (16) شتاء 2023 (16) ملف الحداثة (15) أبحاث في الإدارة (14) ربيع 2019 (12) شتاء 2000 (12) شتاء 1996 (11) شتاء 2018 (11) خريف 1995 (10) ربيع 2015 (10) أبحاث في الحقوق (9) خريف 2004 (9) صيف 1997 (9) خريف 2017 (8) ربيع 1999 (8) ربيع 2016 (8) ربيع وصيف 2007 (8) شتاء 1998 (8) شتاء 2004 (8) صيف 1994 (8) صيف 1995 (8) صيف 1999 (8) شتاء 1999 (7) شتاء 2016 (7) خريف 1996 (6) خريف 1997 (6) خريف 2013 (6) ربيع 2001 (6) شتاء 1995 (6) شتاء 2013 (6) صيف 2000 (6) صيف 2001 (6) صيف 2002 (6) خريف 1998 (5) خريف 2000 (5) خريف وشتاء 2003 (5) ربيع 1996 (5) شتاء 1997 (5) صيف 2003 (5) صيف 2009 (5) ربيع 2002 (4) شتاء 2011 (4) صيف 1996 (4) صيف 2008 (4) خريف 2003 (3) خريف 2009 (3) خريف 2010 (3) خريف 2015 (3) خريف شتاء 2008 (3) ربيع 1995 (3) ربيع 1998 (3) ربيع 2000 (3) ربيع 2003 (3) ربيع 2012 (3) ربيع 2018 (3) شتاء 2001 (3) شتاء 2010 (3) صيف 1998 (3) صيف 2005 (3) صيف 2010 (3) صيف 2014 (3) صيف خريف 2012 (3) العدد الأول 1994 (2) خريف 1999 (2) خريف 2005 (2) خريف 2014 (2) ربيع 2006 (2) ربيع 2011 (2) ربيع 2013 (2) ربيع 2014، (2) شتاء 2005 (2) شتاء 2012 (2) شتاء 2014 (2) شتاء 2015 (2) صيف 2006 (2) صيف 2011 (2) صيف 2013 (2) صيف 2015 (2) الهيئة الاستشارية وقواعد النشر (1) خريف 2011 (1) ربيع 2004 (1) ربيع 2005 (1) ربيع 2009 (1) ربيع 2010 (1) ربيع 2014 (1) شتاء 2007 (1) صيف 2004 (1) صيف 2016 (1) فهرس (1994 - 2014) (1) مجلدات الحداثة (1)

الأكثر مشاهدة