واقع اللغة العربيّة في لبنان اليوم في أسباب التردي واقتراحات الحلول (نماذج مختارة من نصوص إعلاميّة وتربويّة)

د. غنوة عباس نظام - مجلة الحداثة

غنوة عباس نظام *


نبذة عن البحث:


إذا كانت اللغة "أداة تواصل وفهم وإفهام، وحلقة تربط ماضي الشعوب بحاضرها، بفضلها تتفاعل الحضارات وتتطوّر المجتمعات. وهي، إلى ذلك، ذاكرة التاريخ ووعاء الثقافة وأساس الهويّة، والعنصر الأساسيّ في كلّ قوميّة، والمرآة التي ترى فيها كلّ أمّة مقوّمات شخصيّتها والوسيلة الفاعلة لصون وحدتها والحفاظ على حضارتها"[1]، فماذا عن الأمّة اللبنانيّة والواقع المتردّي للّغة العربيّة في مؤسّساتها، وهي اللّغة الرسميّة لدولة لبنان بحسب دستوره؟ فأيّ باحث لغويّ يلحظ، من دون عناء، هذا التقهقر في اللّغة العربيّة، مضمونًا وأسلوبًا، صرفًا ونحوًا وركاكةً وأخطاء شائعة. وذلك يبدو جليًّا في مختلف القطاعات: العامّ والخاصّ، وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئيّة والإلكترونيّة، وفي المؤسّسات التربويّة على أنواعها. يهمّنا منها، في بحثنا هذا، المؤسّسات الرسميّة، وبالتحديد الجامعة اللبنانيّة والجريدة الرسميّة.
رأى الأمين العامّ الأسبق للأمم المتّحدة كوفي أنان (Kofi Annan/ 1938- 2018)، منذ عقدين من الزمن، أن "التحوّل الكبير والمثير في تكنولوجيا الاتّصالات، بدءًا من الشبكات الفضائيّة والبريد الالكترونيّ، بل والمحطّات الواسعة الانتشار، كلّ ذلك قد أثّر وسوف يؤثّر في تشكيل عالمنا المعاصر"[ii]. وفعلًا، إنّ هذه الثورة المعلوماتيّة الاتّصاليّة، من خلال الإعلام الفضائيّ وشبكة الانترنت وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعيّ، طرحت على المجتمعات تحدّيات جوهريّة تطال الهويّات القوميّة والوطنيّة وتراثات الشعوب وعاداتها وتقاليدها، وليست اللّغات بمنأى عن تأثيراتها. فمن الطبيعيّ أن يرضخ الناس، مهما اختلفت أهدافهم وتنوّعت مسؤوليّاتهم ومستوياتهم، لمتطلّبات العالم الجديد، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، والتي تهيمن عليه اللّغات الأوروبيّة خصوصًا الإنكليزيّة منها، بغية التواصل وتأمين مستلزمات الحياة، و"باتت غالبيّة اللّغات الأخرى معرّضة للانكفاء، وبات المثقّفون في أنحاء العالم يعبّرون بوسائل شتّى عن خشيتهم من التسطيح الثقافيّ، وحصريّة التواصل بلغة واحدة مع مرور الزمن"[iii]. ويضاعف هذه الخشية الشعور بضعف الانتماء الوطني، لارتباط اللغة، كما أسلفنا، بحضارة كلّ أمّة وثقافتها وتاريخها ومستقبلها. و"تُعَدّ فرنسا من بين البلدان التي تعالت فيها الأصوات، منذ أمد بعيد، مندّدة بتقهقر الفرنسيّة وتراجع مكانتها لدى الفرنسيّين جرّاء استفحال ظاهر الاقتراض المُعجميّ والمُصطلَحيّ من اللّغة الانكليزيّة في المجالات المختلفة"[iv]. وخوفًا من تقهقر اللغة وذوبانها، صدرت اعتراضات، ووُلدت مقاومة للحفاظ على كيان اللغة الفرنسيّة ومستواها. وقد أدّى ذلك "إلى إصدار قرارات للحدّ من تغلغل الوحدات المعجميّة الإنكليزيّة في اللّغة الفرنسيّة لتحلّ محلّها وحدات معجميّة فرنسيّة"[v]. أمّا في الأمّة العربيّة، فـ"إن وزارات التربية العربيّة ومراكز البحوث التربويّة فيها والجامعات والمدارس على أصنافها، والمعلّمين أيضًا، ومعهم الأهل وأبناؤهم، هم جميعًا على قناعة تامّة بأنّ اللّغة العربيّة لم تعد لغة معرفة أو لغة إنتاج علوم، وإنّ تعلّمها يُصبح بمثابة لزوم ما لا يلزم"[vi].
إذًا، واقعٌ مرير تعانيه لغات كثيرة، واللّغة العربيّة إحداها، كما سنرى في ما يلي، من أخطاء لغويّة وركاكة وعيوب في التركيب. ثغرات فادحة وفاضحة تعود إلى إهمال ولا مبالاة وضعف في الشعور القوميّ والانتماء الوطنيّ. و"لولا العيب والحياء والأسباب الدينيّة، لرأينا المجتمعات العربيّة تسلك ذلك السبيل الذي سلكه بعضها، بأن أصبحت لغة التواصل فيها، ولغة المعاملات على أنواعها، رسميّة وغير رسميّة، تتمّ كلّها باللغات الأجنبيّة التي تتناسب بسلاسة ويُسر مع استعمال الحواسيب والمحمولات والدخول إلى مواقع التواصل العلميّة والاجتماعيّة"[vii].
انطلاقًا من هذه الفرضيّات، نطرح إشكاليّة بحثنا: هل اللّغة الرسميّة في لبنان، وهو رائد نهضة اللغة العربيّة في مستهلّ القرن العشرين الفائت في وجه التتريك، في خطر وقد أصابتها لوثة "العولمة" (Globalization) الآنفة الذكر؟ وهل واقعها متردٍّ إلى درجة يصعب إيجاد حلول لإنقاذها؟ وفي كلّ الأحوال، ما واجبات المسؤولين والقيّمين على المؤسّسات الرسميّة لنهضة اللغة العربيّة فيها، نهضة شبيهة بما حصل منذ نحو قرن من الزمن، ولكن هذه المرّة في وجه العولمة واللّغة العاميّة والإهمال...؟
إنّها أسئلة تطرح نفسها، وتعكس واقعًا تشاؤميًّا في ما خصّ مصير اللّغة العربيّة. لعلّ هذا البحث، بوضعه الإصبع على الجرح، يُساهم في إيجاد الحلول الضروريّة، قبل فوات الأوان.
يضمّ البحث مبحثين: الأوّل يتطرّق إلى العيوب التي تشوب اللغة العربيّة في لبنان، في القطاع العامّ، بعد إلقاء الضوء على بعض القطاع الخاصّ؛ والثاني يقترح حلولًا مناسبة للعلاج.

***


* دكتورة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية


[1] عمر بو عرم، "اللغة العربية واقعها ودور المركز التربوي في تعلّمها"، مقال، المجلّة التربويّة، المركز التربوي للبحوث والإنماء، ع 45، لبنان آذار 2010، ص 45.

[ii] كوفي أنان، من كلمة ألقاها باسمه ممثّل برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ في البحرين فيصل عبد القادر في المؤتمر الدوليّ السادس الذي نظّمه مركز الدراسات العربيّ – الأوروبيّ سنة 1998 في البحرين، كتيّب "الإعلام العربيّ – الأوروبيّ حوار من أجل المستقبل"، 1998، ص.19.

[iii] د. ليلى مليحة فيّاض، افتتاحيّة المجلّة التربويّة، المركز التربويّ للبحوث والإنماء، ع 45، آذار 2010، ص 3.

[iv] محمد أنيس مورو (باحث تونسي)، "السلفية اللغويّة أو تحنيط اللغة العربيّة"، مقال، نشرة "أفق"، مؤسّسة الفكر العربيّ، ع 74، بيروت تشرين الثاني 2017، ص 4.

[v] م. ن..

[vi] د. حسّان قبيسي (أستاذ جامعي لبناني متخصّص في علوم التربية)، "تعليم اللغة العربية... مشكلة؟!"، مقال، "نشرة أفق"، مؤسسة الفكر العربي، ع 38، بيروت تشرين الثاني 2014، ص 9.

[vii] د. حسان قبيسي، م. س..


الحداثة عدد 195/196 - خريف 2018


ISSN: 2790-1785


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترحب مجلة الحداثة بالتعقيبات أو التصويبات أو التعليقات على ما ينشر فيها من أبحاث ودراسات، وتنشرها بحسب ورودها.
Al-Hadatha Journal welcomes any comments, corrections, or comments on the research and studies published in it, and publishes them as they are received.