سماح وليد معتوق الصباغ *
- نبذة عن البحث
آمن القسّام بوجوب نشر روح الثورة، الهادفة إلى تحرير فلسطين من الانتداب البريطاني، والأطماع الصهيونية، التي ازداد نهشها للأراضي الفلسطينية، مع ارتفاع معدلات الهجرة اليهودية، في ظل حماية سياسية عسكرية بريطانية، هادفة إلى زرع كيان يهودي داخل الأرض العربية الفلسطينية التي اختلفت طرق الدفاع عنها، من دبلوماسية معوّلة على قوة المجتمع الدولي، وتحديدًا الدولة البريطانية، إلى كفاح مسلّح وجّه سهامه بادئ الأمر بوجه الإنكليز، رافضًا مبدأ التحاور أو التفاوض معهم، ومعلنًا الثورة ضدّهم، دفاعًا عن الحقوق العربية المغتصبة، التي ناضل من أجلها القسّام واستشهد فداءًا لها([i]).
- الكلمات المفتاحية: عز الدين القسّام، القضية الفلسطينية، الانتداب البريطاني، التاريخ العربي الحديث
***
- أولاً: عز الدين القسّام المولد والنشأة
أ. مولده ونسبه
محمد عز الدين القسّام هو ابن المتصوّف عبد القادر القسّام، المشتغل في علوم الشريعة، ووالدته تُدعى حليمة قصاب. وُلد في قرية جبلة الأدهمية([ii])، قضاء مدينة اللاذقية السورية. وقد اختلف البعض حول تاريخ ميلاده، حيث تذكر بعض المصادر أنه وُلد في العام 1871([iii])، في حين يرجّح آخرون مولده إلى العام 1882([iv]).
ب. نشأته
ينتمي القسّام إلى أسرة متديّنة، اشتهرت بحبّها للفقه، واهتمامها بأمور الشريعة والدين وسط أجواء من الفقر والعوز، عانى منها القسّام خلال نشأته، متأثّرًا بأبيه المهتّم بنشر العلم والهداية، بخاصة أن القسّام تلقّى علومه في زاوية الإمام الغزالي([v])، وعمل بعدها مدرّسًا لأصول قراءة وحفظ القرآن في قريته، ومن ثم اشتغل مستنطقًا في المحكمة الشرعية([vi]). وهكذا، ساهمت البيئة الريفية المثقلة بالمفاهيم والقيم الإسلامية في تشرّب القسّام لأصول الدين، وميله نحو الفقه، وهو الذي عُرف عنه حبّه للتأمل والعزلة وطول التفكير([vii]).
ت. دراسته
سافر القسّام إلى القاهرة لتلقّي العلوم في العام 1896، حيث تتلمذ في الأزهر على يد الشيخ محمد عبده([viii])، وكان له صلات جمعته بالسيد رشيد رضا([ix]). دامت مدّة دراسته زهاء عشر سنوات([x])، استطاع خلالها القسّام أن يكوّن ثقافته الدينية التي تجذّر فيها توجّهه الإسلامي الثوري([xi])، المتأثّر بواقع العالم الإسلامي – العربي المنتمي إليه، والمتميّز بتبلور الحركة الإصلاحية الدينية الشاملة التي غُرست جذورها داخل التربة المصرية، المنتجة لأهم المفكرين العروبيين الإسلاميين والثوريين، أمثال رفاعة الطهطاوي([xii])، وجمال الدين الأفغاني([xiii]).
كان للتجربة التحررية الإصلاحية المصرية دور مهم في إطلاق روح التمرّد، والمقاومة لدى القسّام، الذي تابع خلال وجوده فيها، تطوّر الحركة السياسية بزعامة أحمد عرابي([xiv])، وصولاً إلى مصطفى كامل([xv])، وسط نهج وطني، غلبت عليه أفكار الطهطاوي الذي أقرن الإيمان بحبّ الوطن، بقالب ثوري رفع لواءه الأفغاني، وحمل شعلته الإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا، عبر دعوتهم إلى الإصلاح الديني([xvi]) القائم على التضامن الإسلامي، المميّز لتيّار الجامعة الإسلامية، ومبادئها الداعية إلى اتحاد الفكر والنضال على صعيد الأمة الإسلامية، ووحدة الإسلام والعروبة، التي عبّر عنها عبد الرحمن الكواكبي([xvii]) بمفهوم معاصر دقّ من خلاله ناقوس الثورة، الداعية إلى مقاومة الاستبداد والظلم. وهذا ما أرخى بظلاله على شخصية القسّام التحرّرية وفكره الصلب، الذي جعله من أشدّ القادة المجاهدين تماسكًا وتقشّفًا وورعًا([xviii]). بعد أن أتمّ القسّام دراسته في الأزهر، عاد إلى قريته جبلة([xix]) كعالم دين، ومصلح وواعظ، ومرشد يقرن العمل بالدراسة، ويعود دومًا إلى أصول الدين والشريعة والفقه([xx]).
ث. جهاده
خاض القسّام مهمّتين ثوريّتَين، كان لهما أثر كبير في صقل إرادته الجهادية وإغنائها. تتمثّل مهمّته الأولى بمناصرته للعرب المسلمين ضد العدوان الأجنبي، المتمثّل بمحاصرة الأسطول الإيطالي لطرابلس الغرب، العام 1911، حينها، قاد القسّام التظاهرات في بلدته جبلة، هاتفًا مع الجموع ضد العدوان الإيطالي الذي جمع القسّام لمواجهته تبرّعات واسعة، كما ترأس حملة تطوّع وافق عليها العثمانيون، ولبّاها عشرات السوريين المتوجّهين إلى الإسكندرونة بانتظار وصول الباخرة التي ستقّلهم إلى أرض الجهاد على الساحل الشمالي لإفريقيا. إلاّ أن رحلة القسّام الجهادية الأولى قد باءت بالفشل، بعد أن اعترفت الحكومة العثمانية بضم البلد العربي المسلم إلى إيطاليا، وبعد انتظار دام أربعين يومًا، عاد القسّام ورهطه خائبين إلى جبلة التي استفادت من التبرّعات المجموعة للجهاد، عبر بناء مدرسة لتعليم الأمّيين، أشرف عليها القسّام([xxi]).
قارع القسّام بمهمّته الجهادية الثانية، الفرنسيين القادمين إلى الساحل السوري في خريف العام 1918. حيث عمد إلى بيع بيته- الذي لا يملك سواه- ليشتري بثمنه 24 بندقية، تمكّنه من الانطلاق في معاركه الجهادية ضد الفرنسيين الذين واجهوا العديد من الثورات في سوريا، ومنها ثورة إبراهيم هنانو([xxii]) المقاوم، الرافض لأي تعاون مع الدولة المنتدبة([xxiii])، بالإضافة إلى ثورة الشيخ صالح العلي([xxiv]) المعروفة بثورة العلويين التي نشبت بداءة في الجبال المحيطة بقلعة صهيون فوق اللاذقية.
شارك القسّام في انتفاضة العلويين، رافعًا راية الثورة ضد الفرنسيين الذين استطاعوا التغلّب على ثورة الشيخ صالح العلي، أولاً، كما حسمت معركة ميسلون الواقعة في 24 تموز العام 1920 مصير الثورة السورية الكبرى لصالح القوات الفرنسية، ثانيًا، بخاصة بعد استشهاد قائدها يوسف العظمة([xxv])، ومغادرة الملك فيصل([xxvi]) ورجاله سوريا، والحكم على القسّام بالإعدام غيابيًا([xxvii]) بسبب تمسّكه بخطه الثوري، ما حدا بالفرنسيين إلى ملاحقته إلى دمشق، التي غادرها نحو فلسطين، حيث عمد إلى تأسيس حركته الجهادية، التي استمرت إلى حين استشهاده في العام 1935. قاوم القسّام عسكريًّا الوجود البريطاني وحلفائه الصهاينة الطامعين بنهش الأرض الفلسطينية. وكان لنضاله هذا أثر واضح على حركة المقاومة الفلسطينية، التي تفجّرت بعد وفاته مع بداية الثورة الكبرى العام 1936([xxviii]).
- ثانيًا: مواقف القسّام من القضية الفلسطينية
(...)
***
* باحثة لبنانية - حائزة شهادة دكتوراه في التاريخ في الجامعة اللبنانية
الهوامش
[i] حسين حجازي: "الحركة القسّامية ودلالاتها التاريخية والعقائدية"، شؤون فلسطينية، ع. 154 – 155، مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، كانون الثاني / شباط 1986، ص 43 – 44.
[ii] جبلة الأدهمية: لُقّبت مدينة جبلة بـ"الأدهمية"، نسبةً إلى إبراهيم بن الأدهم المتصوّف الزاهد الذي عاش فيها، وبعد وفاته في العام 778، أقيم له في جبلة ضريح وجامع يحمل اسمه.
[iii] بيان نويهض الحوت: الشيخ المجاهد عز الدين القسّام في تاريخ فلسطين، دار الاستقلال للدراسات والنشر، بيروت 1987، ص 25.
[iv] سميح حموده: الوعي والثورة - دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسّام-، ط.2، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان – الأردن 1986، ص 18.
[v] أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الصوفي الشافعي الأشعري: (1058 – 1111) أحد أعلام عصره ويعدّ من أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، كان فقيهًا وأصوليًّا وفيلسوفًا، وكان صوفيّ الطريقة، شافعيّ الفقه إذ لم يكن للشافعية في آخر عصره مثلَه. وكان على مذهب الأشاعرة في العقيدة، وقد عُرف كأحد مؤسسي المدرسة الأشعرية في علم الكلام، وأحد أصولها الثلاثة بعد أبي الحسن الأشعري. لُقّب الغزالي بألقاب كثيرة في حياته، أشهرها لقب "حجّة الإسلام"، وله أيضًا ألقاب مثل: زين الدين، ومحجّة الدين، والعالم الأوحد، ومفتي الأمّة، وبركة الأنام، وإمام أئمة الدين، وشرف الأئمة. كان له أثرٌ كبيرٌ وبصمةٌ واضحةٌ في عدّة علوم مثل الفلسفة، والفقه الشافعي، وعلم الكلام، والتصوف والمنطق.
[vi] علي حسين خلف: تجربة الشيخ عز الدين القسّام، ط.1، دار ابن رشد للنشر والتوزيع، عمان – الأردن 1984، ص 11.[vii] سميح حموده: الوعي والثورة - دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسّام-، م. س.، ص 20.
[viii] محمد عبده: (1849 – 1905) عالم دين وفقيه ومجدد إسلامي مصري، يُعدّ أحد رموز التجديد في الفقه الإسلامي، ومن دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي، ساهم بعد التقائه بأستاذه جمال الدين الأفغاني في إنشاء حركة فكرية تجديدية إسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تهدف إلى القضاء على الجمود الفكري والحضاري، وإعادة إحياء الأمة الإسلامية لمواكبة متطلبات العصر.
[ix] رشيد رضا: (1865 – 1935) محمد رشيد رضا، حسيني النسب، أحد رجال الإصلاح الإسلامي، عالم في الأدب والحديث والتاريخ والتفسير، تتلمذ على يد محمد عبده، أشهر آثاره هي مجلة "المنار" التي أصدر منها 34 مجلّدًا.
[x] هناك اختلاف في تحديد عدد الأعوام التي أمضاها القسّام خلال دراسته في الأزهر، ذلك أن هناك بعض المصادر التي ترى أن مدة دراسته لم تتعدَّ الثماني سنوات، لأنه نال شهادة الأهلية والتي يتطلّب إنجازها هذه المدة الزمنية فقط. لمزيد من التفاصيل راجع: علي حسين خلف: تجربة الشيخ عز الدين القسّام، م. س.، ص 11 – 12.
[xi] خير الدين الزركلي: الأعلام، ط. 3، الجزء السابع، د. ن.، بيروت 1969، ص 149.
[xii] رفاعة رافع الطهطاوي: (1801- 1873) أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث، لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان.
[xiii] جمال الدين الأفغاني: (1838 – 1897) محمد جمال الدين بن السيد صفتر الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، أحد الأعلام البارزين في النهضة المصرية ومن أعلام الفكر الإسلامي بالنسبة للتجديد.
[xiv] أحمد عرابي: (1841 – 1911) قائد عسكري وزعيم مصري، قاد الثورة العرابية ضد الخديوي توفيق ووصل إلى منصب ناظر الجهادية (وزارة الدفاع حاليًا)، وكان أميرالاي (عميد حاليًا).
[xv] مصطفى كامل: (1874 – 1908) زعيم سياسي وكاتب مصري. أسس الحزب الوطني وجريدة اللواء، نادى بإنشاء الجامعة الإسلامية. يُعدّ من أكبر المناهضين للاستعمار، كما عُرف بدوره الكبير في مجالات النهضة مثل نشر التعليم وإنشاء الجامعة الوطنية. نادى حزبه برابطة أوثق بالدولة العثمانية.
[xvi] أهم معالم النهضة الإصلاحية الدينية التي عايشها القسّام هي: أولًا: العودة بالإسلام إلى أصوله، وإسقاط البدع والخرافات، ونبذ الطائفية. ثانيًا: النظرة إلى تاريخ الإسلام نظرة سلفية صالحة، تمتد إلى بداية القرن الهجري الأول، وتستلهم سيرة الرسول الكريم والصحابة الأوائل. ثالثًا: الثورة على الاستبداد والاستعمار الأجنبي، واجب جهادي. رابعًا: الإسلام والقومية موضوعان لا تناقض بينهما. وما بين الإسلام والعروبة ترابط لا يمكن انفصامه.
[xvii] عبد الرحمن الكواكبي: (1855 – 1902) من روّاد النهضة العربية، ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، الذي يعدّ من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي.
[xviii] بيان نويهض الحوت: الشيخ المجاهد عز الدين القسّام في تاريخ فلسطين، م. س.، ص 26 – 27.
[xix] يختلف الباحثون في تاريخ عودة القسّام إلى بلدته جبلة، حيث يذكر البعض أنه عاد في العام 1903، أمّا آخرون فيعتبرون أن عودته كانت في العام 1906، ولعلّ المرجّح أن تكون عودته قد حصلت في العام 1904 على اعتبار أن مدة الأهلية هي ثماني سنوات.
[xx] علي حسين خلف: تجربة الشيخ عز الدين القسّام، م. س.، ص 11.
[xxi] زهير مارديني: ألف يوم مع الحاج أمين، دار العرفان، بيروت 1977، ص 82.
[xxii] إبراهيم هنانو: (1869 – 1935) زعيم سوري. قاوم الانتداب الفرنسي. وكان أحد قادة الثورة السورية الكبرى.
[xxiii] خير الدين الزركلي: الأعلام، ط.3، ج.1، د. ن.، بيروت 1969، ص 35.
[xxiv] صالح العلي: (1883 – 1950) قائد الثورة السورية ضد الفرنسيين في جبال اللاذقية.
[xxv] يوسف العظمة: (1884– 1920) قائد عسكري سوري استشهد في مواجهة الجيش الفرنسي في معركة ميسلون في 24 تموز العام 1920. وزير للحربية في الحكومة العربية في سوريا بقيادة الملك فيصل الأول.
[xxvi] فيصل بن حسين الهاشمي: الملك فيصل بن حسين بن علي الهاشمي (1883 – 1933) ثالث أبناء شريف مكة حسين بن علي الهاشمي. وأول ملوك المملكة العراقية (1921 – 1933) وملك سوريا (آذار 1920 حتى تموز 1920).
[xxvii] لمزيد من التفاصيل، حول ثورة إبراهيم هنانو، وثورة الشيخ صالح العلي، ومعركة ميسلون، راجع: فيليب خوري: سوريا والانتداب الفرنسي – سياسة القومية العربية 1920 – 1945-، مؤسسة الأبحاث العربية، ط.1، بيروت 1997، ص 130 – 144.
[xxviii] علي حسين خلف: تجربة الشيخ عز الدين القسّام، م. س.، ص 28-29.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق