نجم إميل بو فاضل *
نبذة عن البحث
لم يبدأ تاريخ جودت حيدر الفعليّ يوم خروجه إلى النور في 23 نيسان من العام 1905 في مدينة بعلبك. إنما بدأ حينما اختار أن يلحق، في صيف العام 1914، بعائلته في المنفى، بعد أن أحسّ أن النفي الروحيّ الذي أُقحم فيه أشدُّ قسوة من النفي الجسدي الذي لحق بأهله إثر صدور المرسوم، سنة 1914، القاضي بنفي آل حيدر، رجالًا ونساءً، إلى بلاد الأناضول، مع التنفيذ الفوريّ (ص. 24). إنه الخيار المعاند الذي وضعه أمام الاختبار الحقيقي لقسوة الحياة وعذاباتها، فما كان له إلّا أن يتحطّم أمام ضربات الحياة القاسية أو أن يصمد قويًّا في وجهها فينتصر ويتابع الانتصارات حتى يومنا هذا (ص. 26) مناضلًا قويًّا، تجوب قصائده أنحاء العالم بالثورة على الظلم وبتأييد الثوّار المناضلين في شتى أقطار الأرض (ص. 202).
مضى جودت حيدر في رحلته من المنفى عن عائلته إلى المنفى معها لا يحسب للتعب حسابًا ولا يأبه بالمشقّات... لكن رحلة العذاب الممضّ التي كتبتها عليه وعلى أمثاله يدُ العثمانيّين مرّت مُرّةً في حلقه وعلى نفسه وأعصابه، فأحسّ أن الأيّام تحاول تحطيم كبريائه، وخاف من أن ينقطع فيه السبيل (ص. 28). راحت الأفكار تتزاحم كالموج في رأسه، فتماسك وفكّر مليًّا في الماضي الذي اختارته له الدنيا، وفي الحاضر الذي يتشارك معها في اتخاذ القرار تلو القرار، وفي المستقبل الذي صمّم على الانفراد في ركاب غماره. هو الذي سيركب أمواج البحار والمحيطات للوصول إلى غايته (العلم والمعرفة) متّخذًا سيرة أخيه محمد رستم نبراسًا ينير له الطريق (ص. 47).
- الكلمات المفتاحية: جودت حيدر، أدب السيرة، أدباء بعلبك، أدباء المهجر
- واقعيّة السيرة والحلم
يروي جودت حيدر هذه البداية من مشوار عمره ** على مسافة عقود من الزمن، يعود إليها بالذاكرة ويستحضرها بالمخيال، لكنها تسلس تحت قلمه كيوميّات يدوّنها عند كلّ مغيب، وكأنه لم يولد مصادفةً في الحقبة التي تثبّت فيها مذهب الواقعيّة في الفنّ والأدب والشعر، الذي أزهر مع فلوبير [i] وزولا [ii] في فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين، ومع جوفانّي فيرغا [iii] في ايطاليا. فالشاعر حيدر لم يختلق شخصيّات من مخيّلات الابداع، ولم يروِ سيرةً من فرضيّات المجاز، ولم ينظُم شعرًا من بنات الأحلام. بل سار بقلمه على دروبٍ وطِئَتها أقدامه، وركب بريشته البحرَ تتقاذفُ طموحاتِه أمواجُ العواصف الهوجاء التي تترك المسافرين في حالة من القلق والخوف والرعب القاتل كمن ينتظر ساعة الموت (ص. 53).
***
* باحث لبناني. رئيس قسم الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإانسانية (الفرع 2) – الجامعة اللبنانية
** هو عنوان الكتاب الذي يروي حياة جودت حيدر بصيغتي المتكلّم والغائب. جمعه الدكتور يوسف أحمد بقاعي، ونقّحه الدكتور ميشال خليل جحا، وقدّم له العميد الدكتور أنيس مسلّم. أُنحز طبع هذا الكتاب على مطابع شمالي آند شمالي، بيروت، لبنان، في العام 2002. لا يتألّف هذا الكتاب من مذكّرات مدوّنة، إنما يستمدّها من الذاكرة. إنها "سيرة رجل عاش حياة مديدة وكافح وجاهد وتركها للقارئ لكي يقتدي بها ويهتدي بهديها ويستنير بنورها ويستمدّ منها الشجاعة" (ص. 24).
[i] يُعَدّ غوستاف فلوبير (Gustav FLAUBERT)، الروائيّ الفرنسيّ، واحدًا من مؤسّسي المدرسة الواقعيّة في الأدب. وُلد في العام 1821 في مدينة روان (Rouen) الفرنسيّة وتوفّي في مدينة كرواسيه (Croisset) في العام 1880 بعد صراع طويل مع مرض عصبيّ عضال ألمّ به منذ شبابه. أصدر في العام 1857 روايته الشهيرة "مدام بوفاري" (Madame Bovary) التي تمتاز بأسلوبها وواقعيّتها. يروي فيها فلوبير قصّة إيمّا بوفاري، وهي قصّة مستوحاة من حدث واقعيّ، بنبرة واقعيّة ولغة طبيعيّة وأسلوب موضوعيّ، ينقله من المدرسة الرومنسيّة التي تغذّى منها في صباه وانعكس في أعماله الأولى إلى المدرسة الواقعيّة التي تهدف إلى تمثيل العالم بما هو عليه.
[ii] اميل زولا (Emile ZOLA): أديب فرنسيّ متميّز. وُلد في باريس في العام 1840 وتوفّي في العام 1902. يُعَدّ رائدًا للمذهب الطبيعاني في الأدب، فهو عاش في عصر شهد ازدهار العلوم الطبيعية التي تعتمد المعايير العلمية في البحث. ينظر إلى الرواية بوصفها عملًا "اختباريًّا" يعتمد المعايير الموضوعيّة التي يعتمدها البحث العلميّ. وهو بالتالي يستخدم الأدب لتحليل الحياة وتوثيق أعراضها الاجتماعيّة بعزل عن الخيال. فالفنّ بالنسبة إليه تصوير موضوعيّ لواقع تحكمه قوانين الطبيعة. حدّد في روايته الصادرة عام 1880 تحت عنوان "الرواية الاختباريّة" (Le Roman expérimental) الإطار الموضوعي الذي ستدور حوله رواياته العديدة.
[iii] جوفاني فرغا (Giovanni VERGA): روائي وكاتب مسرحيّ، ولد في العام 1840 في مدينة كاتانيا الواقعة في جزيرة صقلّية وتوفّي في العام 1922. تعرّف إلى المذهب الطبيعاني في الأدب الفرنسيّ، لكنّه أسّس للمذهب الحقيقاني (verismo) الذي يعتمد، على غرار الواقعيّة، الأدب الموضوعيّ المتجرّد من العواطف والآراء الشخصيّة، يقدّم الواقع كما يتمثّل. اعتمد فرغا هذا الأدب في أقاصيصه وقد عُرف بأدب "النكوص"، روى به عن المزارعين وصيّادي الأسماك وعن حياة الناس المكدَّرين. له مؤلّفات عديدة أبرزها "الحياة في الحقول" (1880) و"انقباض الهمّة" (1881) الذي يروي قصّة عائلة صقليّة تمتهن صيد الأسماك وقد كدّرتها المصائب.
[i] يُعَدّ غوستاف فلوبير (Gustav FLAUBERT)، الروائيّ الفرنسيّ، واحدًا من مؤسّسي المدرسة الواقعيّة في الأدب. وُلد في العام 1821 في مدينة روان (Rouen) الفرنسيّة وتوفّي في مدينة كرواسيه (Croisset) في العام 1880 بعد صراع طويل مع مرض عصبيّ عضال ألمّ به منذ شبابه. أصدر في العام 1857 روايته الشهيرة "مدام بوفاري" (Madame Bovary) التي تمتاز بأسلوبها وواقعيّتها. يروي فيها فلوبير قصّة إيمّا بوفاري، وهي قصّة مستوحاة من حدث واقعيّ، بنبرة واقعيّة ولغة طبيعيّة وأسلوب موضوعيّ، ينقله من المدرسة الرومنسيّة التي تغذّى منها في صباه وانعكس في أعماله الأولى إلى المدرسة الواقعيّة التي تهدف إلى تمثيل العالم بما هو عليه.
[ii] اميل زولا (Emile ZOLA): أديب فرنسيّ متميّز. وُلد في باريس في العام 1840 وتوفّي في العام 1902. يُعَدّ رائدًا للمذهب الطبيعاني في الأدب، فهو عاش في عصر شهد ازدهار العلوم الطبيعية التي تعتمد المعايير العلمية في البحث. ينظر إلى الرواية بوصفها عملًا "اختباريًّا" يعتمد المعايير الموضوعيّة التي يعتمدها البحث العلميّ. وهو بالتالي يستخدم الأدب لتحليل الحياة وتوثيق أعراضها الاجتماعيّة بعزل عن الخيال. فالفنّ بالنسبة إليه تصوير موضوعيّ لواقع تحكمه قوانين الطبيعة. حدّد في روايته الصادرة عام 1880 تحت عنوان "الرواية الاختباريّة" (Le Roman expérimental) الإطار الموضوعي الذي ستدور حوله رواياته العديدة.
[iii] جوفاني فرغا (Giovanni VERGA): روائي وكاتب مسرحيّ، ولد في العام 1840 في مدينة كاتانيا الواقعة في جزيرة صقلّية وتوفّي في العام 1922. تعرّف إلى المذهب الطبيعاني في الأدب الفرنسيّ، لكنّه أسّس للمذهب الحقيقاني (verismo) الذي يعتمد، على غرار الواقعيّة، الأدب الموضوعيّ المتجرّد من العواطف والآراء الشخصيّة، يقدّم الواقع كما يتمثّل. اعتمد فرغا هذا الأدب في أقاصيصه وقد عُرف بأدب "النكوص"، روى به عن المزارعين وصيّادي الأسماك وعن حياة الناس المكدَّرين. له مؤلّفات عديدة أبرزها "الحياة في الحقول" (1880) و"انقباض الهمّة" (1881) الذي يروي قصّة عائلة صقليّة تمتهن صيد الأسماك وقد كدّرتها المصائب.