♦ فريد إمام عثمان *
نبذة عن البحث
حظيت الدراسات المتعلّقة بالمكان، في الأعمال الروائيّة، على وجه الخصوص، بنصيب كبير من اهتمام الدارسين، إلاّ أنّ المتتبّع لتلك الدراسات، يلحظ ندرة تلك الدراسات في مجال الشعر، وقد يعود هذا إلى الدور الحيويّ الذي أدّاه المكان في بنية الرواية، ومدى تأثيره في تحقيق الفنّيّة المطلوبة، وانصراف مجموعة كبيرة من الدارسين عن دور المكان في القصيدة الحديثة.
لماذا كان البدء بمفردة "الملامح"؟
لقد بات من المعلوم أنّ القصيدة الحديثة ذات بنية خاصّة، يحمّلها الشاعر رؤيته إلى العالم من حوله، ويحاول تحقيق الفرادة التي تميّز شاعر من آخر. والإحاطة بالملامح تتضمّن تحديد الخطوط العامّة التي حاول الشاعر وضع اليد عليها، أمّا الدلالات فتعني فهم النصّ، انطلاقًا من الأبعاد التي رمى الشاعر إليها. وتعتمد الدراسة المنهج السيمائيّ الذي يُعدّ منهجًا محايثًا، يتلمّس شبكة العلاقات القائمة بين عناصر الدالّ ومداليلها، وأثر المحيط الخارجيّ، والبنية العميقة للنصّ. ما ذلك إلّا لأنّ النصّ الشعريّ بنية ونظام علاميّ، في آن معًا.
لماذا التركيز على المكان؟
قد تفرض اللغة الشعريّة تصنيفها للعالم داخل القصيدة، وتكون معبّرة عن رؤية الشاعر، تلك الرؤية/ البصمة التي لا تشاكلها أيّة رؤية أخرى. وبهذا تنتج الرؤية مكانًا جديدًا ذا أبعاد فنّيّة وكثافة معيّنة، فهو ليس إطارًا للأحداث فحسب، ولكنّ له أبعادًا أدبيّة من خلال استكشاف "ثروة الوجود المتخيّل"([i])، وعندما نجد ذكرًا للمكان ما يقارب تسعين مرّة، في مجموعة الباحث والناقد والشاعر اللبناني الدكتور علي مهدي زيتون "سجال الرؤية والرؤيا"، لعلّ من الضرورة بمكان، أن نولي هذا العامل ما يستحقّ، في هذه الدراسة المتواضعة، وهذه المجموعة، حظيت بإعجاب القرّاء والمتذوّقين، وذلك في مجموعة من المحاور التي تناولناها بالبحث، "ومن ثمّ فإنّ تفسير النصّ وتأويله، يتوقّف إلى حدّ كبير على مقاربة الفضاء الروائي، بما يتضمّنه من أمكنة متنوّعة ومتعدّدة، حيث تفرز هذه الأمكنة في علاقاتها ببعض دلالات متكثّرة"([ii]).
- المحور الأوّل: المكان/ الرمز
يُستحسن الوقوف أمام جوانب من المحطّات التي تطرّق الشاعر فيها إلى ذكر المكان، مع ما حملت تلك الإشارات إلى المكان من دلالات.
إنّ أوّل ما يشدّ اهتمام المتلقّي هو المكان/ الرمز المتمثّل في (البحر).
يقول علي مهدي زيتون:
"قد كان البحر يحاورني
بلسان البحر
وكان لساني معقودًا
تنقصه الخبرة"([iii]).
ولمّا كان البحر يرمز إلى غير دلالة، ويرتبط ذلك بالسياق الذي يرد فيه؛ ولأنّ القراءة "جهد تحويليّ، يتمثّل الرموز والعلامات، وهي معرفة وتمثّل وامتصاص"([iv])، وبما أنّ الرمز يحقّق وحدة القصيدة، فإنّه يقدّم، هنا، دلالة أسطوريّة، ورمزيّة، "من خلال شحنه بهوامش دلاليّة، توسّع معناه"([v]). وعندما يكون البحر هو المحاور، فإنّ عجز الشاعر عن متابعة الحوار، يكشف عن عمق من أعماق الرمز الذي حمّله الشاعر (زينب)، وهي الأنثى التي تفرّدت بخصائص لم تمتلكها أنثى غيرها. ولعلّ ارتباط الرمز/ البحر برمز زينب/ الأنثى، يعيد إلى الذاكرة الجمعيّة جانبًا من المأساة الإنسانيّة التي لم يستطع التاريخ أن يمحوها.
ومن حقّ القارىء أن يتساءل عن دور المكان في شعر "زيتون"، وعلاقته بالرمز. وانطلاقًا من الرائي والرؤية، وانفعال الشاعر، وسماع صوت (زينب، وسعدى، ورقيّة)، وتمثّله للمكان النابض بالجراح والأحزان، هذا السماع يشقّ طريقه إلى الحضور الذي يقود إلى الحركة والثورة التي غدت حاجة كونيّة. وتحوّل الشاعر إلى عاشق تعبير عن سطوع الحبّ عنده، وإلاّ كيف يمكن تفسير هذا الحضور الكثيف للضياء والعطاء والإيمان بالثورة؟"([vi]).
ويتحدّث الشاعر عن مكان آخر، فيقول:
"ونيسابور أنثى،
عشقَ الخيّامُ فيها كلَّ شيءْ.
إنّ نيسابورَ أرضُ الله في الخيّامِ كانت
إنّ نيسابورَ كرمٌ وخمور؟"([vii]).
(...)
***
* باحث من لبنان - دكتور في كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية
[i]) غاستون باشلار، جماليّات المكان، تر. غالب هلسا، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط 3، 1987، ص 31.
[ii]) عاطف حميد عواد، شعرية الفضاء الروائي، منشورات حركة الريف الثقافية، لا طبعة، 2005، ص 4.
[iii]) علي مهدي زيتون: سجال الرؤية والرؤيا. بيروت، دار العودة، ط 1، 2105، ص 35-36.
[iv]) عاطف جودت نصر: النص الشعري ومشكلات التفسير. بيروت، مكتبة لبنان\ ناشرون، ط 1، 1996، ص 25
[v]) محمد عبد المطلب: كتاب الشعر. بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 2002، ص 57.
[vi]) عمر شبلي: وجع الخلوة في استقبال الحال، مقدمة كتاب سجال الرؤية والرؤيا، ص 10.
[vii]) علي مهدي زيتون: سجال الرؤية والرؤيا. ص 51
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق