علي عارف نسر*
رؤياهُ أرّقتِ النخيلْ!
وتوارث الضّعفاءُ رعشةَ
صوتِهِ المبحوحِ جيلًا
بعد جيلْ...
فعلى هضاب القلب
حطّ جناحُ إبراهيمَ مكسورًا
كأنّ شراعَ لحيته تمزّقُهُ الرّياحُ
على رصيفِ وسادةِ الحلمِ
الطويلْ..
ودموعُه راحت تجمّعُ ما تبقّى
من أصابعه... يسابقُ نومَه
قبل انفضاضِ بكارة الأضواءِ
أو قبل اكتئاب القمح في صيفِ
الحقولْ..
كانت مواويل السواقي
ترفع الماءَ انحدارًا وانكسارًا...
رايةٌ نزلت من الأعلى منكّسةً
وطيفٌ قد تسمّر فوق أسئلةٍ
مشفّرة الحلولْ...
وضع اليدين وراء ظهر العمرِ
راح يقلّبُ الأوراقَ
بين الآه والجدرانِ
لم يجدِ الجوابَ
فكاد يبحرُ زورقًا متشظّيًا في اللاجهاتِ
ولم تعد نيرانُه بردًا عليه ولا سلامًا
كان ينظر نحو إسماعيلَ نظرة تائهٍ
نسي النبوّة لحظةً أو ربّما عنها تخلّى
نادى الإله صدى بكاءٍ: يا إلهي أين وعدك
لي؟ عليَّ تجلَّ..
لم يبقَ في قلبي سوى تنهيدةِ المحرابِ..
إلّا معبدٌ متخلّعٌ فيه المصلّى..
نطق السّؤالَ بغصّة الإنسانِ
بين الصحو والنوم القليلْ..
يا ربُّ، حدّقْ بي! ألستُ أنا
الّذي حمّلتَني حجر السوادِ وقلتَ لي:
أنت الحنيفُ وأنت قد صرتَ
الخليلْ؟
... متعثّرًا بالدمع راح يدورُ
هل يوقظ اسماعيلَ أم يرمي
وشاحَ منامه في رجفة النجماتِ
ثمّ يسيرُ؟
في دفترِ الرّسلِ القدامى صفحةٌ
ما عادت الأيّامُ تذكرُها
تسطّرَ في هوامشها
على ما قد تبعثر من عصاه
توكّأتْ أنّاتُهُ وتموّجاتُ سُعالِه وبقيّة
الجسدِ الهزيلْ.
يمشي
فيلتفتُ الحنينُ إلى سليلِ العقمِ
يرفع وجهَهُ المهجورَ، يرتقُ من
خيوط الشّمسِ حبلًا..
يا بنيّ، سمعْتُ صوتًا..
سرْ لنجمعَ ما تيسّرَ من حُطيباتِ
التّلولْ.
كانت نُظيراتُ الصبيّ كدهشةِ
النسماتِ مزّقها الخريفُ
طريئة كلماتُه كرؤوس عشبٍ أينعتْ
بين الفصولْ..
وعلى ضفاف الدارِ لعبتُهُ تحدّقُ
في البعيدِ، كأنّها عرفتْ محاورة الكبارْ
لم يكترثْ لندائها الممتدّ مرآةً
يعكّرها الغبارْ...
.. متدحرجًا بين الرّبى
يتصفّح الأشواكَ بالخطواتِ
في طرقٍ يحبّرُها الحصى
يشتمُّ رائحة الدماءِ
كأنّه أنثى يفاجئها المحيضُ مبكّرًا
ليصيرَ شمسًا تدمن الآهاتِ
عند النزفِ
في غسق البحارْ..!
سقط الصبيُّ على نهود الدّربِ
أتعبه الصدى
وروائح الشكوى تسلّقتِ النهارْ
وعلى سلالمَ من رجاءْ
نجمًا يجافيه الضياءْ
صار الصبيُّ...
تُسابقُ الأوقاتُ طلعتَهُ
وذاكرةٌ تسير به إلى قدّامِه
لا لا خيارْ!
يتساءل الغصن الطريّ
على حياضِ جبينِه الحيرى
وفي عينيه ألفُ تساؤلٍ
وطفولةٌ مسبيّةٌ
منذ الوصولْ..
في قلبِه المثقوبِ سنبلةٌ
تنامْ
وعلى حدودِ يديهِ أغنيةُ
الينابيعِ التي
رفّت على الرّمضاءِ
أشواطًا كأجنحةِ الحمامْ..
بتراقصِ العنّابِ في شفتيهِ
كان يحاولُ استنطاقَ والدِهِ
عن الأسرارِ في تنهيدِهِ المحروقِ
يأتيه الجواب بلا كلامْ..
لم يستطع ردَّ التحيّةِ صوبَ أغنية
الأزاهيرِ الحزينةِ
فالمناديل الّتي رقصَتْ على همس
الحداءِ تناثرتْ في الصمتِ
كالأمواج حين تشيبُ بين الرمل
والأقدامِ..
والوردُ اليتيمُ
يهيمُ
قنديلًا بلا زيتٍ
يزنّرُهُ السّخامْ..
وعلى فراشِ مماتِه،
وعلى شفيرِ حياتِهِ
ما أغمض العينين من وجعٍ
ولا فزعٍ
كما ظنّوا، حياءً أطبق الأهدابَ
عصفورًا تسمَّرَ بين أقفاصِ
القبولْ..
... سكّينةٌ عمياءُ ترسم للضعيف وصيّةً
حتّى يصيرَ الموتُ
للضّعفا البديلْ..
.... متدثّرًا بأنينِه، متلحّفًا بلهاثِه
كالنورسِ المجروح راح يعاتبُ الغيماتِ
يشكو داخلَ الرّوحِ التي خفقتْ
كما الأمواج في أعماق بحرٍ حائرٍ
ضلّ السّبيلْ..
لم يُعطَ حقًّا في اختيارِ الإختبارِ
ولم ينلْ شرفَ التّمرّدِ كي يكونَ
حكايةَ الأزمانِ والآتين من وجعٍ
ومن عرقِ الشتولْ...
ما كان يوسفَ كي تراوده زليخةُ
أو يرى يعقوب عند هبوب رائحةِ القميص
فيغلب الشكُّ اليقينَ، لعلّها تحلو الحقائقُ
وامتحاناتُ السّماءِ بلا حرابٍ
أو صليلْ...
ضحك الصبيُّ... رأى ضعيفًا آخرًا
يتحمّلُ الأعباءَ، حيث اللهُ سرّح حبرَ معجزةٍ
فكان الكبشُ بيرقَها المرفرفَ تحت
مائدةِ العروشْ..
عيناهُ سارحتانِ
يندلقُ التحجّرُ منهما جريانَ مرجٍ
فوق مِجمرة المدى
والدّمعةُ الحبلى بملح الذّبح
تلتهمُ الرموشْ...
يا كبشَ محرقةِ الكبارْ!
هل موتُك المحتومُ جبنٌ
أم قرارْ؟
كيف ارتضيتَ الضّعفَ دون
تمرّدٍ؟
كيف اتّخذتَ الموتَ أرديةً
وكيفَ سكبتَ في قدحِ الزمانِ
مدامعَ الجمرِ المخثّرِ في وريدِك
كي نعيشْ؟
صار انهزامُك نشوةً
للعابرين على هوامشِ دفتر الأيّام
أو نصرًا
يحقّقه زعيمٌ نرجسيٌّ أو
تعاقرُه الجيوشْ..
كيف ارتشفتَ الكأسَ أوحالًا
وإبراهيمُ مشّط شيبَ لحيتِهِ
وجرّ وليدَهُ كي يشربَ الأنخابَ منتصرًا
تجاوزه امتحان اللهِ
فوق برودة الجمراتِ في عينيك
لكنّ السؤالَ يؤرّقُ الألبابَ
هل تتغيّرُ الأقدارُ؟
هل سيموتُ إبراهيمُ واسماعيلُ كي تحيا
الكباشُ بلا جراحٍ
أو خدوشْ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق