♦ نسرين حسين ناصر الدين *
نبذة عن البحث
لا شك في أن جائحة كورونا (COVID-19 pandemic) ألقت بثقلها على مختلف جوانب الحياة الإنسانية، والاجتماعية، والاقتصادية. وبما أن العقد يشكّل محور الأنشطة الاقتصادية وعصبها، فكان لا محال من أن تتأثر هذه العقود بهذه الجائحة لما فرضته من وجوب اتخاذ العديد من التدابير والاجراءات من قبل حكومات الدول بهدف الحدّ من انتشارها. فكان لهذه الاجراءات تأثيرٌ كبيرٌ على العقود وعلى التزامات المتعاقدين، حيث أفرزت آثارًا قانونية ومسّت بقدسية العقود التي لطالما تغنت التشريعات بها في سبيل المحافظة على الاستقرار العقدي، فجعلت من مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، مبدًا مقدسًا وأحاطته بهالة لا يمكن لأحد أن يتجاوزها أو المساس بها سواء من قبل أطرافه أو من قبل القاضي.
إلا أن جائحة كورونا أفرزت واقعًا قانونيًّا جديدًا متميزًا بما فرضته من تدابير قيّدت الأفراد والدول على حدّ سواء، حيث كان للإقفال العام والكامل لفترات طويلة، أثرٌ كبيرٌ على جميع المرافق، وكان أشدها تأثرًا التزامات المتعاقدين التي أصبح تنفيذها مستحيلًا، وفي كثير من الأحيان، مرهقًا ومهددًا بالخطر، الأمر الذي يستوجب ضرورة التدخل من قبل القضاء لرفع مخاطر هذه الجائحة التي قد تتداخل أوصافها القانونية. فكان لنا أن نتساءل: ما هو مصير مبدأ القوة الملزمة للعقد في ظل هذه الجائحة؛ أيبقى محتفظًا بقدسيته أم أن هذه الجائحة تلقي بأثرها عليه لتضفي شيئًا من المرونة في تطبيقه؟
يعالج هذا الموضوع من خلال مبحثين: الأول، يتعلق بالتكييف القانوني لهذه الجائحة لمعرفة في ما إذا كانت تستجمع شروط كل من القوة القاهرة أو نظرية الظروف الطارئة، ومن ثم البحث في تأثيرها على مبدأ القوة الملزمة للعقد في المبحث الثاني. وذلك في ضوء النصوص القانونية في كل من التشريع اللبناني والفرنسي.
- الكلمات المفاتيح: جائحة كورونا، العقد شريعة المتعاقدين، القوة القاهرة، الاستحالة الدائمة، الاستحالة المؤقتة، الظرف الطارئ، وقف تنفيذ العقد
***
شكلت جائحة كورونا فاجعة صحيّة واقتصادية عجزت أقوى دول العالم عن مواجهتها، حيث إنه بفعل هذه الجائحة أصبحت دول العالم معزولة عن بعضها البعض بفعل الإجراءات الاحترازية الصارمة التي اتخذت للحدّ من تفشي هذا الوباء ومحاولة احتوائه. ولم يكن لبنان بعيدًا من ذلك، حيث اتخذت الحكومة اللبنانية العديد من التدابير من فرض حظر للتجول إما بشكل كلّي أو جزئي، وإلى إقفال للحدود والمعابر البرية، وتوقيف لحركة الملاحة الجوية والبحرية، كل ذلك كان بهدف الخروج من هذه الأزمة بأقل خسائر ممكنة.
وإذا كان من شأن تفشي هذا الوباء أن أثّر على اقتصاديات العالم أجمع، فمن الطبيعي أن يؤثر بشكل قوي على اقتصاديات أي عقد وعلى قدرة المتعاقدين في تنفيذ عقودهم.
ولما كانت العقود تسهم في تنظيم العلاقات بين البشر في مختلف المجالات ومنها الاقتصادية، إلا أن حدوث أمور استثنائية كالزلازل والفيضانات والحروب والأوبئة من شأنه أن يؤثر على هذه العقود، ويحول دون تنفيذها أو يجعل تنفيذها مرهقًا، ولعل من أبرز هذه الحوادث الاستثنائية ما نعايشه اليوم من انتشار لفيروس كورونا التي اجتاحت العالم وألقت بثقلها على مختلف جوانب الحياة ومنها الجانب القانوني بعد اتخاذ الحكومات للعديد من الإجراءات الاحترازية بهدف حماية الصحة العامة للأفراد، ما أدى إلى إيقاف الكثير من الأنشطة الاقتصادية، مما أثر وبشكل كبير على اقتصاديات العقود وعلى التزامات الأفراد.
إن مواجهة هذه الجائحة باعتبارها حدثًا استثنائيًّا لا يمكن توقعه ولا يمكن دفعه، يتطلب منّا البحث عن حلول قانونية تساعد في وضع حدّ لآثارها السلبية على المتعاقدين الذين أصبحوا في حالة عجز عن تنفيذ التزاماتهم.
وإذا كان المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه العقود كافة هو أن العقد شريعة المتعاقدين، على اعتبار أن المتعاقد عندما تتجه إرادته لإبرام العقد إنما اتجهت إلى الالتزام بكل ما ينتج عنه من التزامات عملًا بمبدأ القوة الملزمة للعقد الذي يفرض على أطراف العقد الالتزام بمضمون العقد وتنفيذه، وبالتالي لا يستطيع أي طرف فيه أن يتحلل منه بإرادته المنفردة من دون موافقة الطرف الآخر، وإلا كان من شأن عدم التزامه بالعقد أن يرتب المسؤولية عليه.
إن أهمية هذا المبدأ تنبع من كونه يساهم في استقرار المعاملات، ويشكل ضمانة مهمة لتنفيذه وتحقيق الفائدة الاقتصادية المرجوة منه على اعتبار أن مبدأ القوة الملزمة للعقد يشكل القلعة الحصينة لمبدأ سلطان الإرادة على حدّ تعبير الفقيه الفرنسي جون كار بونييه (John Carbineer)، إلا أن مواجهة الحوادث الاستثنائية التي قد تحدث أثناء تنفيذه ومنها جائحة كورونا، يجعل من الأخذ به على إطلاقه أمرًا مجحفًا بحقّ المتعاقدين الذين أصبحت مصالحهم مهددة بالخطر نتيجة عدم تمكنهم من الوفاء ببعض أو كافة التزاماتهم التعاقدية ما يدفعهم إلى البحث عن أي وسيلة تمكنهم من طلب الاعفاء من تنفيذها مؤقتًا أو دائمًا.
في هذا الإطار بات من الضروري البحث عن وسائل قانونية يمكن للمتعاقدين اللجوء إليها لدفع المخاطر التي قد تلحق بهم نتيجة هذه الجائحة.
من هنا، كان لا بدّ من العودة إلى ما تبناه الفقه القانوني والاجتهاد القضائي لمواجهة مثل هذه الحوادث الاستثنائية، حيث تبنى هذان الأخيران وسيلتين قانونيتين هما: القوة القاهرة والظروف الاستثنائية. الأولى منهما ترمي إلى مواجهة الحالات التي يصبح فيها الالتزام العقدي مستحيل التنفيذ، والأخرى ترمي إلى مواجهة الحالات التي لا يصبح فيها الالتزام مستحيل التنفيذ إنما مرهقٌ للمدين. إلا أن الوسيلتين وإن تشابهتا في الشروط الواجب توافرها، إلا أنهما تختلفان في آثارهما على العقد. كما أن سلطة القاضي تختلف بحسب تكييفه للحادث الاستثنائي في ما إذا اعتبره قوة قاهرة أم ظرفًا طارئًا.
- أهمية الدراسة
تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها تسلط الضوء على جائحة انتشرت في كل أنحاء العالم ومعرفة آثارها على مبدأ أساسي يقوم عليه العقد ألا وهو مبدأ القوة الملزمة للعقد. بالإضافة إلى تحديد التكييف القانوني لهذه الجائحة، وتبيان الوسائل القانونية المتاحة لمواجهتها. وذلك من أجل إحاطة هذه الجائحة بعدد من الدراسات نظرًا إلى حداثتها وآثارها التي امتدت لتشمل الميادين كافة.
- أهداف الدراسة:
تتجلّى أهداف الدراسة في:
- تحديد قدرة البيئة القانونية في لبنان على تشخيص جائحة كورونا من خلال استقراء النصوص القانونية التشريعية والقانونية لأجل استخلاص بعض الحلول المناسبة للتخفيف من الآثار السلبية لهذه الجائحة على التزامات المتعاقدين.
- تحديد الطبيعة القانونية للجائحة في ضوء النظريات القانونية.
- تحديد السلطات التي يتمتع بها القاضي في مواجهة آثار هذه الجائحة.
- مشكلة الدراسة
تتمحور إشكالية البحث حول ما هو مصير مبدأ القوة الملزمة للعقد في ظل جائحة كورونا؟
ويتفرع منها عدة تساؤلات:
- هل تشكل هذه الجائحة استثناءً أم خروجًا على مبدأ القوة الملزمة للعقد؟
- ما هي الطبيعة القانونية لجائحة كورونا؟
- ما هو مصير الالتزام العقدي في ظل هذه الجائحة؛ هل يبقى المتعاقد ملزمًا في تنفيذ العقد الذي أبرمه أم أن ذلك أصبح دربًا من دروب الخيال لخروج هذا الأمر عن إرادته؟
- هل يمكن تطويع القواعد العامة في قانون الموجبات والعقود اللبناني لأجل الوصول إلى حلول تمكن القاضي من التعامل مع هذه الجائحة لحماية المتعاقدين؟ وما هي سلطة القاضي في هذا الإطار؟
(...)
***
* باحثة لبنانية – أستاذة في كلية الحقوق- قسم القانون الخاص - الجامعة الإسلامية في لبنان
[1] عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الأول، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، ط. 3، 1998، ص 120
[2] المادة 221 من قانون الموجبات والعقود اللبناني: "إن العقود المنشأة على وجه قانوني تلزم المتعاقدين، ويجب أن تفهم وتفسر وتنفذ وفاقًا لحسن النية والانصاف والعرف".
ARTICLE 1134 du Code civil français: Les conventions légalement formées tiennent lieu de loi à ceux qui les ont faites.
Elles ne peuvent être révoquées que de leur consentement mutuel, ou pour les causes que la loi autorise.Elles doivent être exécutées de bonne foi.
[3] Gabriel Marty, Pierre Raynaud, droit civil, les obligations tome I,2eme edition, 1998, Sirey, p:41
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق