♦ خضر ضيا
منذ الانفجار – الجريمة/ الكارثة - الذي وقع في مرفأ بيروت عصر 4 آب (أغسطس) مخلِّفًا عشرات الشهداء وآلاف الجرحى، ودمارًا شاملاً في المرافق الاقتصاديّة كافَّةً، وحتَّى يوم 11 آب 2020، عندما زرت الأخ الصديق فرحان صالح، الأمين العام لحلقة الحوار الثقافي في منزله في الدِّبِّية، وأنا كما آخرون، أجدني لم أستفق من هول الصَّدمة بعد، ولم أتجرَّأ أن أكتب كلمةً واحدةً، ليقيني أنَّه مهما نكتب عن بيروت سيظل دون المستوى الذي يليق بعروسة البحر المتوسط، ودون أن يفي بيروت زهرة المدائن حقَّها.
وكان أن تكرَّم عليَّ الأخ فرحان صالح بنسخةٍ من كتاب أستاذي الرَّاحل الدكتور يوسف حوراني الذي أدين له بالكثير من توجُّهي الثقافي، والأثر البالغ الذي تركه في بنية ذهنيَّتي الحضاريَّة، وفي قراءاتي ونمط تفكيري. حصلت على نسخة من كتاب "ملحمة بيروت الميمونة... قصَّة الصِّراع الخالد من أجل بيروت"، منشورات دار الثَّقافة في بيروت 1999، الكتاب الذي كنت أتشوَّق لتصفُّحه منذ مدَّةٍ طويلةٍ.
الكتاب هو ترجمة وشرح وتقديم الدكتور حوراني لنصوص من (الديونيزياكا) للشاعر باللغة اليونانيَّة "ننُّوس" من العهد الروماني، نصوص تتعلَّق بمدينة بيروت، أنصح الذين يحبُّون هذه المدينة الميمونة الحصول عليه وتصفُّحه والاطِّلاع على تلك الكنوز الحضاريَّة والمثيولوجيَّة الشاعريَّة التي تأسر القارئ من الغلاف حتَّى آخر حرفٍ من كلماته.
وننُّوس، وُلد في مصر وتثقَّف في مكتبة الإسكندريَّة في نهاية القرن الرَّابع للميلاد. ولكنَّه لـــــم يكتب عن مصر، بل حفظ المركز الأوَّل لأرض لبنان، فكتب بعاطفة ومعرفة عن بيروت وصور، جاعلاً مركز الشَّرف في عالمه للأولى ومُثبتًا نسبًا إلهيًّا للثانية.
واخترت لكم من بين نفائس الكتاب، ما يلي:
- هي بيروت
خلال الألم أعطت (أفروديت) للعالم وليدتها الحكيمة فوق كتاب الشرائع (الأتيكي)، كما تفعل نساء (لاغــــونيا) اللواتي يلدن أطفالهنّ َفوق درع حربيٍّ من الجلد.
لقد ولدت طفلتها الجديدة "بيروي" من رحمها الأموميِّ بمساعدة القاضي هرمس الحكيم، الرجل الذي قام بدور القابلة...
هكذا ظهرت الطُّفلة للنُّور.
استحمَّت الفتاة بالرِّياح الأربع المتنقِّلة بين جميع المدن، مالئةً الأرض بمبادئ بيروت.
وكان "أوقيانوس" الرَّسول الأوَّل لتشريعات الطُّفلة الوليد، فكان يُرسل أمواجه إلى أسِرَّة الأطفال يلفُّ بها خصر العالم كحزامٍ من ماءٍ دائم التَّدفُّق.
والزَّمن المعاصر له، بيديه الدَّهريَّتيْن، كان يلفُّ الطُّفلة المولودة بثوبٍ من العدالة، متنبِّئًا بالأشياء التي ستحدث.
لقد أراد التَّخلُّص من عبء العمر، كما تفعل الحيَّة حين تتخلَّص من جلدها القشريِّ الضَّعيف وغير النَّافع، وذلك كي تنمو فتوَّته من جديد حين الاستحمام بأمواج الشَّرائع.
غنَّت الفصول الأربعة مترنِّمةً عندما ولدت "أفروديت" ابنتها المدهشة بيروت. (41: 170 – 185)
ونقرأ لدى الشاعر صورًا شعريَّةً متميِّزة، حيث نقرأ وصفًا لمنظر جبال لبنان قرب بيروت، تقول فيه أفروديت :
سأزرع السماء على الأرض قرب البحر الذي هو أُمِّي (41: 416)
وبيروت هذه التي رأى فيها "ننُّوس" تحقيقًا لرؤياه الخلاصيَّة، المجدِّدة للزَّمن، كان وصفها بأنَّها:
"أرومة الحياة، مرضعة المدن، مفخرة الأمراء، أولى المدن المنظورة، الأخت التَّوأم للزَّمن، المعاصرة للكون، كرسيُّ هرمس، أرض العدالة، مدينة الشرائع، "عرزال" البهجة، منزل البافية (أفروديت)، معبد كلِّ حبٍّ". (41: 144)
أتمنَّى أن أكون قد أوفيت بيروت بعض حقِّها، وسددت جزءًا من دَيْنٍ لها في أعناقنا. والرَّحمة لأستاذي في الجامعة وزميلي في ما بعد في حلقة الحوار الثقافي الدكتور يوسف حوراني.
وبيروت لن تموت، ستقوم قريبًا من تحت الرماد، بسواعد أبناء الوطن من الجيل الجديد الذين هبُّوا لتضميد جراحها ولم ينتظروا الطبقة السياسيَّة الفاسدة المجرمة التي سقتها من ذلك الكأس وراحت تغسل يديها من دم المدينة بكلِّ وقاحةٍ ودمٍ بارد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق