♦ بطرس إلياس بعينو *
يعدّ المفكر اللبناني يوسف حنّا السودا (1888 – 1969م) رجلاً وطنيًّا، إذ عاش طوال حياته مناضلاً مميّزًا، ومفكرًا عميقًا مدركًا صيغة لبنان التعدّدية التي لا يمكن أن تعيش إلّا بالمواطنة الحقيقيّة، والانتماء الوطني الخالص، فبهما يمكن القضاء على المذهبيّة، والطائفية، والتحزّب الأعمى العشائري الذي يدور في حلقة ضيّقة، يجعل من لبنان كيانات متناقضة، ومتقاتلة، وبعيدة من المدنية الراقية، والمتقدمة، والمتطوّرة. سعى السودا إلى تحقيق ذلك عبر وسيلتين: جريدة "الراية" (1926 – ؟)، وحزب المحافظين اللبناني (1926 - 1927). فقد أراد من خلال جريدته وحزبه أن ينشر أفكاره في لبنان وبلاد الاغتراب، من أجل ترسيخ فكرة الكيان اللبناني، والانتماء لوطن له عراقته في التاريخ والجغرافية.
تكمن أهمية جريدة "الراية" بأنها كانت راية الاستقلال، وطنيّة بامتياز، ترفض الاستعمار والانتداب، وتنهج خطًا سياديًّا، في مرحلة كانت المنطقة قد رُسِمَت معالمها من قبل الدول المنتصرة وقبل نهاية الحرب الأولى ضمن خطط واتفاقات سريّة كاتفاقية "سايكس بيكو"، ومراسلات الحسين - مكماهون، ووعد بلفور. كانت الجريدة لسان حزب المحافظين. هذا الحزب الذي شاء من خلاله أن يرفع مستوى الحزبيّة في لبنان، ويجعل من محازبيه والمنضوين تحت لوائه، في خدمة الكيان اللبناني، الكيان المستقل بحدوده الجغرافية، في ظل علم واحد، وراية أرز واحدة.
أما إشكالية البحث فتكمن في مبادئ حزب المحافظين وأهدافه التي أراد المؤسّس من خلاله نهج سياسة جديدة للبنان المستقل. فهل نجح السودا في تحقيق ذلك؟ وبم تميّز حزب المحافظين عن سائر الأحزاب اللبنانية؟ ولماذا لم تنجح الأحزاب اللبنانية في تحقيق الاستقرار السياسي في البلاد؟
في السياق عينه، يمكن أن نطرح العديد من التساؤلات أيضًا، منها: هل حقّق حزب المحافظين انتشارًا واسعًا في لبنان وبلاد الانتشار؟ وهل كانت مهرجانات الحزب ولقاءاته في مختلف المناطق اللبنانية؟ وهل نجح الحزب في جمع مناصرين لبنانيّين من مختلف الطوائف؟ ولماذا لم يستمر الحزب طويلاً، وقد اختفى نشاطه بعد سنتين من تأسيسه؟ وما هي طبيعة الأحزاب اللبنانية؟
نعالج هذه الإشكالية والتساؤلات بموضوعية، عبر اتّباع المنهجين الوصفي والتاريخي لمقاربة البحث من مختلف جوانبه، وبحسب ما تقتضيه الدراسة العلميّة التي تستند على المصادر الأولية الأساسيّة، هذه المصادر التي نسعى من خلالها، إلى تجديد الكتابة التاريخية، أي إعطاء معلومات جديدة لم يُكشف النقاب عنها بعد، كون حزب المحافظين غير معروف في دراسة علميّة معمّقة. وتعتمد مصادر الدراسة على ركيزتين أساسيّتين:
أولاً: محفوظات البطريركيّة المارونيّة، إذ وجّه السودا رسائل عديدة إلى البطريرك إلياس الحويّك (1843 – 1931م) ما بين الأعوام 1922 و1925، أي قبل تأسيس جريدة "الراية" و"حزب المحافظين"، أظهر من خلالها مخاوفه من عدم تثبيت كيان لبنان، وضمّه إلى سوريا.
ثانيًا: جريدة "الراية" التي تعبّر عن فكره الوطني. اطّلعنا على أعدادها كافة لعامي (1927 - 1928) في مكتبة "جامعة الروح القدس" في الكسليك. كانت تتصدّر أولى صفحاتها افتتاحيات السودا، وقد تطرّق فيها إلى مواضيع مختلفة بحسب ما تقتضيه الظروف والأحداث. واكبت جريدة "الراية" نشاطات الحزب، ونشرت أهدافه، وشكّلت لسان حال حزب المحافظين اللبناني، إذ ركّزت في سياستها الداخليّة على فكر السودا ونهجه اللذين أرادهما للحزب. وكانت غاية حزبه الأساسيّة أن يلتفّ حوله اللبنانيون، ويشكّل هؤلاء كتلة نيابيّة وازنة يستطيع من خلالها تحقيق الحريّة والسيادة للبنان على كامل حدوده التاريخيّة التي عرفها منذ القدم، وأن يعمل (أي الحزب) على إرساء مفاهيم جديدة للحكم قائمة على النزاهة، والديمقراطية، والعدالة، والمساواة. فعندما يتحقّق كل ذلك يزداد الانتماء الوطني، ومحبة الوطن عند معظم اللبنانيّين دون استثناء.
شكّلت جريدة "الراية" وتأسيس حزب المحافظين ركيزتين أساسيّتين اعتمدهما السودا لنشر الوعي، وترسيخ الهويّة اللبنانية، وتحقيق الحكم الوطني. ومن خلال الجريدة المذكورة واكبنا نشاطات الحزب طوال عام 1927، أما في العام 1928 فلم نلحظ أي نشاط للحزب. لقد أقام الحزب نشاطات في العديد من المناطق اللبنانية، ومن خلال خطابات السودا وكتاباته في الافتتاحيات، تعرّفنا على مبادئ الحزب وأهدافه. لقد كانت أهداف الحزب سامية ونبيلة. وقد شكّل القدوة في العمل السياسي الراقي، إذ سعى إلى دعوة كل الطوائف كي يشكّلوا شعبًا لبنانيًا واحدًا ينعم بالأمن، والاستقرار، والنمو، والازدهار تحت راية الوطن، والإيمان بالوطن، وحب الوطن. حزب المحافظين ليس حزبًا شعبويًّا لأنه لا يثير الغرائز والتعصّب، بل يلم ويجمع من يريد أن يعيش في رحاب الوطن بالحرية والسيادة والاستقلال.
- أولاً: سيرة حياة يوسف السودا
ولد يوسف السودا في العام 1888 في بلدة بكفيا، والده حنا، ووالدته بادوان بنت الشيخ أمين نصار من بكفيا. دخل مدرسة مار عبدا في بلدته، وكان له من العمر خمس سنوات. في العام 1898 تابع دروسه في مدرسة الحكمة في بيروت. ثمّ انتقل إلى مدرسة القديس يوسف للآباء اليسوعيّين، وأنهى علومه فيها العام 1905. سافر إلى القطر المصري، والتحق في مكتب الحقوق الفرنسي في القاهرة، ونال الشهادة الجامعية العام 1908. تزوّج من كاترين عوّاد في 3 تموز 1930. أقام في الاسكندرية ومارس فيها مهنة المحاماة. حوّل جهوده إلى السياسة، فخدم القضية اللبنانية في الجمعيّات التي أسّسها أو انضمّ إليها، ووقف على منابر الخطابة ذائدًا عن الفكرة اللبنانية.[ii] أسّس "الاتحاد اللبناني" في مصر في العام 1909 مع نخبة من الأدباء اللبنانيين في المهجر للعمل على تحقيق استقلال لبنان وسيادته.[iii]
رأى السودا بعدما عاد إلى وطنه في العام 1922، أن إصلاح لبنان يجب أن يبدأ بالإنسان، فقد شاهد في الإسكندرية فرقة الكشّافة التي أسّسها الأمير عمر طوسون، ورأى مدى تمسّك أفرادها بالنظام وإقبالهم على التضحية واعتمادهم على النفس، وقرأ كثيرًا عن الحركات الثورية التي قامت على يد جيل جديد مدرّب. فعزم هو كذلك على تنشئة فتيان يؤمنون بلبنان وبالقيم. لذلك أنشأ فرقة أولى أطلق عليها اسم "السبّاقة" مع الأديب عبدالله حشيمه البكفاوي[iv] تيمنًا بطلائع جيش فخر الدين التي عرفت بهذا الاسم. وانطلقت فرق غيرها بعد حين في ميفوق وزغرتا وحصرون تزهو بعلم الأرزة الخضراء على قماشة بيضاء. ورسم لها هدفًا هو الاهتمام بالشباب والناشئة، وزرع محبة لبنان في قلوبهم وعقولهم، وحثّهم على التضحية في سبيله. وفي العام 1925 أسّس فرقة الكشّافة مع عبد الله فارس ووضع لها بعض الأناشيد الحماسية.[v] وفي العام 1926 أصدر جريدة "الراية"، ثمّ جدّد صدورها بعد أن أوقفتها سلطات الانتداب العام 1937،[vi] ثمّ أنشأ حزب المحافظين في العام 1926 أيضًا.[vii]
انتخب نائبًا عن جبل لبنان العام 1925، ثمّ عُيّن نائبًا عن الشمال العام 1929، وشغل عضوية لجنة الإدارة العامة والعدليّة. أسس في العام 1936 مع نخبة من اللبنانيّين الجبهة القوميّة والقمصان الخضراء. وفي العام 1938 وضع الميثاق الوطني مع عدد من السياسيّين، وجدّد منظّمة السياحة (1919 - 1937). وفي العام 1939 عمل على وضع دستور الجبهة اللبنانيّة، وطرح الفكرة القوميّة لبناء لبنان المستقبل. عُيّن وزيرًا للعدلية والشؤون الاجتماعيّة العام 1958. عمل سفيرًا للبنان في البرازيل من العام 1946 لغاية 1952، وسفيرًا لدى الفاتيكان من العام 1953 لغاية 1955.[viii]
للسودا العديد من المؤلفات، منها: نظام لبنان الأساسي وقرارات الدول (مصر 1910)؛ في سبيل لبنان (طبعة أولى مصر 1919، وثانية بيروت 1924)؛ استقلال لبنان والاتّحاد اللبناني في القطر المصري (مصر 1922)؛ في سبيل الاستقلال، مذكرات سياسيّة (1922)؛ بين القديم والحديث، بحث قانوني في نظام لبنان القديم ونظامه الحديث (الاسكندرية 1922)؛ رسالة إلى العميد، مقالات وجّهها إلى المندوب السامي في جريدة الراية عام 1927 (بيروت 1936)؛ منشورات الراية، افتتاحياته في جريدة الراية (1938)؛ لبنان وبروتوكول الاسكندرية (1944)؛ الأحرفية في قواعد اللغة العربية (1960)؛ الكتاب الأخضر (دون تاريخ)؛ الخيانة العظمى (دون تاريخ)؛ مرافعات منتخبة (1944)؛ تاريخ لبنان الحضاري (دار النهار، بيروت 1972). توفي السودا في الأول من آب 1969.[ix]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق