طقوس الأحزان في القرى المسيحية اللبنانية (نماذج مختارة من بلدتي رميش ودبل)

مريم جريس حبيب - مجلة الحداثة

مريم جريس حبيب *


نبذة عن البحث


يعالج هذا البحث عادات الأحزان وتقاليدها وطقوسها في القرى المسيحية اللبنانية، ولا سيما في بلدتي رميش ودبل الواقعتين في قضاء بنت جبيل في جنوب لبنان.
يلحظ البحث أن مناسبات الموت وكيفية المشاركة بها، تعدّ واحدة في كل القرى الحدودية اللبنانية الإسلامية والمسيحية، وإن اختلفت بعض الشيء في تفاصيلها؛ إذ يبرز من خلال العينات والمقابلات التي استند إليها البحث، تحولاً في بعض العادات والتقاليد المتعلقة بالأحزان في بلدتي رميش ودبل، وحتى جوارها، ولا سيما تلك المتعلقة بطرق "إرسال المناعي"، وبـ"شعائر الحداد". كذلك بدا لافتًا إلى أن مناسبات "الأسبوع" أو "الأربعين" باتت تحظى بحضور كثيف، وتضم حضورًا اجتماعيًا وحزبيًّا وسياسيًّا.
يخلص البحث للتأكيد أنه بالرغم من التغير الذي طال جوانب من المراسم والطقوس المتعلقة بالأحزان عند المسيحيين اللبنانيين، لكن التضامن الاجتماعي والمشاركة المتبادلة بين المسيحيين والمسلمين، ما زالت ضرورة حتمية، وواجبًا إلزاميًّا.

- الكلمات المفتاحية: عادات، تقاليد، طقوس الأحزان، رميش، دبل، القرى المسيحية اللبنانية، ثقافة شعبية


***


تشكل مناسبات الموت تعبيرًا حيًّا وتجسيدًا للتضامن الاجتماعي بين أبناء القرية اللبنانية الواحدة، وحتى مع أبناء القرى المجاورة، لأن مشاركة كل أبنائها في المأتم تعدّ واجبًا اجتماعيًّا لا يمكن التخلف عنه، كما أن عادة تقديم الهدايا لأهل الفقيد لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا؛ إذ يحضر معهم المعزّون ولا سيّما الأصدقاء منهم، الذبائح والقهوة والسكر والحبوب والأرز، فمناسبات الحزن تحكمها عادات وتقاليد خاصة بأفراد المجتمع، لأن "التقليد سلوك اجتماعي موروث يتميز بالثبات. وتستمد التقاليد الاجتماعية صلابتها من ارتباطها بالمعتقد الديني خاصة في عالمنا العربي".[i]
ويلاحظ أن المشاركة في تقديم واجب العزاء في القرى الجنوبية الحدودية اللبنانية، تتم من خلال حضور المعزين قبل الدفن وأثنائه وبعده، وتقديم واجب العزاء يتم على مستوى العلاقات الشخصية وعلى مستوى المواساة الجماعية لعائلة الفقيد وأهل البلدة، والمشاركة في الدفن تتم عبر وفود أو حضور شخصي من قبل "الوجوه" المسيحية والإسلامية، والأهالي. والمشاركة في "الأجر" كانت وما زالت، ضرورة حتمية وواجبًا اجتماعيًّا إلزاميًّا، ففي الأزمات والأحزان "تقف" الناس الى جانب بعضها البعض، لأن "قدسية" المشاركة في الأحزان ما زالت محتفظة بهيبتها ومكانتها.
يركز البحث إذًا، من منظور اجتماعي، ومن خلال عيّنات مختارة من بلدتي رميش ودبل اللبنانيتين، على رصد جوانب من العادات والتقاليد المسيحية المتعلقة بالموت وكيفية المشاركة بها. وإذ بدا هناك من تشابه في العادات والتقاليد عمومًا، في كل القرى الحدودية الجنوبية الإسلامية والمسيحية، إنما تبقى هناك اختلافات في بعض التفاصيل، وهذا ما يعالجه البحث من خلال رصد الطقوس المتعلقة بالأحزان وتحليلها بحسب المنهج الوصفي.

- طقوس يوم الوفاة


يسّلم جميع أبناء القرى الحدودية الجنوبية اللبنانية بمبدأ الرضا بقضاء الله، وأن الموت "حق ولكن الفراق صعب، وأن الموت حقّ ولكنه مكروه".[ii] ويُعرف المأتم في هذه القرى "بالعزا"، ويشير أبناء هذه القرى إلى يوم الموت، "بالدفن" أو "الأجر"، أي حضور المأتم والاشترك في تشييع الجنازة، "وفي الحالات المختلفة للموت تبدأ التعزية بالكلمات ذاتها: رحمه (أو رحمها) الله، العوض بسلامتكم، ولكم من بعده (أو بعدها) طول البقاء[iii]، وعند قيام الناس بواجب العزاء يبادر أهل الفقيد بالقول للمعزّين: "مأجورين" أو "الله يآجركم".
ويلحظ أن يوم الموت في القرية، يوم حداد وتعطيل عن العمل، لاعتبار مشاركة كل أبناء القرية في المأتم، واجبًا اجتماعيًا لا يمكن التخلف عنه. وهذا يدل ولا يزال، على التضامن بين أبناء القرية الواحدة وحتى بين أبناء القرى المجاورة. ويبدو لافتًا للانتباه إلى أن كثيرًا ما يكون الموت سببًا في مصالحة المتخاصمين، حيث يجتمع أبناء القرية المتخاصمين مع أهل الفقيد في المنزل لتقديم التعازي والمشاركة بتقبله، الأمر الذي يؤدي الى زوال العداء بطريقة عفوية. فالحدوديون "يتناسون خلافاتهم مهما كبر حجمها في هكذا مناسبات، ويشاركون أصحاب العزاء بمصابهم".[iv]
من الطقوس أيضًا، أنه عند موت أحدهم، يعلو الصراخ في البيت، فيعرف الجيران في الحي بأن أحدهم قد فارق الحياة، عندئذٍ يذهب أحد أبناء البلدة إلى الكنيسة ليقرع الجرس بدقات رتيبة خفيضة الصوت متقطعة تعرف بـ"دقات حزن"، لإعلام أهل القرية بحالة الوفاة. ثم يتم تحضير الميت وإلباسه أفضل ثياب لديه، ويسجّى على فراش أو سرير وتتحلق حوله النسوة باكيات، نائحات ونادبات حتى يحين موعد الدفن وإخراج الميت من البيت، كما تتلى الصلوات على الميت من حين الى آخر، وخاصة "صلاة الوردية"، وفي الوقت نفسه، يتجمع الرجال في إحدى غرف البيت أو في بيت أحد الأقارب أو الجيران لمواساة رجال أسرة الفقيد. ويوضح معمّر من بلدة رميش أنه "كانت العالم تفتح بيوتها لبعضها، النسوان ببيت الفقيد والرجال ببيت الأخ أو ابن العم أو الجار حسب موقع المنزل الأقرب لبيت الفقيد"[v]، كما يسهر الأقارب والأصدقاء منهم مع النساء قرب الميت حتى الصباح، إذا لم يدفن الميت في اليوم نفسه، أو في حال وفاته في المساء أو أثناء ساعات الليل.

وفي ما يلي، يتناول البحث جوانب من العادات والتقاليد المتعلقة بطقوس الأحزان في القرى المسيحية اللبنانية، وتحديدًا في بلدتي رميش ودبل.

(...)

***


* باحثة لبنانية – تعدّ أطروحة دكتوراه في العلوم الاجتماعية – المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانية


[i] معتوق، فردريك، الموسوعة الميسرة في العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، ط.1، 2012، ص 49
[ii] مقابلة مع السيدة نظيرا حنون (67 سنة) ربة منزل - تبنين، بتاريخ: 22/3/2919.
[iii] أبي ضاهر، جوزف، ع البركة تقاليد لبنانية وعادات، الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا، (دائرة المنشورات الجامعية)، ط.1، 2012، ص 220
[iv] سمحات، قاسم محمد، عيناثا قمة في جبل عامل نوافذ على التاريخ والتراث، دار بلال، بيروت، ط.1، 2009، ص 185
[v] مقابلة مع موسى عسّاف المعروف بـ"أبو شوقي" (80 سنة)، قوّال في المناسبات - رميش، بتاريخ: 18/3/2019


المصادر والمراجع


1- أبي ضاهر، جوزف، "ع البركة تقاليد لبنانية وعادات"، الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا، (دائرة المنشورات الجامعية)، الطبعة الأولى، 2012.
2- الأب شوفاني، شكر الله، "تاريخ رميش"، منشورات سيدة البشارة رميش، الطبعة الثانية، 2017.
3- سمحات، قاسم محمد، عيناثا قمة في جبل عامل نوافذ على التاريخ والتراث، دار بلال، بيروت، ط.1، 2009
4- مركز الهادي الثقافي وجمعية إنماء ميس الجبل، "ميس الجبل"، ط.1، 2013.
5- معتوق، فردريك، العادات والتقاليد الشعبية اللبنانية، جروس برس، طرابلس لبنان 1986
6- معتوق، فردريك، الموسوعة الميسرة في العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، ط.1، 2012
7- معتوق، فردريك، الهابيتوس العربي العنيد والعتيد، مجلة عمران للدراسات الاجتماعية، عدد 2916
8- همشري، عمر أحمد، التنشئة الاجتماعية للطفل، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، ط.2، 2013

- المقابلات:

· مقابلة مع حنة مشهور حنا، "قوالة" في المناسبات، العمر: 93 سنة، دبل، بتاريخ: 9/5/2019.
· مقابلة مع سعدى عساف، خياطة سابقة، "قوالة" في المناسبات، العمر: 75 سنة، رميش، بتاريخ: 18/3/2019.
· مقابلة مع غزالة حنا، "قوالة" في المناسبات، العمر: 85 سنة، دبل، بتاريخ: 19/11/2018.
· مقابلة مع مريم حنا، مزارعة، العمر: 62 سنة، دبل، بتاريخ: 8/3/2019.
· مقابلة مع موسى عساف المعروف بـ"أبو شوقي"، "قوال" في المناسبات، العمر: 80 سنة، رميش، بتاريخ: 18/3/2019.
· مقابلة مع نظيرا حنون، ربة منزل، العمر: 67 سنة، تبنين، بتاريخ: 22/3/2919.
· مقابلة مع يوسف حداد، متقاعد في السلك العسكري، العمر: 84 سنة، دبل، بتاريخ: 23/7/2018.

الحداثة (Al Hadatha) – ع. 227 - س. 30 - ربيع Spring 2023

ISSN: 2790-1785


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترحب مجلة الحداثة بالتعقيبات أو التصويبات أو التعليقات على ما ينشر فيها من أبحاث ودراسات، وتنشرها بحسب ورودها.
Al-Hadatha Journal welcomes any comments, corrections, or comments on the research and studies published in it, and publishes them as they are received.