♦ كامل فرحان صالح*
♦ الحداثة شتاء 2019
لا تشبه "الثورة" في إغرائها عيون مديحة كامل، ولا فتنة سلاف فواخرجي، ولا دلع لطيفة التونسية، بل وقعت بين فكّي جوع عربي قديم، كاد إرث ثلاثية التابو: الجنس والدين والسياسة، أن يحجب رغوة حليبها الفائض بالجذور.
إنها ثورة محركها تراكم منسوب الملل، الملل من كل شيء؛ صبغة شعر الحكّام، أناقتهم الكلاسيكية وهم يتشدقون بالحديث عن الاشتراكية، والليبرلية، واليسارية، واليمينية، والأصولية، والتحررية... ملل كاد لقدمه أن يتفسخ، كجلد حيّة.
الملل هو الروح المحرك للثورة، في سياق حضور إنساني كان يهرب باستمرار من الروتين والرتابة إلى كشف يثير الأسئلة والقلق والدهشة. فمن إنسان خاف من القمر فعبده، إلى آخر خاف من الرعد فعبده، إلى إنسان قدّس الجسد الذي فدى العالم من خطيئته الأولى ومن خلاله لامس التجلي الإلهي، وصولًا إلى إنسان عرف الله بالعقل. هذه الحركية التاريخية لعبادة الإنسان أمكن للمرء أن يطلق على كل مرحلة منها ثورة، بحيث هي حالة تنفي ما سبقها لتخلق حالتها الجديدة، وساعية في الوقت نفسه إلى استشراف مجهول تخاف منه، وتسعى إلى فهمه بعد أن يدب فيها الملل مما هو سائد.
ولا شك أن هناك من يرى أن للملل هذه السطوة الظاهرية، مشيرًا إلى أن الحضارة الإنسانية تبرهن ما هو عكس ذلك، بحيث روح المغامرة والاكتشاف وحبّ السيطرة والتحكم، وفكرة أن نجعل الحياة أكثر سهولة، لها الدور الأبرز في تقدم الإنسانية المستمر. في المقابل، لعل الكثير من المثقفين اطلع على رواية ألبرتو مورافيا "السأم"، التي يذكر فيها أن سبب خلق الأرض والإنسان والوجود كله يعود إلى سئم دبّ في مزاج الإله، هذه الإشارة التي تنتمي إلى عالم سردي إبداعي ما هي إلا ملامسة دقيقة لخطورة السأم/ الملل، ومدى تأثيره في حركة الدنيا، ودفعها إلى المابعد بخطوات مترددة أحيانًا، وبخطوات واثقة وثابتة أحيانًا أخرى.
الملل هو رد فعل وليس الفعل، وينتج من ركود ما أو نسق دائري يمارس دومًا الحركة نفسها. وفي معنى آخر، إذا كان الملل ناتجًا من رتابة الدائرة، فان الثورة تأتي لتكسر هذه الدائرة، وتحاول أن تجعلها خطًا يصل إلى نقطة مختلفة، لم تُعبر من قبل، فهي، وفق هذا السياق، أرض بكر لها وهجها الخاص ومساحاتها التي بحاجة إلى اكتشاف، وفهم، وإدراك، وساعتئذ تعود لتتخذ شكل الدائرة، فتأتي ثورة أخرى لتكسر هذا الطوق من جديد وتدفعه إلى الأمام.
هذه الحركة التي تشابه الحركة الميكانيكية شكلًا، لا تتم بسهولة، بحيث كل مرحلة ينتج منها مريدون، يستبسلون بالدفاع عنها، والحفاظ على نقاطها المحددة والمعروفة، إنما تختلف كل مرحلة بحجم القوة المدافعة عنها، والأشخاص الرافعين لوائها لتبقى ضمن سياقها التي انطلقت منه وتراكمت فيه. إذ هؤلاء المريدون يحاولون باستمرار تبرير الإحساس بالملل بالتجربة والامتحان، وبالتالي يركز خطابهم دومًا على الصبر، والتحلي بالمقدرة على تراكم حركة الدائرة، ليفوزوا بالوقوع/ الموت وهم ضمنها لا خارجها.
أخيرًا، إن ما يمكن الوقوف عنده اليوم، هو طرح مجموعة من الأسئلة المتشابكة، تتمحور في الآتي:
لماذا تهترئ الثورة في مهدها؟
هل لأن مكوّنات انطلاقتها تختلف عن الثورات التي سجلها التاريخ، أم لأن روح الثورة نفسها، شاخت، والملل فقد معناه؟