د. سامي السهم *
ورد في العدد الفائت من "الحداثة" إفتتاحية رئيس التحرير فرحان صالح وعنوانها: "القومية بجلباب ديني.. نقد الفكر القومي"، أن تيارات النهضة العربية في العصر الحديث تمثلت في تيارين رئيسين؛ أحدهما متأثر بالتنوير الغربي، والثاني تأثر بالأفكار القومية، سواء على غرار قومية الخلافة العثمانية، أو القومية الأوربية. غير أن الغرب استطاع أن يفكك إرث الدولة العثمانية، ويعيد تشكيل العالم العربي من خلال التحكم في واقعه ومصيره، ومن ثم صار الغرب يتصدر المشهد الكوني بما يملكه من علوم وتكنولوجيا، وبما ينتهجه من علمانية، قامت على أنقاض كل من الفكر الخرافي والفكر الديني؛ وهي مصدر حداثته ومرجعيتها. وبذا صار الغرب إطارا مرجعيا وأنموذجا للتقدم، لذا، عندما أراد كمال أتاتورك تحديث تركيا، اعتمد على هذه الحداثة الغربية، فألغى الخلافة الإسلامية وتبنى بدلا منها العلمانية 1928، فحرر بذلك العقل التركي من الموروثات الدينية المعادية للحداثة والعلم. وانعزلت تركيا عن محيطها العربي/الإسلامي، وانكفأت على ذاتها، وحددت مسارها التحديثي في العلمانية على النمط التغريبي الأوربي.
لكن فرحان صالح يرى أن جهود أتاتورك شابها التسرع والسطحية، وهو ما مكّن أردوغان (بالتحالف مع الإخوان المسلمين)، وخصمه المعارض أربكان، أن ينقلبا عليه، ويعيدا الدعوة إلى إحياء إرث الخلافة الإسلامية.
ويخلص صالح إلى أن فصل الدين عن الدولة هو الدواء الذي لا بد منه لمعالجة مشكلات الوحدة الوطنية، لأنه هو الذي يحقق المواطنة، ومن ثم المساوة، بين مواطني الدولة كافة.
وقد كان وضع الأقليات - خصوصا الدينية - التي كانت تُعامل وفق "نظام أهل الذمة" والذي أكد على دونية هذه الأقليات مقارنة بإخوانهم في الدولة من المسلمين- على رأس التغيرات المهمة، حيث تم الاعتراف بهذه الأقليات ضمن النسيج الواحد للمجتمع المسلم، وبالتالي مساواتها بغيرها من المسلمين وفقا لمبدأ المواطنة. وكان "نظام أهل الملة" هو ما اعتمد عليه المستعمر للتدخل في شؤون الدولة العثمانية، حيث تدخل لحماية الأقليات الدينية من التعصب الديني لدولة تقول إنها مسلمة، ومن ثم ترفع عنصر ديني من مواطنيها على غيرهم. وحتى بعد إلغاء الخلافة العثمانية، ظلت الدول العربية تذكر في دساتيرها أن "الإسلام هو دين الدولة"، وربما كان هذا الأساس الملي/الديني/الطائفي هو مبرر قيام دولة بني صهيون ذات المرجعية الدينية اليهودية. وكانت الكارثة الكبرى عندما ظهرت التيارات الأصولية السلفية الإسلامية لتروّج أن معركتهم مع أبناء صهيون هي معركة "دينية" طرفاها المسلمون من جهة واليهود من جهة أخرى.
يعتبر صالح أن العلمانية "هي الدواء الذي لا بد منه لمعالجة مشكلات الوحدة الوطنية، وهي تمهيد لتحقيق المساواة والمواطنة والليبرالية"، وأن الإسلام الآن صار بعيدا من هموم مسلمي العصر وقضاياهم.
كما يؤكد الكاتب أن العادات الموروثة غلبت على الجوهري الروحي في الدين الإسلامي، مما يستوجب ضرورة مراجعة عقلية ناقدة للفكر الديني الذي صار عاجزا عن التكيف مع متطلبات العصر، ومن ثم عائقا أمام نهضة المسلمين، يقول صالح: "المجتمع المدني هو المجتمع الذي تنمو فيه العلوم على أشكالها، وتتطور بتطور مساهماتها في الإنتاج والتقدم العلمي. فالإندماج المجتمعي لا يمكن أن يتحقق إلا بتحرير المجتمعات من القيود الدينية، فإثبات الحقائق العلمية لا يعتمد على أي نوع من أنواع السلطة الروحية، بل على التجربة والمنطق، وهما الحكم الوحيد للعقل".
يرصد صالح عددا من مظاهر عجز الفكر الديني الإسلامي في مسايرة روح العصر، ومنها فشل فكرة الشورى مقابل فكرة الديموقراطية الغربية، وفكرة أسلمة العلوم، وفكرة الاقتصاد الإسلامي غير الربوي من خلال البنوك الإسلامية، وأفكار تهميش المرأة واعتبارها نصف رجل، والبسملة التي تبدأ بها النصوص البشرية مما يضفي عليها نوعا وهميا من القداسة، وعادة رفع الآذان بالميكروفون مما يجبر غير المسلمين على الاستماع لشيء قد يودون عدم الاستماع إليه، وقوانين الأحوال الشخصية التي تضع حواجز بين البشر وفقا لتصنيفهم الديني، فتفرق بينهم بدلا من تجميعهم، واعتبار الجنة - بالمفهوم الإسلامي - مفارقة للدنيا مما يحيل المسلمين إلى انتحاريين يبحثون عن الجنة بالشهادة، أو كسالى يستبدلون العمل بمخدر الجنة ونعيمها الموعود بعد الممات. ويرى أن الجنة الحقيقية على الأرض يصنعها الإنسان بالعمل، لا في السماء، ولا بعد الممات.
يشدد صالح على ضرورة مراجعة الفكر الديني وأبعاده السياسية والتربوية لمعالجة مشكلاتنا، وتصويب نظرتنا إلى الحياة، وضرورة وضع قانون مدني للأحوال الشخصية بعيدا من عنصرية وطائفية وأنانية التيارات الدينية. كما يذكر في مقالته المطولة، أن الفاشية التي انتشرت في الغرب، انتقلت إليه من الشرق، ومن ثم يجب تصويب العلاقة بين الشرق والغرب من خلال: العودة إلى تعاليم عصر التنوير، والأخذ بالعقد الاجتماعي ومدنية الدولة وتداول السلطة.
ينتقد صالح فكرة الربط بين الديني والقومي، ويعدّه ربطا خاطئا لأنه يساهم في استعلاء العنصر العربي على غيره من العناصر العرقية الأخرى كالكردية والأمازيغية والأرمنية، وهذا يدخل بالباحث إلى "الموقف العربي من الأقليات القومية"، والذي يؤكد فيه أن الأقليات القومية عنصر فاعل في التاريخ العربي وضرب مثلا بالقائدين: طارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي.
يصل الكاتب في النهاية إلى أن العلمانية هي أهم محاور نقلة العرب من عصورهم الوسطى إلى العصر الحديث.
والملاحظ على مقالة فرحان صالح دعوتها الملحة إلى العلمانية، مما يستدعي وقفة مع "العلمانية" للتأكيد على أهم معانيها بالشرح والتوضيح، معتمدين في ذلك على الفيلسوف الكوكبي مراد وهبه، ومن هذه المضاهاة بين فرحان صالح ومراد وهبه ربما تمتلئ الفراغات المعرفية عند كل منهما.
- في نشأة العلمانية
الشائع عن العلمانية (Secularism أو Laicism) أنها تعني الدنيوي، غير الديني، المدني، غير الاكليريكي، غير منتسب إلى الرهبانية. والعلمانية تمثل تياراً فكرياً بدأ في فرنسا في القرن الرابع عشر وشاع استعماله في القرن السادس عشر، ويتجه هذا التيار في الأساس إلى فصل الكنيسة عن الدولة لتستقل في شؤونها المدنية وتعالجها في ضوء العقل، وليس من خلال النصوص المقدسة. غير أن هذا لا يعني معاداة الدولة للدين، بل يعني أنها محايدة تجاه الدين.. لا تسمح له بالتدخل في شؤونها المدنية، كما أنها لا تتدخل في شؤونه الروحية، وبالتالي تدبر الدولة المدنية أمورها وفق نزعة في التفكير ترى العالم وجوداً قائماً بذاته وبمعزل عن خالقه.
يعود الفضل في نمو هذا التيار الفكري إلى عصر النهضة التي سادت في بدايته "الفلسفة الاسمية" في "أكسفورد" و"كمبريدج" و"باريس" التي قادت ثورة ضد سيطرة فلسفة "أرسطو" والكنيسة، وقادت حركة التمرد على سيطرة رجال الدين، ونقلت مركز السلطة من نطاق الاكليروس إلى المدنيين الذين استولوا على الجامعات وأنشأوا الأكاديميات والجمعيات الفلسفية والعلمية والأدبية تحت اسم المحدثين، مقابل أتباع القديس "توما" و"دونس سكوت" الذين حاولوا إقامة فلسفات تتفق مع الدين.
كما أيد الفلاسفة الاسميون الأمراء في تمردهم على السلطة البابوية.
ومن إيطاليا - مركز النهضة الأوروبية في العصر الحديث - انطلقت حركة العودة إلى إحياء التراث الأدبي اللاتيني الملقح باليونانية ذي الطابع الوثني.
وكذا من إيطاليا انتشر ذلك الأدب بفضل اختراع الطباعة إلى مختلف دول أوروبا ينتشر معها الفكر الوثني المروِّج لصورة إنسان الفطرة والطبيعة. لذلك سُميت هذه الحركة بالنزعة الإنسانية، حيث قنعت بالطبيعة واستغنت عمّا فوقها أو ما وراءها. وانتشرت بذلك فلسفات منسلخة عن الدين، بل إن المذهب الإنساني تسرب إلى المسيحية وأخذ يعمل على تقويضها من الداخل. فما البروتستانتية إلا احتجاجا على الغفرانات ودعوة إصلاح في الإدارة الكنسية والعبادة، حيث زعمت أن الدين يقوم على الفحص الحر، أي الفهم الخاص بالكتاب المقدس، وعلى التجربة الشخصية بغير حاجة إلى سلطة تحدد معاني الكتاب.
بات عصر النهضة يتميز بإحساس العقل بنفسه وقدرته على تحديد مصير مستقبل الإنسانية، وبالتالي تصديه بجرأة وشجاعة على إخضاع كل حدث لحكم العقل في تكوين الدولة وتنظيماتها القانونية والاقتصادية وصياغة أنسقه جديدة للتربية تقوم على مبادئ العقل، وذلك في إطار العلاقات الأساسية القائمة على المصلحة والمنفعة والتعاون. وحاول الإنسان خلق عالم جديد مؤسس على العقل والحقيقة يحمل حياة أفضل للإنسان.
هذا عن نشأة العلمانية في الغرب، أما العلمانية في طبعتها العربية، فهي علمانية مؤمنة بالله والأديان. لكنها تؤيد الفصل بين الدين والدولة، ولا تنكر الدين وفاعليته الروحية والأخلاقية. وهي علمانية بدأت عند المثقفين الشوام واتخذت طابعا تصادميا مع المجتمع وحكومته الدينية (الخلافة العثمانية) للتخلص من فكرة الذمية وما ينتج عنها من علاقات دونية بين عناصر المجتمع الواحد. وهذا عكس العلمانية عند بعض المفكرين المسلمين والتي تعاطفت مع الواقع الذي انطلقت منه على أمل أن تجد من يتبنى قناعاتهم ويتمثلها.
- معنى العلمانية عند وهبه
يرصد مراد وهبه لمعنى العلمانية الذي ظهر- عنده - نتيجة ثلاث ثورات:
الأولى: الثورة العلمية التي قادها كل من عالم الفلك كوبرنيقوس بكتابه "في الحركات السماوية"، وجاليليو بكتابه "حوار يدور على أهم نظريتين في العالم" والتي أسفرت على دوران الأرض حول الشمس، وبالتالي سقطت فكرة كون الأرض والإنسان بالتبعية هما مركز الكون.
الثانية: الثورة الدينية والتي سُميت "الإصلاح الديني" بقيادة مارتن لوثر، الذي أتاح لكل مسيحي الحق في الفحص العقلي الحر للإنجيل، أي تأويله من دون الرجوع أو الاعتماد على السلطة الدينية للكنيسة، أي سلطة البابا.
الثالثة: الثورة السياسية التي قادها ميكيافيلي في كتابه "الأمير"، وقد أكد فيه أن السياسة لا تستند إلى قيم دينية أو قيم أخلاقية، وإنما تستند إلى المصلحة والمنفعة.
انعكست النزعة العلمانية في البداية على الكنيسة، فظهر رجال دين يعارضون تسلط الكنيسة على حياة أتباعها. لكن الثقافة العلمانية كانت خارج الكنيسة أقوى وأشد، ومن روادها "ناتيشف" الذي رأى علمنة الحياة، أي تحريرها من السلطة الكنسية، ومعارضة الله بالكنيسة، وذلك أن الكنيسة تحرم الإنسان مما يحلله القانون الإلهي. لهذا رأى "ناتيشف" ضرورة إذعان الكنيسة للدولة، وعندئذ يمكن تحقيق استقلال الحياة العلمانية، التي تستند إلى القانون الطبيعي.
وقد انعكس تأثير العلمانية على اللاهوت المسيحي، فظهر في أواخر خمسينات القرن العشرين حركة لاهوتية جديدة سُميت "اللاهوت العلماني" متأثرة بالثورة العلمية والتكنولوجية، فتمثلت في رفض أي عناصر خفية في الوجود الإنساني، مقابل المسيحية التقليدية التي تقبل هذه العناصر.
واكب اللاهوت العلماني حركة تكييف ما هو مقدس لما هو علماني بدعوة أن فعل الله محايث وباطن في المجال الاقتصادي، كما هو محايث وباطن في المجال الكنسي.
ودعمت المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع العلمانية؛ حيث ركز "إميل دور كايم" في أبحاثه على المقدس في مواجهة العلماني؛ إذ ارتأى أن جميع المعتقدات الدينية المعروفة تفترض تقسيم العالم إلى مجال مقدس ومجال علماني. ويرى دور كايم أن ليس ثمة كيان أو موضوع أو حادث هو مقدس، ذلك أن المقدس إن هو إلا تعبيرات أخلاقية ورمزية، وإن هو إلا إسقاط لجماعة اجتماعية. ومعنى ذلك أن العمليات الاجتماعية تولد المقدس وتصونه. ومن ثم فإن تعريف دور كايم للمقدس يشير إلى أسلوب التفكير في العلم وفي المؤسسات الاجتماعية.
ويؤكد "هارفي كوكس" أن العلمانية تعني انتقال المسؤولية من السلطة الكنسية إلى السلطة السياسية. ثم هي عملية تاريخية يتحرر فيها المجتمع من القبضة الدينية والرؤية الميتافيزيقية. ومن ثم يفرق "كوكس" بين الإنسان العلماني والإنسان ما قبل العلماني؛ فالإنسان ما قبل العلماني يحيا في عالم من الأرواح الخيرة والشريرة. والواقع عنده مشحون بقوى سحرية: إما نافعة أو ضارة. والسحر هنا رؤية كونية. فالأديان السومرية والمصرية والبابلية ليست إلا شكلا من أشكال السحر التي توحد بين الإنسان والكون. فالتاريخ محكوم بالكسمولوجيا (علم الكون)، والمجتمع بالطبيعة، والآلهة والبشر أجزاء من الطبيعة.
أما الإنسان العلماني فقد نشأ عند "كوكس" مع بداية الديانة اليهودية، حيث انفصلت الطبيعة عن الله، وانفصل الإنسان عن الطبيعة، ومن ثم انتفت الرؤية السحرية للطبيعة على أنها تشبه الآلهة، وهذا التحرر للطبيعة هو شرط أساسي لتطور العالم الطبيعي، وشرط أساسي لنشأة الثقافة العلمية. لهذا فإن استيراد التكنولوجيا ليس كافيا لرفع التخلف عن الثقافة: إذ لا بدّ للثقافة من أن تكون علمية. لهذا فلا أحد يحكم بالحق الإلهي في المجتمع العلماني. أما في المجتمع المحكوم مباشرة برموز دينية، فإن التغير الاجتماعي والسياسي أمر مُحال، وبالتالي فإن هذا التغير يستلزم نفي القداسة عن السياسة. وعدم نفي هذه القداسة يفضي إلى حدوث توتر بين الدين والنظام الاجتماعي.
وقد انتشرت العلمانية في العالم الثالث- كما أوضح مراد وهبه- بحكم انتشار التصنيع والهيمنة الاستعمارية والاستغراب مما أدى إلى إحداث تغيرات جذرية في المجتمعات غير الغربية وعلى رأسها انهيار السلطة التقليدية والمعتقدات الدينية.
ولأن العلمانية في العالم الثالث "مستوردة" نتيجة استيراد تكنولوجيا التصنيع وما واكبها من "تحديث"، فقد اتسم التحديث فيها بثلاث سمات:
1- نفي القداسة؛ أي استبعادها من تحديد العالم الاجتماعي.
2- انفصال المؤسسات الدينية عن المؤسسات العلمانية.
3- تحول المعرفة الدينية إلى المجال العلماني.
غير أن أديان القبائل في أفريقيا وآسيا لا تقرّ هذا الفصل بين ما هو مقدس وما هو علماني، ومن ثم فقد أدى ذلك إلى مشكلات حادة حيث ظل المجال السياسي محكوما بالمعتقدات الدينية والرموز المقدسة، وتعرض كل من حاول تغيير هذه المعتقدات إلى موضع شك وريبة.
في العالم العربي والإسلامي، الذي هو جزء من العالم الثالث، فإن محاولات فصل الديني عن السياسي تواجه صعوبة كبيرة، والشاهد على صحة ذلك ما حدث "للشيخ علي عبد الرازق" بسبب كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي تأثر فيه بالفيلسوفين "هوبز" و"لوك"، وهما من الداعين لنظرية العقد الاجتماعي.
فالعقد الاجتماعي عند هوبز مردود إلى طلب الإنسان للسلام، وشرط السلام هو تنازل كل فرد عن حقوقه الطبيعية المطلقة لصالح سلطة مركزية تعمل لخير الجميع، وفي هذه الحالة تحلّ الحياة السياسية محل الطبيعة. وهذا العقد يلزم عنه التسامح، لهذا يدعو "لوك" إلى وجوب الفصل بين الدولة والكنيسة، ذلك أن هدف الدولة الحياة الأرضية، وهدف الكنيسة الحياة السماوية. وتأسيسا على تأثره بالفيلسوفين "هوبز" و"لوك" ينكر الشيخ "علي عبد الرازق" الخلافة الإسلامية كصيغة دينية للحكم؛ يقول: "الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل ويشهد به التاريخ قديما وحديثا أن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكم الذي يسميه الفقهاء خلافة، وعلى أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء.. والواقع أيضا أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك. فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا".
ثم هو ينكر الربط بين الدين والدولة، يقول: "إن السلاطين قد روجوا لهذا الخطأ الذي ساد بين الناس من أن الخلافة مركز ديني ليتخذوا من الدين درعا يحمي عروشهم، وتزود الخارجين عنهم. وما زالوا يروجون له من طرق شتى، حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله. ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا السلطان خليفة الله في أرضه".
غير أن الرأي العام في مصر ثار وحوكم عبد الرازق أمام هيئة من كبار علماء الأزهر التي أخرجت الشيخ من زمرة العلماء، وأيد "الشيخ محمد رشيد" هذا الحكم في مجلة "المنار"، مضيفا إليه إتهام "الشيخ علي عبد الرازق" بالإلحاد والزندقة.
ويرى مراد وهبه أن العلمانية ليست هي مجرد "الفصل بين الدين والدولة، لأن هذا الفصل معلول للعلمانية، إنما العلمانية هي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق".
- هيمنة الأصوليات الدينية
العقبة الكبرى أمام العلمانية في العالم العربي هي هيمنة الأصوليات الدينية، ورغم وجود العديد من الأصوليات التي يمكن رصدها في إحدى عشرة أصولية، إلا أن أكثرها معاداة للعلمانية هي الأصولية الإسلامية السائدة في عدد من البلاد المتخلفة والفقيرة، ومن ثم اتسمت بالإرهاب الكوكبي.
يتتبع وهبه نشأت الأصولية الإسلامية فيردها إلى مصادر أساسية هي فكر كل من الغزالي من القرن الحادى عشر، وابن تيمية من القرن الثالث عشر، وسيد قطب من القرن العشرين؛ الأول كفّر فلاسفة اليونان لأنهم وثنيون، وكفّر الفلاسفة المسلمين أمثال الفارابي والكندي لأنهم انفتحوا على الفلسفة الوثنية. وعلى الرغم من أن الغزالي لم يأمر صراحةً بقتل هؤلاء الكفّار، إلا أنه ظهر في العالم الإسلامي من يعتمد على التكفير لتبرير القتل دينيا، وذلك عندما قُتل فرج فودة بعد تكفيره، وتعرض نجيب محفوظ لمحاولة قتل، وحُكم بالتفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، وكُفّر الشيخ علي عبدالرازق وسُحب منه شهادته العلمية، كذلك تكفير عميد الأدب العربي طه حسين ومنصور فهمي باشا، بينما اتُهم محمد عبده ورفاعة الطهطاوي بأنهما عميلان للغرب!
والثاني ابن تيمية من القرن الثالث عشر، إنه أبو الأصولية فى العالم الإسلامي، إذ هو يلتزم التفسير الحرفي للنص الديني، أي يلتزم إبطال إعمال العقل في ذلك النص، ومن ثم يرفض تأويله، لأنه أمر لا لزوم له لأن آيات القرآن كلها واضحة في معناها وليس فيها باطن. ثم إن التأويل، في رأيه، تحريف لكلام الله، وبالتالي يكون مخالفا لما أجمع عليه سلف الأمة. ومن ثم كفَر ابن رشد لأنه يدعو إلى إعمال العقل. وبالتالي أصبحت النتيجة الحتمية لرفض ابن تيمية للتأويل هو السمع والطاعة، لأن الآيات كلها في إطار المعنى الظاهر تكون في إطار ما هو حسّي، وأهم شيء في ما هو حسّي، السمع، ومعه الطاعة، وبهذا نكون ألغينا العقل وعدم إعماله في النصّ الديني، وفي هذه الحالة يتحول الشعب في العالم الإسلامي إلى قطيع منزوع العقل، ومهيأ لتكفير من يريد وقتله إذا لزم الأمر.
أما الثالث، فأدان الحضارة الغربية لأنها حضارة مريضة بمرض عقلي أسماه «الفصام النكد»، وهو مرض يفصل صاحبه عن الواقع ويدفعه نحو عالم خيالي يعيش فيه. وسبب إصابة الغرب بهذا المرض مردود إلى ثلاثة عصور: عصر النهضة الذي حرر العقل من السلطة الدينية، وعصر التنوير الذي حرر العقل من كل سلطة ماعدا سلطة العقل، وعصر الصناعة الذي حرر الحضارة من عصر الاقطاع في تلاحمه مع السلطة الدينية. وترتب على هذه العصور الثلاثة بزوغ الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين، وكانت الكوكبية أعلى مراحلها، وليس في الإمكان القضاء على ذلك المرض إلا بالحروب الدينية وليس بالوسائل السلمية والعودة بالحضارة الإنسانية إلى عصر الزراعة، أي إلى الحياة الريفية حيث تكون الخلافة الاسلامية في الانتظار.
ويرسم مراد وهبه خارطة طريق لقيام المجتمع العلماني العربي، وذلك من خلال:
أولا- خنق الأصولية، السبب الرئيس للتخلف، وذلك باستدعاء فكر بديل من فكر رموز الأصولية (الغزالي وابن تيمية وسيد قطب)، وهو فكر ابن رشد.
ثم ثانيا- تأسيس البديل القادر على تحقيق نقلتنا الحضارية نحو المستقبل، وهو المجتمع العلماني، وذلك على النحو التفصيلي التالي:
أولا: استدعاء ابن رشد
تكمن محنة العالم الاسلامي في أنه قد آثر ابن تيمية على ابن رشد، ومن ثم تأسست الوهابية في القرن الثامن عشر، وجماعة الاخوان المسلمين في القرن العشرين، وبذلك أصبح ابن رشد هامشيا في الحضارة الاسلامية، والمطلوب اذن إحداث فعل ثوري لإحلال ابن رشد محل ابن تيمية، وذلك بتأسيس رشدية عربية على غرار الرشدية اللاتينية في العالم الغربي التي كانت من أسباب بزوغ الاصلاح الديني في القرن السادس عشر والتنوير في القرن الثامن عشر، وبذلك يتداخل العالمان الاسلامي والغربي من أجل تطوير الحضارة الانسانية من غير صدام.
روج ابن رشد لمفهوم تأويل النصّ الديني، من هنا تأتي خطورته، لأنه قال إن للنصّ الديني معنيين، أحدهما ظاهر والآخر باطن: الظاهر يُدرك بالحواس والباطن يُدرك بالعقل. فإذا اتفق المعنى الظاهر مع مقتضيات العقل وقواعد البرهان فلا خلاف. أما إذا جاء المعنى الظاهر مخالفا، فيلزم تأويله، أي يلزم الاستعانة بالمجاز الذي يسمح بتجاوز المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن. وهذا التجاوز لا يتم إلا بإعمال العقل. والنتيجة المترتبة على ذلك هي القول إن «الفلسفة هي الشريعة مؤولة»، بمعنى أن تأويل الشريعة هو الذي يفضي بها إلى أن تكون فلسفة. ويترتب على ذلك أن تصبح دراسة الفلسفة وتدريسها حلالا شرعا، كذلك يصحّ التأويل. ومع التأويل يمتنع الاجماع، لأنه يسمح بوجود الاختلاف، وبالتالي نسبية الفكر لا إطلاقيته، ومع امتناع الاجماع يمتنع التكفير، قال: "لا يقطع بكفر من خرق الإجماع"، بمعنى أن الاجماع في الفكر الإسلامي لا بد أن يتوارى حتى يتوارى التكفير، فطالما هناك تكفير فالتأويل مرفوض.
لكن جاء ابن تيمية فى القرن الثالث عشر وكفر ابن رشد، وقال عن التأويل إنه بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وفي القرن الثامن عشر نشأت الوهابية في شبه الجزيرة العربية مستندة إلى فكر ابن تيمية، وفي القرن العشرين تأسست حركة الاخوان المسلمين مستندة أيضا إلى ذاك الفكر. من هنا نشأت العلاقة العضوية بين الوهابية والاخوان المسلمين. وبعد ذلك أصبح ابن رشد هامشيا في تاريخ الفلسفة الاسلامية.
من هنا جاءت ضرورة حسم الاختيار بين نموذجين متناقضين؛ هما نموذج ابن تيميه ونموذج ابن رشد. فكر ابن تيمية يرفض تأويل النصّ الديني، ويترتب على رفض التأويل اجماع الأمة على فهم واحد للنصّ الديني، وبناء على ذلك الاجماع يكفر من يخرج عنه وقد يُقتل إذا لزم الأمر. أما فكر ابن رشد، فيدعو إلى ضرورة تأويل النصّ الديني، أي ضرورة إعمال العقل من أجل الكشف عن المعنى الباطن. والتأويل متعدد والتعدد مشروع، ومن ثم يكون إجماع الأمة في هذه الحالة ممتنعا، من هنا يقول ابن رشد عبارته المأثورة في كتاب فصل المقال: "لا يقطع بكفر من خرق الاجماع".
ثانيا: تأسيس المجتمع العلماني
وذلك من خلال رباعيتين؛ واحدة للديموقراطية، وثانية للقرن الحادي والعشرين.
1ــ رباعية الديموقراطية؛ وتتمثل في:
أ- العلمانية (secularization) بفتح العين، وتعني العَالَم المتزمن بالزمان، أي عالم له تاريخ، ومن ثم تُقال العلمانية على العالم الزماني والنسبي، أي المتحرر من الصيغ المُطلقة. أي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق. فعندما تفكر في أي ظاهرة نسبية لا يمكن فهمها تحت مظلة مطلق لأن المطلق ثابت وليس متغيرا، بينما الظاهرة الطبيعية أو الإنسانية متغيرة، نفهمها بعقل نسبي متغير، ولا يمكن فهمها بعقل مطلق ثابت لا يتغير.
أما الدين فينشغل بالمطلق، ومن ثم يستطيع القول إنه يملك الحقيقة المطلقة، ومن خلالها يفهم أي ظاهرة إنسانية أو اجتماعية، بالتالي هو يبدأ بما هو ثابت وبما هو مطلق، ومن ثم يتوهم أنه عندما يفسرها يصل إلى الحقيقة المطلقة، وهذا وهم.
بالتالي الأصولية نقيض العلمانية: في العلمانية النسبي له الصدارة، أما في الأصولية فالمطلق له الصدارة، والإنسان إما أن يكون علمانيا أو أصوليا. والعلمانية تعدّ التطور الطبيعي للحضارة الإنسانية التي بدأت منذ القرن الـ16 لكونها تؤكد أن كل شيء نسبي، وأن الإنسان لم يعد مركزا للكون.
والحكومة العلمانية ليست ضد الدين، بل هي محايدة إزاء الدين، وبالتالي ليست محكومة برجال دين أو بشريعة دينية معينة، هي ملزمة فقط بفكر التنوير الذي يكون فيه العقل سلطان ذاته. والرأي الشائع أيضا أن الحكومة العلمانية لا تعني أن يكون الأفراد علمانيين، إذ هم أحرار في أن يكونوا متدينين أو لا أدريين أو ملحدين أو بلا دين، لكنهم جميعا يرفضون أن تكون لهم هوية دينية منصوص عليها في الدستور، لأن الدستور، من حيث هو أبو القوانين، ملزم فقط بتنظيم الحياة الدنيا وليس الحياة الأخرى.
من الملاحظ أن المثقف العربي يخشى من وسمه بالعلمانية، ذلك أن التشدد الأصولي والسلفي السائد هو الذي دفع المثقفين العرب إلى رفض الاستعانة بلفظ العلمانية خوفا من اتهامهم بالزندقة.
ولا بد من تكوين تجمعات علمانية يشعر فيها أعضاؤها بقيم مشتركة، وبالتالي بالانتماء، بشرط خلوها من ذلك المفهوم الكامن في اللاوعي الذي يقال عنه إنه «الحقيقة المطلقة» التي تزعم المؤسسات الدينية أنها مالكة له.
الكلام على العلمانية صادم، بخاصة في مجتمع يهيمن عليه الفكر الأصولي، لكن عملية التغيير لا بد أن تتم عبر الصدمات العقلية، والعلمانية إحدى هذه الصدمات، كما طرحها فرحان صالح في مقالته موضوع دراستنا، وكما نطرحها نحن الآن.
ب- العقد الاجتماعي، ومعناه أن الحاكم ليس من حقه الزعم بأن سلطانه مستمد من سلطان الله، إذ هو مستمد من سلطان الشعب. وهو مبدأ مستمد من فكرة أصل المجتمع، إذ لم يكن المُجتمع موجودا مع بداية وجود البشر، إنما الذي كان موجودا هو "حالة الطبيعة"، حيث كل إنسان هو قانون نفسه، لهذا لم يكن هناك سلام، بل حروب، لذلك أفضى بهم الأمر في النهاية، إلى تكوين مجتمع بـ"عقد اجتماعي" ينصّ على "موافقة" البشر على التنازل عن بعض حقوقهم للحاكم الذي يختارونه بإرادتهم ليدبر شؤونهم.
يترتب على هذه الفكرة أربع نتائج: ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية، والحكم ينبغي ألا يحمل في طياته أية معرفة عن الدين الحق، وخلاص النفوس من شأن الله وحده، وأن الله لم يفوّض أحدا في أن يفرض على أي إنسان دينا معينا.
ج- التنوير وهو إعمال العقل بشجاعة ومن غير معونة الآخرين، ما يمكن معه القول إنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. وبالتالي يكون الاعتماد على العقل في تطوير المجتمع.
د- الليبرالية، ولها ثلاثة تعريفات هي:
1- حماية الملكية الخاصة، حيث إن الملكية الخاصة هي المكون الرئيس للرأسمالية، فالعلاقة إذن بين الليبرالية والرأسمالية علاقة عضوية، ومن ثم فإن من يرفض الملكية الخاصة ويدعو إلى الملكية العامة، هو ضد الليبرالية.
2- قدرة الفرد على تحديد غاياته بنفسه.
3- سلطة الفرد فوق سلطة الجميع. والتعريف الثالث يشمل الثاني والأول.
ويرى وهبة أن «رباعية الديمقراطية» كانت السبب في خلاص أوروبا من الحروب الدينية، وفي دفعها نحو الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع ما بعد الصناعي، أي المجتمع الإلكتروني؛ لأنها كانت المسؤولة عن تغيير الذهنية الأوروبية من ذهنية العصور الوسطى إلى ذهنية العصور الحديثة، أي من الذهنية الأصولية الرافضة للعلمانية أصل الرباعية، إلى الذهنية القابلة للعلمانية في اتجاه التطور مع التقدم.
2- رباعية القرن الحادي والعشرين؛ ومكوناتها هى الكونية والكوكبية والاعتماد المتبادل والإبداع.
الكونية وهي رؤية الكون من خلال الكون، أي من خارج كوكب الأرض وليس من خلاله، وحدث ذلك بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية التي أتاحت للبشر السباحة في الفضاء من أجل الكشف عن القوانين التي تحكم الكون، وبذلك يمكن تكوين رؤية كونية علمية. ومن شأن هذه الرؤية أن تفضي إلى رؤية كوكب الأرض من خلال الكون، وعندئذ يبدو كوكب الأرض كتلة واحدة بلا تقسيمات مصطنعة؛ سواء كانت جغرافية أو سياسية أو ثقافية. هذه هي الكوكبية التي تُرجمت خطأ بلفظ العولمة، ذلك أن هذا اللفظ مشتق من العالم وهو باللاتينية mundus، أي الكون بما فيه كوكب الأرض، في حين أن اللفظ الإفرنجي globalization مشتق من اللفظ اللاتيني Globus ومعناه كوكب الأرض.
وإذا سلمنا بأن الكوكبية تعني انعدام الحدود، فإن هذا الانعدام يستلزم تداخل الدول والشعوب في اعتماد متبادل. ولا أدل على ذلك من بزوغ ثلاث ظواهر: الأولى الانترنت وتعني الترابط المتداخل، إذ تسمح بفيضان من المعلومات يتجاوز الحدود فيصعب التحكم فيها بقوانين ذات طابع قومي، ويضعف التمييز بين ما هو عام وما هو خاص. والثانية البريد الإلكتروني الذي يختزل الزمان والمكان في آن واحد. فقد كان الزمان محكوما بالطبيعة (أي شروق وغروب)، أما اليوم فإدارة الزمان محكومة بالإنسان، كذلك المكان، أما الثالثة فهي التجارة الالكترونية التي تنطوي على خلق سوق الكتروني يتجاوز الحدود الجغرافية، ويستند إلى لغة مشتركة هي لغة الكمبيوتر.
من شأن الاعتماد المتبادل أن يفضي إلى استحالة حل أي مشكلة اقليمية إلا في إطار كوكبي؛ مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وانفجار السكان، والارهاب وتلوث البيئة. (نحن هنا نسجل اعتراضنا على الكوكبية التي ترى الإنسان إنسانا كوكبيا، بلا انتماء وطني/إقليمي ما، فقط هو من سكان كوكب الأرض، بغض النظر عن أية حدود سياسية أو جغرافية).
بيد أن هذه الثلاثية من كونية وكوكبية واعتماد متبادل تنطوي على تناقضات: فالتناقض في الكونية يكمن في أن الانسان، وهو جزء من الكون، يعي الكون من دون أن يكون الكون، وهو الكل، واعيا بذاته. والتناقض في الكوكبية يكمن في أن كوكب الأرض وحدة بلا تقسيمات، ومع ذلك فالتقسيمات قائمة. والتناقض في الاعتماد المتبادل يكمن في انفصال الدول والشعوب بعضها عن بعض في حين أن أصلها واحد. هذه التناقضات ليس في الإمكان إزالتها إلا بتفكير مبدع. من هنا جاء تعريف الإبداع بأنه قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم. ومعنى هذا التعريف أن الجدة لا تكفي لكي يقال عن الانسان إنه حيوان مبدع، بل لا بد من ملازمة التغيير للجدة؛ إذ ثمة وضعان: وضع قائم، ووضع قادم. وعندما يتأزم الوضع القائم يلزم تأسيس وضع قادم ليكون بديلا من الوضع القائم المأزوم. والوضع القادم ينطوي على رؤية مستقبلية. المستقبل إذن، وليس الماضي، هو المحايث في الابداع. ومعنى ذلك أن التغيير يبدأ من المستقبل وليس من الماضي. من هنا كانت الأصولية، أيا كانت سمتها الدينية، ضد الإبداع لأنها ملتزمة بماض فاقد فاعلية التغيير. أما القول بأن الإبداع على علاقة حميمة بالجنون، فهذا القول لا يستقيم مع تعريف الإبداع، بسبب أن الإبداع لا يقف عند حد تكوين علاقات جديدة بل يتجاوزه إلى حد التغيير. والمجنون على الرغم من قدرته على ابداع ما هو جديد، إلا أن هذا الجديد موجود في عالم افتراضي لا علاقة له بالواقع. من هنا ثمة فارق كيفي بين الإبداع السوي والإبداع المرضي؛ وهو أن المبدع السوي يفضي فعله بالضرورة إلى إحداث تغيير في الواقع، أما المبدع المريض فإن فعله عاجز عن إحداث أي تغيير في الواقع. ولا أدل على ذلك من أن سبب نشأة الحضارة مردود إلى أن الانسان حيوان مبدع، إذ هو الذي ابتدع التكنيك الزراعي الذي يسمح بتحويل بيئة غير زراعية إلى بيئة زراعية. فإذا كانت الآفة هي الدوجما فالعلاج هو الإبداع.
ويؤكد مراد وهبة أن العقل العربي في ظل سيادة الأصولية، ورفض إعمال العقل، ومحاربة الإبداع وترويج ثقافة الإجماع ونبذ التأويل، لن يكون قادرا على التعامل مع هاتين الرباعيتين.
- وضع بديل
يركز وهبه على وضع بديل للفكر الأصولي وهو الفكر العلماني، ويركز جهده على شرحه والترويج له من دون أن ينشغل بهدم الفكر الديني والدخول معه في معارك وهمية تؤلب عليه العامة والغوغاء، بل إنه يؤكد: "ليست لدي مشكلة مع أي دين، لكن مشكلتي مع الفكر الديني الأصولي، وليس فقط الفكر الإسلامي الأصولي، بل أيضا المسيحي واليهودي الأصولي. لكن الدين كرسالة يؤمن بها الفرد وتتعلق بقلبه، فلا جدال على ذلك، لكن أنا ضد الفكر الذي يرفض إعمال العقل في فهم المعتقدات الدينية التي يصوغها الفقهاء".
كذلك يفعل فرحان صالح، حيث يؤكد التزامه احترام من ينتمون إلى عقائد دينية متنوعة، يقول: "في مراجعة لما يمارس من هذا التراث، الذي تغلبت العادة فيه على الجوهر الروحي الذي يحمله، نأمل بدءا ألا يزايد علينا أحد في التزامنا احترام من ينتمون إلى عقائد دينية متنوعة".
فثورة مراد وهبه على السلطة الدينية، وليست على الإيمان، ولا على الأديان.. ومهمته كفيلسوف هي تأسيس رؤية كونية علمية بديلا من الرؤية الكونية الأسطورية التي كانت متحكمة في العقل الإنساني. كذلك ثورة فرحان صالح ليست على الدين في ذاته أو الإيمان، بل في تحويل التدين إلى "عادات" ذهنية وسلوكية تعيق حركة التقدم والنهضة وتروج للكسل والتخلف.
ويبقى أنه لا انتصار للعلمانية في بلادنا إلا بطبقة اجتماعية جديدة تكون قادرة على تحقيق ذلك: "طبقة برجوازية مستنيرة، هذه الطبقة لا تنمو ولا تزدهر إلا بوجود إطار عقلاني، أما إذا لم يتواجد هذا الإطار، فتصبح هذه الرأسمالية طفيلية وليست مستنيرة. إذًا نحن مطالبون بنخبة تعمل على إفراز مناخ عقلاني يسمح بوجود الطبقة البرجوازية".
لكن وهبة يقرّ بأننا "لا نمتلك هذه النخبة! هذه هي المعضلة، فهذه النخبة في حالة غيبوبة، تناقش أمورًا لا علاقة لها بالتنوير. ولو فشلت في مهمتها ستدخل مصر والمنطقة والعالم في إرهاب متواصل".
وليسمح لي مراد وهبه بأن أضع فرحان صالح ومجلته "الحداثة" استثناءً لهذا التعميم، حيث يداوم فرحان صالح عبر منبر الحداثة، وغيره من المنابر، ببذل قصارى جهده للترويج للعلمانية كمطلب لا غنى عنه لتحريك الماء الراكد في ثقافتنا الأصولية السلفية الراقدة -حتى الممات- في تربة التخلف.
***
المصادر والمراجع
* أستاذ جامعي من مصر
1- التنوع الثقافي في زمن الأصوليات، 26 يناير 2016
2- من أجل حوار مبدع، 6 فبراير 2016
3- مصر والإرهاب الكوكبي، 16 فبراير 2016
4- العالم الإسلامي في مفترق الطرق، 22 مارس 2016
5- هل ماتت الحقيقة المطلقة؟ 12 أبريل 2016
6- التقدم بالثورة، 3 مايو 2016
7- فرويد والأصوليات الدينية، 24 مايو 2016
8- فرويد والإلحاد والأصوليات، 7 يونيو 2016
9- التعليم بالإبداع لماذا هذا العنوان؟ 5 يوليو 2016
10- ابن رشد فى أبو ظبى، 12 يوليو 2016
11- مسؤولية النخبة فى هذا الزمان، 2 أغسطس 2016
12- مستقبل عقل، 9 أغسطس 2016
13- حوار بين ملحد ومسلم عَلماني، 6 سبتمبر 2016
14- حقوق الإنسان في زمن الإرهاب، 4 أكتوبر 2016
15- رؤية مستقبلية للتعليم، 1 نوفمبر 2016
16- ابن رشد في جامعة القاهرة، 6 ديسمبر 2016
17- التنوير في العالم العربي، 13 ديسمبر 2016
18- المطلق والنسبي في زمانين، 27 ديسمبر 2016
19- الفلسفة وتغيير الذهنية، 24 يناير 2017
20- في الطريق إلى الوضع القادم، 10 يناير 2017