Al-Hadatha Journal: 32 years of communication - Welcome to the site (under construction). Here we publish Abstracts of research

بحث - Search

مجلة الحداثة: 32 عامًا من التواصل - أهلا بكم في الموقع الترويجي (قيد الانشاء) ننشر هنا ملخصات عن الأبحاث

المشاهدات

فلسفة التواصل والنقاش عند هابرماس

د. جورج عيد حرب - مجلة الحداثة

جورج عيد حرب *

المستخلص - Résumé
يعالج البحث فلسفة التواصل والنقاش عند الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) الذي يعدّ هذه الفلسفة أساسًا للفكر الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، مستندًا إلى فلسفة كانط (Kant) وهيغل (Hegel) وماركس (Marx)، وإلى المدرسة النقديّة لفرانكفورت. ويلحظ البحث أن هابرماس يرى أن العقلنة الحديثة تحوّلت أداة لخدمة مصالح ضيقة بدل القيم الإنسانية، هدفه إعادة العقل إلى بعد أخلاقي يضمن شرعيّة القرارات والقوانين، ويؤكد أن الأخلاق تقوم على التفاهم المتبادل بدل الفرديّة المطلقة، مع شروط للنقاش الفعّال تشمل الاحترام والموضوعية والابتعاد من العنف. ويوضح البحث أن هابرماس يميّز بين النشاطات العقلية القائمة على النجاح وتلك القائمة على التفاهم لتحقيق العدالة، إذ يرى أن دور الفلسفة اليوم، تفسير وفهم العلاقات الاجتماعية والثقافية أكثر من إصدار أحكام مطلقة.
يخلص البحث للتأكيد أن فلسفة التواصل والنقاش أثبتت نجاحها في أوروبا في حلّ النزاعات سلميًّا، فمع تحديات العنف يصرّ هابرماس على أهمية الحوار العقلاني للاندماج والمواطنة.

- الكلمات المفتاحية: هابرماس؛ فلسفة التواصل والنقاش؛ مدرسة فرانكفورت؛ العقلانية

***
Juergen Habermas

-Résumé: 
Jürgen Habermas se concentre sur la communication et le débat comme fondements de la pensée morale, sociale et politique, s’appuyant sur la philosophie de Kant, Hegel et Marx, ainsi que sur l’école critique de Francfort. Il considère que la rationalisation moderne est devenue un outil servant des intérêts étroits plutôt que les valeurs humaines. Son objectif est de réinsérer la raison dans une dimension éthique garantissant la légitimité des décisions et des lois. Il affirme que la morale repose sur la compréhension mutuelle plutôt que sur l’individualisme absolu, avec des conditions pour un débat efficace incluant le respect, l’objectivité et l’éloignement de la violence. Il distingue entre les activités rationnelles fondées sur le succès et celles fondées sur la compréhension pour atteindre la justice, et considère que le rôle de la philosophie aujourd’hui est davantage d’interpréter et de comprendre les relations sociales et culturelles que de rendre des jugements absolus. La philosophie de la communication et du débat a prouvé son efficacité en Europe pour résoudre les conflits pacifiquement, et face aux défis de la violence mondiale, Habermas insiste sur l’importance du dialogue rationnel pour l’intégration et la citoyenneté

- Les Mots-clés: 
Habermas; La philosophie de la communication et de la discussion; École de Francfort; rationalité

***

- المقدمة: من الحماس والاندفاع إلى الشكّ والارتباك

لـمع اسم يورغن هابرماس (1929م) في نادي الفلاسفة منذ مطلع ستينيّات القرن العشرين، فقد أخذ على عاتقه الذود عن مفهومين أساسيّين في الفكر الأخلاقيّ الـمعاصر: التواصل والنقاش. هذان الـمفهومان هـما في صلب تفكيره الأخلاقيّ والاجتماعيّ والسياسيّ، إذ خصّص لـهما مؤلّفات عدّة ما برحت حتّى اليوم موضوع نقاش فلسفيّ شيّق، ولا سيّما في الفضاء الديـمقراطيّ الذي يُعدّ، كما يُردِّد دومًا، الـمكان الـملائم لاختبار هذين الـمفهومين في إدارة الشأن العامّ. أما أبرز مؤلفاته التي تشكّل الدعامة الأولى لـهذا البحث، فهي:
- نظريّة الفعل التواصليّ (des kommunikativen Handelns (Theorie
- الوعي الأخلاقيّ والفعل التواصليّ (Moralbewusstsein und Kommunikatives Handeln)
- إيضاحات في أخلاقيّة النقاش (Erläuterungen zur Diskursethik).
علمًا أنّ مشروع الفلسفة التواصليّة والنقاشيّة مشروع مشترك بين هابرماس والفيلسوف الألـمانيّ كارل أوتّو آبّل (Karl-Otto Apel) كما أفصح عن ذلك هابرماس نفسُه في الفصل الأوّل من كتابه "إيضاحات في أخلاقيّة النقاش"، إذ اهتمّا معًا بإعادة صيغة تأسيس القواعد الأخلاقيّة والأخلاق الكانطيّة من خلال نظريّة التواصل والنقاش،[1] ولو أنهما بقيا غير متّفقين على مسألة الـمرجعيّة.
ما مدى فعاليّة هذين المفهومين في عالـمنا اليوم؟ وكيف يكون الاندماج الاجتماعيّ مـُمكنًا في المجتمعات الديـمقراطيّة أوّلاً، خصوصًا بعد موجة الـهجرة الكثيفة التي بدأت ترخي بظلّـها على النسيج الغربيّ؛ وثانيًا في الـمجتمعات الأخرى، حيث هامش الديـمقراطيّة ضيّق جدًّا، إنْ لـم نقل معدومًا، والتي يقطنها جـماعات متنوّعة دينيًّا وعرقيًّا ولغويًّا وثقافيًّا، بعضها يعيش في الارتباك والقلق على مصيرها، لتشويه فكرة الـمواطنة الصحيحة الـتي تساعد الفرد على الانـدماج في بـــِنية الدولة؟ وهل الـحماس الذي رافق هذه الفلسفة ما برح مـتألِّقًا أم خَفَتَ تـحت وطأة الأحداث التـي تشوّه صورة الإنسان، سواء أكان في العالـم العربـيّ أم في مناطق أخرى من العالـم؟
إنّ الـمنعطف التاريـخيّ القاتـم الذي يـخيّم على مـجتمعاتنا منذ فـترة، يطرح أكثر من تساؤل عن جدوى هذه الفلسفة، خصوصًا عندما يُـهزم العقل والـمنطق السليم لـصالـح العصبيّة والـتحـيّز والعنف. وغنيّ عن القول إنّ صوت الفـيلسوف في الـمجتمعات الدينيّة الـمتشنّجة يضحى ناشزًا إن لـم نقل مبلبلًا، مع أنّ جـمال الدين الأفغانـي (1838 – 1897م) تـجاسر وقال يومًا في حضور رجال الدين: إنّ مـهنةَ الفيلسوف ضروريّة للإنسانيّة بقدْر ما الـنبيّ ضروريّ.[2]
أحاول في البحث أن أحلّل فلسفة هابرماس الأخلاقيّة، وأناقشَها انطلاقًا من إطارهـا الاجتماعيّ والفلسفيّ، ومن ثـمّ من خلال إعادة تـحديد دور الفلسفة، على حدّ تعبير هابرماس في كتابه "الوعي الأخلاقيّ والفعل التواصليّ"، ثم أركّز على الشروط الـتي يقدّمها لـتحديد مفهومَي التواصل والنقاش، وأنـهي بمبحث: "من الاندفاع والـحماس إلى الشكّ والارتياب".

أ- الإطار الاجتماعيّ والفكريّ لنظرية التواصل والنقاش

إذا أمعنّا النظر بعض الشيء في مقاربة هابرماس لـهذين الـمفهومين، لاكتشفنا أنّ خلفيتَهُما الفكريّة تنطوي على بُعدَين أساسيّين: بُعْدٌ اجتماعيّ (لـهابرماس خلفيّة سوسيولوجيّة متينة من خلال مدرسة فرانكفورت، وقراءته الثاقبة لـماكس فيبر، وإميل ديركايـم، وجورج هربرت ميد) وبُعْدٌ فلسفيّ (نظرًا إلى ارتباطه الفكريّ الوثيق بـكانط، وهيغل، وماركس، وهايدغر، وفيتغنشتاين، وجون رولز، ودريدا وغيرهم...).
في الواقع، اهتمّ هابرماس بتاريـخ ألـمانيا الـحديث، ومفهوم القوميّة فيها، ولا سيّما إبّان فتـرة الـحربين العالـميّتين الأولى والثانية، إذ أثار مسائل دقيقة مثل الـمواطنة، وواقع العاطلين عن العـمل، والـمهاجرين. ودعا إلى التـخلّص من عقليّة الأمر الواقع أو من الفكرة الشائعة الـتي ترى أنّ هناك أشياء باتت مألوفة (عاديّة) في الـمشهد الاجتماعيّ.
يلحظ هابرماس أنّ وضْع العاطلين عن العمل ليس شيئًا عاديًّا، وأنّ التـجارة بالسلاح ليست شيئًا عاديًّا، وأنّ التـمييز العنصريّ والدعوة إلى القوميّة الـمتشنّجة، وإفقار شعوب العالـم الثالث، والـمجاعات الـتي تـحدث في الساحل الإفريقي، وغيرها... هذه الأمور كلّها ليست أشياء عاديّة. فبدل أن ننكبّ على تفكيك أفكار الـحداثة (أو عصر التنوير، إشارة إلى ما دعا إليه ميشال فوكو، ودريدا)، فالأجدى بنا أن نــسعى إلى تطبيقِها. وقد صرّح يومًا أنّ الـدافع الأوّل الذي حرّك عمـله الفـكريّ الـهـائل هـو «مصالـحة الـحداثة التي تـختلف مع ذاتـها»، ذلك أنّ «الـحداثة مشروعٌ لـم يكتمل بعد...» (عنوان مـحاضرة لـهابرماس)، وبالتالي ينبغي أن نُصوّب أهدافها تصويبًا صحيحًا. وهذا ما حـمله على قراءة جديدة لـلعقلنة[3] التي تـحوّلت في رأيه إلى عقلنة أداتيّة (rationalisation instrumentale)، كما اتّضح له إبّان قراءة فكر ماكس فيبر وتـحليله للعقلنة الـتي غزت العالـم، وفرضت هيمنتها عليه.
يصرّ هابرماس على أنّ الـمجتمع الـحديث (الغرب) ينادي بالأنسيّة في كلّ مـكان، إلاّ أنّه يتصرّف في أكثر الأحيان، بعكس مبادئه من خلال رؤية غائيّة تـحرّكها استراتيجية نفعيّة، كما تبـيّن ذلك في هـيمنة العقل الاقتصاديّ الغربـيّ على سائر الشعوب. وقد أكد هابرماس أنّه حان الوقت أن يأخذ العقلُ بُعْدًا أخلاقيًّا براغماتيًّا (وهو يتّفق هنا مع كارل أوتّو أبّل) يقوم على قواعد تستمدّ شرعيّتها الشاملة من التواصل والنقاش، وأن يتخـلّى عن الـخطاب الأنسيّ الشكليّ كي لا يفقد مصداقيّته. وقد خصّص في الـجزء الأوّل من كتابه "نظريّة الفعل التواصليّ" أكثر من مئة صفحة لفكر ماكس فيبر، لتشخيص مبادئ العقلنة ووضعها في مسارها الأخلاقيّ الصحيح، كي لا تبقى أسيرة الـعلمويّة (الـتي ترفض دور العقل في تأسيس الأخلاق) والـتجريبيّة النفعيّة السائدة في البلاد الأنغلوسكسونيّة والأوروبّيّة عامّة التـي استخدمت العقل لغاياتٍ ومـصالـح ضيّقة.
في مقاربته البعد الفلسفيّ للتواصل والنقاش، يندرج هابرماس في سياق فلسفة كانط الأخلاقيّة (لا شكّ أنّ هابرماس حاور عددًا كبيرًا من الفلاسفة لشرح موقفه منهم في ما يتعلّق بالأخلاق، ولا سيّما نيتشه وهايدغر وجون رولز، إلاّ أنّ كانط يبقى الـمرجع الأوّل في مقاربته الأخلاقيّة). في الواقع، إنّ أخلاقيّة النقاش والتواصل ليست سوى تبديل بسيط لـمبدأ الأمر القاطع[4] (kategorischer Imperativ) الذي شيّد كانط عليه عمارته الأخلاقيّة التـي تدعو إلى مسلك أخلاقيّ غير مشروط يستمدّ حيويّته من الواجب. إنّ هدف الأخلاق في رأي هابرماس، كما في رأي كانط، هو إرساء مبدأ أساسيّ يُسهم في الـحكم والقرار الأخلاقيّين كي نعطي شرعيّة للقواعد والقوانين.
بيد أن هابرماس يعتقد أنّ أخلاق التواصل والنقاش تسـمح لمبدأ الأمر القاطع بأن يأخذ شرعيّة أفضل تقوم على الــحجّة[5] بدلاً من أن ينحصر تفسيره ضمن مقاربة فرديّة فـحسب. فمن الضروريّ، والـحالة هذه، أن نُعدِّل صيغة الأمر القاطع كي يأخذ مسارًا يتـخطّى البعد الفرديّ. يقول في هذا الصدد: «فبدلًا من أن أفرض على الآخرين حكمةً أريدها أن تتحوّل إلى قانون عامّ، يـجب عليّ أن أُخضع حكمـتي للآخرين كي يُدقّقوا في قدرتـها على زعـمها البعد الشموليّ من خلال النقاش. وهكذا يـحصل التوجّه التالي: لا يكمن مركز الثقْل في ما يرغب كلّ واحد أن يُركّز عليه، دون أن يعارضه أحد، على اعتبار أنه قانون عامّ، بل يـكمن في كلّ ما يقرّ به الـجميع بالإجـماع كقانون عامّ»[6]. وقد لـخّص الفوارق الـتي تـميّز أخلاقيّة النقاش من الأخلاق الكانطيّة في ثلاث نقاط:
- أولاً: تـتخلّى الأخلاقيّة النقاشيّة عن فكرتين متباينتين في فكر كانط: فكرة كلّ ما هو مُـدرك بالعقل، كفكرة الواجب والإرادة الـحرّة، وفكرة ما يقع تـحت الظاهر (الـميول والدوافع الذاتيّة ومؤسّسات الدولة والـمجتمع). يـجد هابرماس الـحلّ في التفاهم الـمتبادل.
- ثانيًا: يعتقد أنّ أخلاقيّة النقاش تـتخطّى مقاربة كانط القائمة على الذات الـتي تناجي نفسها إلى حدّ ما في الـعزلة والـتي تسعى إلى تطبيق حـكم الأمر القاطع بصرف النظر عن البعد الاختباريّ للـمجتمع. مرّة أخرى، يـجد هابرماس الـحلّ في التفاهم الـمتبادل (Verständigung) لبلوغ مبادئ شاملة يصدّق عليها الـجميع.
- ثالثًا: يزعم أنّه وجد الـحلّ لتأسيس الأخلاق من خلال افتراضات شاملة قائمة على الـحجّة والبرهان وليس على قبليّات العقل فحسب، كما أصرّ كانط على ذلك.[7]
وخلاصة القول، إنّ الـمدخل إلى فلسفة التواصل هو نقد الفلسفة الذاتيّة، وهو نقد اتّـخذ عند هابرماس طابعًا راديكاليًّا، ولا سيّما بعد انفتاحه على الفلسفة التحليليّة (فيتغنشتاين)، فقد رأى أنّ التقليد الديكارتـيّ حتّى كانط، طبع تاريخ الفلسفة، فحـوّل الـمعرفة الى علاقة بين الذات والـموضوع. لذا، يقترح هابرماس عوضًا عنها الفلسفة العقلانية التواصليّة (وهو مدين لـجورج هربرت ميد) نظرًا إلى أنها تقوم على ضبط العلاقة بين الذوات، وعلى إخضاع العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسية داخل الـمجتمع لأخلاقيّات النقاش والـحوار، إذ هي مدخل كلّ تفاهم اجتماعيّ يـحتكم اليه الجميع في أوقات الأزمات.
بعد هذه الـمقاربة الـمقتضبة للإطار الاجتماعيّ والفلسفيّ لأخلاقيّة التواصل والنقاش، لا بدّ، قبل أن أعرض مبادئ هذه الفلسفة، من أن أحدّد دور الفلسفة، إذ أفرد هابرماس لهذه الـمسألة فصلاً كاملاً في كتابه "الوعي الأخلاقيّ والفعل التواصليّ"، علّه يـجد لـها، في خضمّ التطوّر العلميّ والبيولوجيّ، دورًا ما، ولا سيّما في البعد الأخلاقيّ، من خلال نظريّته في التواصل والنقاش.

ب- دور الفلسفة: إعادة تـحديد دور الفلسفة[8]

تساءل هابرماس في أكثر من موقع في كتاباتـه، عن دور الفلسفة في الثقافة والعلوم في عصرنا، دون أن يـُخفي بعض الشيء ارتباكه إزاء هذا الدور. ففي خاتـمة كتابه "نظريّة الفعل التواصليّ" يقول: «مع العلم الـحديث والقانون الوضعيّ والأخلاق الدنيويّة التـي تـهتدي بـمبادئ تستند إلى فنّ بات مستقلاًّ... تبلورت محطات ثلاث للعقل دون أن تتدخّل فيها الفلسفة. يعرف أبناء الـحداثة وبناتـها، ولو لـم يسمعوا بنقد العقل الـمحض والعقل العمليّ، كيف يسلسلون ويتابعون تقليدًا ثقافيًّا من خلال واحد من هذه الـمظاهر العقليّة: مسائل الـحقيقة، مسائل العدالة ومسائل الذوق».[9] يُستنتج من هذا القول إنّ الفلسفة لـم تعد تؤدي دورًا تأسيسيًّا وتقييميًّا كما في الـماضي القريب.
في موضع آخر من كتابه "الوعي الأخلاقيّ والفعل التواصليّ"، يشير إلى تراجع نفوذ الفلاسفة الكبار من أمثال هيغل وماركس وكانط، وتعاظم دور الـعلم. يقول عن كانـط: لقد مُـنيّ كانط بالـمصير نفسِه (إشارة إلى هيغل وماركس) ... فلأول مـّرة يُنعت بالكاهن الأكبر (أنّه فوق الـجميع، يشرّع وينظّر وعلى الـجميع أن يصغو إليه)، لكونه قدّم نـموذجًا خاطئًا عن الـمعرفة، وبالتالي حان الوقت أن يُطرح مشروعه للبـحث. فعندما زعم كانط أنّ الـمعرفة تـمرّ عـبْر النظريّة الـترنسندنتاليّة، حدّد في الوقت عينه وظيفة الفيلسوف وطموحه بطريقة جديدة. إلاّ أنّ هذه الـنظريّة اصطدمت بالعلم للسبب التالي: عندما يرى كانط أنّ الفلسفة تتباهى بـمعرفة تسبق الـمعرفة يفتح سـجالاً واسعًا مع العلوم يصعب الدفاع عنه. وعندما تـزعم الفلسفة أنّـها توضّح نـهائيًّا أسس العلوم، وتـحدّد أطر الاختبار، تسعى إلى توزيع كلّ علم في مكانه الـمناسب. هذا الدور الذي استأثرت به الفلسفة، هو في رأي العلوم الوضعيّة يتخطّى إمكانيّاتـِها. وفي موضع آخر، لا يقتصر دور الفلسفة الـتـرنسندنتاليّة على ما أشرت إليه فحسب، بل خصّصها كانط بدور آخر جعل منها الـحَكَم الـمطلق في الـمجالات الثقافيّة كافة، ولا سيّما في النقاشات العلميّة والأخلاقيّة.[10] وقد استند هابرماس إلى كتاب الفيلسوف الأمريكي ريتشار رورتي "الفلسفة ومرآة الطبيعة" (Philosophy and the miror of nature) لكشف مواطن الضعف في هذين الدورين.
يسوق رورتي براهين قويّة تـجعلنا نشكّ في قدرة الفلسفة على الاضطلاع بدورَي الـحَكَم والإرشادات الـمرتبطة بكلّ علم (Platzanweiser). ويـخلص إلى نـتيجة مفادها أنّه يتعيّن على الفلسفة أن تتخلّى عن وظيفتها كـمحامية عن العقلانيّة.[11] هذه الأفكار لـم تقنع هابرماس كثيرًا، إذ يرى أنّ كانط يتناغم مع نظريّة الـحداثة، خصوصًا بعد تـحريره الـمعرفة من تفسيرات العالـم الـماورائيّة والدينيّة والتقليديّة.
ما دور الفلسفة إذن؟ لا شك أنّ عمل الفلسفة قد تـحوّل كثيرًا. فهي تـخلّت منذ فترة عن القيام بدور القاضي الأعلى للذود عن الـحقيقة، وتـخلّت أيضًا عن دور الـمحكمة العليا لتـتحرّى عن الاستـخدام الصحيح للعقل. دور الفلسفة في رأي هابرماس هو الإجابة عن سؤالين: «إنّ التوجّهات الأحاديّة الـجانب الهائلة التي تحمل توقيع الحداثة لا تحتاج البـتّة إلى أن تؤسّس على مبدأ ما أو أن تـبرّر؛ وبـمعنى آخر، لا تحتاج مثلاً إلى أسس ترنسندنتاليّة (كانط)، بل تحتاج دون شك إلـى التوصّل إلى اتّفاق واضح على طبيعة المعرفة، وإلى الجواب عن سؤالين: هل بوسع العقل الذي تعرّض للانقسام في الوقت الـحاضر، أن يحافظ على وحدته، وكيف تستطيع الثقافات الـمتخصّصة أن تـجد وساطات عمـليّة مع الـحياة اليوميّة؟».[12]
في هذا السياق، تـضحى مهمة الفلسفة مزدوجة: التفكير في العقل في إطار يتخطّى الانقسامات الـذي وصل إليهـا، والتفكير في العلاقة بين الثقافات الـمختصّة والـممارسة اليوميّة. ففي الفكرة الأوّلـى هناك انتقادات موجّـهة ضدّ التفرّد، كتفرّد العلم الذي يطالب باحتكار الـمعرفة الصحيحة، أو تفرّد العقلانيّة الغربيّة كـمخرج للحـلول في العالـم. أمّا الفكرة الثانية فتقوم على الانتقادات الـموّجهة ضد التكنوقراطيّة والـنخبويّة. في هذا الإطار، تأخذ فلسفة التواصل والنقاش مكانتـها، إذ تسهم في تأمين العلاقة الـموضوعيّة بين العلوم الـمتنوّعة. وقد ختم هابرماس الفصل الذي خصّصه لدور الفلسفة بـهذا القول: في الـممارسة التواصليّة اليوميّة، ينبغي للتفسيرات الـمعرفيّة والتوقّعات الأخلاقيّة والتعابير والتقييمات، أن تفسّر نفسها. لذا تفترض تطوّرات التفاهم الـمتبادل للعالـم الـمعيش، تقليدًا ثقافيًّا في كلّ أبعاده، وليس أن نكتفي بـما يغدق علينا العلم والتقنيّة. في هذا التوجّه، تستطيع الفلسفة أن تؤدي دور الـمفسّر وليس دور الـقاضي الـمفتّش، وتنـخرط في الفضاء العام، وتـخرج من مـفهوم بناء أنساق شـموليّة أو تأسيسيّة.[13]
يـحـمل هابرماس كما أشرت، على العِلمويّة (scientism)، لأنّـها تزعم أنّ بوسعها تنظيم العالـم عن طريق العلم فحسب، مـحتكرة حصريّة الـمعرفة. إلاّ أنّـها غفلت عن دور الذات الـمؤسّسة، وهي بالتالي غير مؤهّلة لتأسيس مبادئ أخلاقيّة متينة لوحدها.
كما دخل هابرماس في نقاش مع الفلاسفة الفرنسيّين الذين ينتمون إلى مدرسة نيتشه، من أمثال ميشال فوكو وفرنسوا ليوتار وجاك دريدا. ففي حين يـحاول هابرماس أن ينقّي العقل من الشذوذ الـتي وقع فيها. ينتقد هؤلاء الفلاسفة ما يُسمّى بالعقل الـمستنير. فالذات التي تـحاول الـتحرّر من خلال العقل فحسب، هي ذات واهـمة، إذ تختبئ وراء منطق عقلانيّ تسلّطيّ بغية التّـحكّم بالعالـم. في هذا السياق، انكبّ هابرماس على إعادة الاعتبار للذات العقلانيّة، شريطة ألاّ تنطوي على نفسها، وأن تنفتح على التفاهم الـمتبادل. إنّ أبحاث الذات ليست أبحاثًا خاصّة فـحسب، إنها أبحاث تتعلّق بالـجماعة أيضًا.
استنادًا إلى ما قاله كانط عن بطلان دور الـميتافيزيقا في الـمعرفة والأخلاق، يرى هابرماس أنّ الـميتافيزيقا غير قادرة على إيـجاد نقاط استدلال في الفكر الأخلاقيّ.

ج- مبادئ أخلاقيّات التواصل والنقاش وشروطها

على ماذا تقوم الأخلاق؟ يـجيب هابرماس عن هذا السؤال من دون تردّد: على التواصل والنقاش، إذ يسهمان إلى حدّ كبير، في تفعيل الفضاء الديـمقراطيّ وتـحسينه. يقوم الفعل التواصليّ على ثلاثة مبادئ: العقل، والفعل، والتواصل. وبطريقة أوضح: إذا كان هناك مشكلة عالقة بين شخصين أو أكثر في مـحيطهـما، لا بدّ من التواصل ضمن شروط معيّنة لإيـجاد حلّ لـهذه الـمشكلة، وأن يتصرّفوا بناءً على ما اتّفقوا عليه، مـمّا يفتح الـمجال لتأسيس رؤية أخلاقيّة موحّدة.
هنا يأتي دور أخلاقيّة النقاش، وقد أسّسها هابرماس على أربعة أبعاد: أخلاقيّة ديونتولوجيّة، ومعرفيّة، وشكليّة، وشاملة. ديونتولوجيّة لأنـّها تركّز على صحّة القوانين وشرعيّتها؛ ومعرفيّة لأنّه يرى أن الأسئلة العمليّة ليست بعيدة من الـحقيقة؛ وشكليّة لأنه يرغب في إعطاء مبدأ تبريريّ للقواعد الأخلاقيّة، وشاملة لأنّ بنى التواصل التي تسمح بإقامة هذا الـمبدأ، تتخطّى بطبيعتها حدود الثقافات والأزمنة الضيّقة.
فما هي شروط التواصل والـنقاش لبلوغ قواعد مشتركة تـحمل طابعًا شرعيًّا وشاملاً؟ هذه الشروط نجدها تقريبًا عند كارل أوتّو أبّل في كتابه "أخلاقيّة النقاش"[14]، مع فارق مهمّ أنّ أبّل يـميل أكثر من هابرماس، إلى تأسيس أخلاقيّة التواصل والنقاش على براغماتيّة ترنسندنتاليّة تنبع من قبليّات العقل، وهو بالتالي يبقى أقرب إلى كانط من هابرماس.
الشرط الأوّل: يفترض والبـديـهيّ في رأي هابرماس، الاحـترام الـمتبادل في كلّ نقاش. مبدأ الاحترام هذا ينطوي على بعد أخلاقيّ شامل، إذ يقرّ لكلّ إنسان قادر على الكلام بالـحقّ في الاشتراك في النقاش دون أن نقاطعه بطريقة تعسّفيّة.
الشرط الثاني: يفترض الاحـترام جديّة الـمتحاورين في النقاش بروح الـمسؤوليّة (كما فـهمها ماكس فيبر وهانس يوناس). يقول في هذا الصدد: «قبل أن ندخل في أيّ شكل من أشكال الـمحاججة، حتّى في الـخطاب اليوميّ، ما إن نقبل بطلب الكلام حـتّى نفترض جـميعًا بأنّنا مسؤولون. فعلى سبيل الـمثال، عندما يقول شخص ما شيئًا غامـضًا أو عندما يتصّرف بطريقة مـبهمة، يـحقّ لي أن أسألَه: ماذا فعلت؟ أو ما الذي تـقصده من قولـك هذا؟ هذا يعني أيضًا أنّ له الــحقّ أن يـعطي شرحًا صادقًا، ليبيّن إذا كـنتُ على خطأ أو علـى صواب».[15]
الشرط الثالث: كلّ واحد له حقّ مـماثل لـحقّ الآخرين، وبالتالي يـحقّ له أن يثير مسائل جديدة، وأن يطالب بـمناقشة افتراضات النقاش نفسِها.
الشرط الرابع: على الـمحاور أو الـمناقش أن يتـحلّى بروح الـموضوعيّة، وأن يبتعد من الـمصالـح الـخاصّة، وعن التـحيّز، كي يعطي لقوله طابعًا رصينًا.
الشرط الـخامس: كلّ نقاش صادق يقوم على الرضى والتوافق، وبالتالي يبقى النقاش العقليّ سيّد الـموقف، كي نـخرج من لغة الـتهديد.
الشرط السادس: التـخلّي عن كلّ شكل من أشكال الـعنف والإقناع القسريّ، وتغليب لغة الحجّة والبرهان على الصراخ والـتهديد والتصفية الجسديّة.
لكي نفهم أبعاد هذه الأخلاقيّة، يـميّز هابرماس بين نوعين من النشاطات العقليّة: نشاطات تقوم على الـنجاح (في السياسة والاقتصاد والدين والتقنيّة)، ونشاطات تقوم على التفاهم الـمتبادل(intercompréhension) . ففي الـحالة الأولى، يركّز مـحرّكو النـجاح على نتائج عملـهم. فـهم يسعون إلى التأثير في عالـم الأشياء، وإلى التلاعب بالآخرين من خلال مـمارسة السلطة على نقاشاتـهم. إنّه العقل الأداتي والاستراتيجيّ بامتياز الذي يضع حدًّا للنقاش والـحوار سواء أكان بالقوّة، أم بالاقتصاد، أم بتشويه الـحقائق. أمّا النشاط التواصليّ فيُفهم داخل نشاط تفاهـميّ يرمي إلى الوفاق والانضمام إلى مشروع الشراكة الـمنصفة (fairness) على حدّ تعبير جون رولز. في هذا السياق، يتّبع الـمشاركون في النقاش سياسة الـحجّة الـتي تفترض عدم التشيّع في خطابـهم. النقاش الصحيح يقوم على الرضى، ولا يقبل إلاّ بالنقاش العقليّ، ولا يلجأ إلى لغة الـتهديد أو الإلغاء. ويظهر تأثير جورج هربرت ميد في هذه الفكرة واضحًا، إذ يرى أنّ الإنسان يـميل إلى التفاهم الـمتبادل من خلال اللغة والعمل التواصليّ.
بوجيز العبارة، إنّ العقلنة التواصليّة، مـحرّك العقل الـعمليّ تقدّم معيارًا (étalon) يسمح أوّلاً بتصويب شفافيّة التطوّرات الاجتماعيّة، وتتطلّع إلى إنشاء قوانين ترضي مصالـح الـجميع. في هذا السياق، لـم يعد الـمبدأ الشامل شيئًا معطى، بل مـطلـبًا يُكتسب داخل التواصل، مـما يعطي لأسس الأخلاق بعدًا معاصرًا...

- من الاندفاع والـحماس إلى الشكّ والارتياب

لا شكّ إنّ هذا التوجّه الفكريّ قد لاقى ترحيبًا كبيرًا في العالـم، خصوصًا في أوروبّا وأمريكا وحتّى في العالم العربي. ففي ألمانيا، بات هابرماس مرجعًا كبيرًا في تـقييم الأزمات الـكبيرة، فاختير مستشارًا للحكومة الفدراليّة مع خمسة من الاقتصاديين بطلب من النقابات الألمانيّة لـقراءة ما يـحدث في أوروبّا، ولا سيّما أزمة المديونيّة الأوروبيّة، وعلاقة ألمانيا بالاتحاد الأوروبّي، ومسألة اندماج المهاجرين. وفي مـحاضرة ألقاها أمام ألف شخص في جامعة لوفان البلـجيكيّة، شدّد على ضرورة إيـجاد مرساة لأوروبّا من خلال توجّه سياسيّ موحّد كي لا تقع في قبضة التكنوقراطيّة. كما انتقد سياسة ألـمانيا الاقتصاديّة، وحذّرها من العودة إلى أحلامها القديـمة كي تـجعل من أوروبّا ألـمانيّة بدلًا من أن تكون ألـمانيا في أوروبّا. كما شدّد على التضامن بين دول الاتحاد كي يبقى متينًا، إذ هي فرصته الأخيرة ليبقى في نادي الكبار، لا على الـمستوى الاقتصاديّ فحسب، بل على الـمستوى الثقافي والفنّيّ والقيميّ. وقد أعطي لقَبَ فيلسوف ألـمانيا من قبل وزير الـخارجيّة تقديرًا لـجهوده الكبيرة في الـمساهمة في إرساء أسس النقاش والتواصل في الـمجتمع الألـمانـيّ.
أضحت فلسفة النقاش والتواصل، إذا صحّ التعبير، دستورًا أخلاقيًّا لأوروبّا، إذ هناك إرادة قويّة في هذه القارّة على حلّ الـخلافات العالقة (الـخصوصيّات، اليورو، الاقتصاد، الثقافات الـمتنوّعة، اندماج الـمهاجرين...) من خلال النقاش الـموضوعيّ البنّاء. هذا يعـني أن النقاش والتواصل لا يُكتسبان مرّة واحدة، بل هـما عمل متواصل لتكون القوانين أكثر دقّة، وأكثر احترامًا. ما حصل في بلـجيكا منذ فـترة بين الـمنطقة الناطقة باللغة الفرنسيّة والفلاندر، نـموذج يـحتذى به حـتى الآن، لـحلّ الصراعات اللغويّة والقوميّة والاقتصاديّة من دون اللجوء إلى العنف. ما حصل في مقاطعة كاتالونيا الإسبانية بعد الاستفتاء الذي جرى لاستقلال هذه الأخيرة، كان أيضًا نـموذجًا يـحتذى به. ما حصل في اسكوتلندا من خلال الاستفتاء للاستقلال عن الـمملكة الـمتّحدة، كان أيضًا نـموذجًا يـحتذى به للتعبير عن أهـميّة النقاش والتواصل من خلال الاقتراع وتـحكيم الشعب في تقرير مصيره... ما حصل في تشيكيا وسلوفاكيا...
خلاصة القول، يعبّر هابرماس في فكره الأخلاقيّ عن واقع بدأ يرتسم في أوروبّا منذ بداية الاتـحاد الأوروبّي في الـخمسينيّات من القرن الـماضي، بعد أن اكتشف الأوروبّيون أنّ الصراعات القوميّة واللغويّة والثقافيّة لا تقود إلاّ إلى الدمار... هذا الفكر يرقى في أوروبّا إلى القرن السادس عشر، إلاّ أن تحقيقه بقي مستحيلاً للأسباب التي أشرت إليها. فمنذ الدراسات التـي صدرت في أوروبّا مع الأب سان بيير (1658-1743) "مشروع من أجل إحلال سلام دائـم في أوروبّا" لإلغاء الـحروب في العالـم، إلى الدراسة الـتي أعدّها روسو (1756) لتقييم مشروع سان بيار الذي يقول فيها إنّه يـجب إشراك الدول الأوروبيّة في علاقاتـها الـخارجيّة على غرار ما يشترك الـمواطنون في الدولة الديـمقراطيّة، وإيـجاد حلف يـحمي القوانين الـتي أقِرّت عالـميًّا كي تـخضع لـها الدول الـمشاركة فيه. ومع نابوليون والثورة الفرنسيّة لـم تـجدِ الـمحاولة نفعًا، إذ وحّدت أوروبّا لفترة بالقوّة.
أمّا كانط فقال في كتابه "مـحاولة من أجل السلام الدائم" (1795): ستكون أوروبّا فدراليّة شعوب، وليس دولة واحدة... وبعد الـحرب الألـمانيّة الفرنسيّة، دعا فيكتور هيغو إلى بناء دولة أوروبيّة على غرار الولايات الـمتّحدة تـحترم فيها قيم الـجمهوريّة كي يستوحي منها العالـم. يقول هيغو في هذا الصدد: «نسمع فرنسا تصرخ: الآن دوري، ألـمانيا ها أنا! هل أنا عدوّتك؟ لا، أنا شقيقتك. لقد أعدْت إليك كلّ شيء، شريطة أن نصبح شعبًا واحدًا، أسرة واحدة، جـمهوريّة واحدة. سأهدم قلاعي وستـهدمين قلاعك. ثأري هو الأخوّ ! لا حدود بعد اليوم. الراين للـجميع. لنكن في الـجمهوريّة نفسها، لنكن الولايات الـمتّحدة لأوروبّا، لنكن الفدراليّة القاريّة، لنكن الـحريّة الأوروبيّة، لنكن السلام العالـميّ».
توالت الكتابات والـخطابات من أعلى الـمناصب في أوروبّا تدعو إلى الاتـحاد. لـم يتحقّق هذا الـحلم إلا بعد حربين مدمّرتين، إذ لـم تنضج بعد فكرة قبول الآخر كقيمة ثقافيّة وفنيّة ولغويّة، لأنّ العقل القائم على الـمفاضلة والأداتـيّة كان الطاغي على الفكر آنذاك. في السياق، استعاد الـمفكرون هذه الروح، وراحوا يعيدون النظر في فكرهم الـمؤسّس منذ عصر الأنوار، فرأوا أن لا مناص للعيش إلاّ من خلال التواصل والنقاش القائم على العدالة والاحـترام الـمتبادل من أجل إرساء قوانين شاملة لـخدمة الـمجتمعات الأوروبيّة الـمتنوّعة. لا تـحلّ الـخلافات الـكبرى إلاّ في البرلـمان الأوروبّي في ستراسبورغ، وفي مركز القرار الأوروبّيّ في بروكسيل.
يعرف هابرماس وريث عصر الأنوار، هذا الأدب الفلسفيّ والسياسيّ والأخلاقيّ جيّدًا. وتعدّ كتاباته في هذا السياق تتويجًا للـجهد الكبير الذي قام به الـفلاسفة والـمفكرون والسياسيّون الكبار، خصوصًا منذ روسّو وكانط، مرورًا بشومان وأدناور وشارل ديغول وغيرهم مـمن أسهموا في توحيد أوروبّا على أسس أخلاقيّة عقليّة ترتبط بالواقع، تقوم على النقاش والـتواصل والاحترام في حلّ النزاعات والـخلافات من دون اللجوء إلى الـتهديد والعنف والإبادة. هذا الـحماس الذي تـجلّى من خلال فلسفة النقاش والـتواصل لا يـستهان به على صعيد الاتحاد الأوروبّي، ولو أنّ هناك بعض التساؤلات الكبرى عن علاقة أوروبّا بالدول البلقانيّة كالبوسنة والـهرسك وكوسوفو وألبانيا وغيرها...
هذه الــحماس لا يـمنعنا من طرح بعض الأسئلة على هابرماس: كيف يـمكننا أن نعمّم الظاهرة الأوروبيّة على الـعالـم؟ هل بوسع الاتـحاد الأوروبّيّ أن يـخفّف من استخدام العقلانيّة الأداتيّة في التعاطي مع الشعوب الأخرى؟ هل تغيّر فعلاً العقل الأوروبيّ السياسيّ والأداتيّ إزاء الشعوب التي تعيش خارج الفضاء الأوروبّيّ الديـمقراطيّ؟ هل الـخوف الذي يعمّ أوروبّا من الإسلاموفوبيا مبـرّر؟ ماذا يطرح هابرماس عـمليًّا لـمساعدة الـمهاجرين على الاندماج في الفضاء الأوروبّيّ؟ إنّ عودة الـيمين الـمتطرّف في معظم أنـحاء أوروبا، له دلالات سلبيّة على القيم الـتي تنادي بـها أوروبّا والـتي ينادي بـها هابرماس. هل يأتي التواصل والنقاش على الغرائز والتشنّجات الدينيّة والعرقيّة؟ ما يظهر في أوروبّا اليوم لا يصبّ في مصلحة فلسفة التواصل والنقاش، على الرغم من مـحاولات الدول لـخلق مناخ أكثر تناغمًا وتـجانسا.
هنا أودّ أن أتوقّف عند حدث مهم يرتبط بأحداث 11 أيلول/سبتمبر، يوم شاهد هابرماس على شاشة التلفزيون ما جرى في نيويورك وواشنطن، أصيب بصدمة كبيرة تـحوّلت في ما بعد إلى الشكّ في قدرة فلسفة النقاش والتواصل على تلطيف الأجواء في العالـم، وعلى حلّ الـخلافات (وقد نشر مع دريدا كتيّبًا في هذا الـخصوص إبّان تواجدهـما في نيويورك ندّدا فيه بالذين أقدموا على هذا العمل، إلاّ أنهما وجّها في الوقت عينه اتـهامًا مباشرًا إلى الولايات الـمتّحدة، وإلى سياستـها كدولة عظمى تـتجاهل بوقاحة القانون الدوليّ).
ما موقف هابرماس مـن الأحداث الـتي تـحصل في العالـم العربيّ وأفغانستان والصومال ومالي ونيـجيريا وغيرها من الدول في العالـم؟ ما موقفه من الصراع التاريـخيّ بين الفلسطينيين والإسرائيليّين؟ أين موقع فلسفة النقاش والتواصل في الفكر الـجامد الذي يرفض التنوّع الدينيّ والثقافيّ؟
لا شكّ أنّ هابرماس يعرف خفايا ما يـحدث في العالـم وخلفياتـها الـجيوسياسيّة، نظرًا إلى طموحه الكبير الذي يـهدف إلى إرساء مبادئ النقاش والـحوار خارج أسوار أوروبّا. أحاول أن أتصوّره في كرسيّه أمام شاشة التلفزيون يشاهد الرعب والدمار والإبادة في العالـم العربيّ. لا شكّ أنّه يعاني مثلنا كـمفكّر صادق من هول ما يـحدث. وأظنّ أنّه سيتشبّث أكثر فأكثر بنظريته أنّ الـماورائيات باتت خارج الدائرة التنظيريّة في إدارة الشأن العام، على غرار ما يحصل في أوروبّا. هذا يعني أنّه يتعيّن على العالـم العربيّ، إذا أراد أن يدخل في نادي الكبار ليكون نـموذجًا للآخرين، على غرار الاتّحاد الأوروبّي، أن يـخفّف من وطأة الدين عليه، وأن يعطي مساحة أكبر للـحوار العقليّ، مساحة تقوم على الـشروط الـتي أشرت إليها في تـحديد آلية النقاش والتواصل، لبناء مواطنة حقيقيّة لا جزئيّة أو مشروطة. لكن اللغة اليوم ليست للتواصل والنقاش، بل للتـهديد والتدمير والتهجير. ما إن تدخل الـمصالـح في حسابات الدول، يتحـوّل النقاش والتواصل إلى ترف فكريّ لا يصلح إلاّ في الـحلقات الصغيرة.

- خلاصة واستنتاج

في الخلاصة أن الفجوة بين الغرب الأوروبي والشرق العربي ليست حتمية، بل ناتجة عن تراكمات تاريخية وثقافية قابلة للتجاوز عبر التواصل العقلاني والتفاهم المتبادل. انطلاقًا من نظرية هابرماس في الفعل التواصلي، يبيّن أن الحوار النقدي والاعتراف بالاختلاف يشكّلان مدخلاً حقيقيًّا لبناء علاقة صحيّة بين الثقافات. ويؤكد أن تجاوز الأنماط النمطية والانغلاق لا يكون إلا بتربية وعي نقدي قادر على إدراك تعقيدات الآخر دون أحكام مسبقة، مما يعزّز فرص التلاقي بدل الصدام.

***

الهوامش - Footnotes

* باحث لبناني. محاضر في قسم الفلسفة في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية (4)، وفي كليّة التربية (2) – الجامعة اللبنانيّة. حائز شهادة دكتوراه في الفلسفة، عن موضوع: "نحو تأصيل دينيّ جديد للدولة الديمقراطيّة في فكر مارسيل غوشيه"، وكانت الأطروحة بإشراف البروفسور جوزف معلوف.

* Dr. Georges Eid Harb: Docteur en philosophie – Université libanaise. Profession: Enseignant-chercheur à l’Université libanaise – Faculté des Lettres (Section IV) et Faculté de Pédagogie (Section II). Titre de la thèse: Vers une nouvelle fondation religieuse de l’État démocratique dans la pensée de Marcel Gauchet. Directeur de thèse: Professeur Joseph Maalouf.

*

[1] Cf., Jürgen HABERMAS, De l'éthique de la discussion, trad. Mark Hunyadi, France, Flammarion, 1999, p. 15.
[2] Amin MAALOUF, Samarcande, Paris, Jean-Claude Lattès, 1988, p. 211-212.
[3] حاول ماكس فيبر في كتابه "ملاحظات أولـيّة" الذي خصّ به علم اجتماع الدين، أن يُفسّر مسألة التاريخ العالـميّ، طارحًا السؤال التـالي: "لـماذا لـم يرتبط تطوّر العلم والفنّ والدولة والاقتصاد، خارج أوروبّا، بطُرق العقلنة الـمرتبطة بأوروبّا؟". ويُعدّد هابرماس في كتابه "نظريّة الفعل التواصليّ" الـتـجلّيات التـي نـتجت عن هذه العقلنة وهي لا تُـحصى... انظر:
Jürgen HABERMAS, Théorie de l'agir communicationnel. Pour une critique de la raison fonctionnaliste, trad. Jean-Marc Ferry, T. I, Paris, Fayard, 1987, p. 172.
[4] Handle nur nach derjenigen Maxime, durch die du zugleich wollen kannst, dass sie ein allgemeines Gesetz werde.
[5] يقول في كتابه الأوّل "نظريّة الفعل التواصليّ": نطمح من خلال أفهوم الـحجّة إلى التصديق على مبادئ شاملة. فبخلاف الـمنطق الصوْري، إنّ منطق الـحجّة لا يتوقّف عند الترابط الشكليّ، بل عند العلاقة الداخلية، استنباطيّة كانت أم لا، بين الوحدات البراغماتيّة الـتي من خلالـها تتألّف البراهين. وقد لـخّص هابرماس هذا الـمفهوم في نقاط عدّة:
- هناك شكّ جدّيّ في إمكانيّة مقاربات الـمنطق الاستنباطيّ والـمنطق الاستقرائيّ النـمطيّ الذي يكتفي بصنع معظم أشكال الـحجج.
- يقتنع هابرماس بوجود أنـماط وقواعد ودلالات لتقييم البرهان، تكون منطقيّة دون أن تدخل في حقل الـمقولات...
- الرغبة في بناء نظريّة كاملة في التفكير تتـخطّى الـمنطق الصوْريّ الاستنباطيّ والاستقرائيّ... انـظر: الـمرجع نفسه، ص 40-41.
[6] Jürgen HABERMAS, Morale et communication. Conscience morale et activité communicationnelle, trad. Christian Bouchindhomme, Paris, Champs/Flammarion, 1986, p. 88-89.
[7] Cf. De l'éthique de discussion, op.cit., p. 24.
[8] Cf., Morale et Communication, op.cit., p. 23-40.
[9] Jürgen HABERMAS, Théorie de l'agir communicationnel. Pour une critique de la raison fonctionnaliste, op.cit., p. 437-438.
[10] Morale et communication, op.cit., p. 24.
[11] Ibid., p. 25-26.
[12] Théorie de l'agir de communication, II, op.cit., p. 238.
[13] Morale et communication, op.cit., p. 39.
[14] Cf. Karl-Otto APEL, Ethique de la discussion, trad. Mark Hunyadi, Paris, Cerf, 1994, p. 7.
[15] Jürgen Habermas, Etre résolument moderne, in Autrement. A quoi pensent les philosophes, no 102, p. 27.

***

المصادر والمراجع - References

- العربية:
- هابرماس، ي. (2008). نظرية الفعل التواصلي (ف. أنطونيوس، مترجم). بيروت: المنظمة العربية للترجمة

- الأجنبية:
- APPEL, Karl-Otto, (1994). Ethique de la discussion, trad. Mark Hunyadi, Paris: Cerf
- HABERMAS, Jürgen, (1986). Morale et communication. Conscience morale et activité communicationnelle, trad. Christian Bouchindhomme, Paris: Champs/Flammarion
- HABERMAS, Jürgen, (1987). Théorie de l'agir communicationnel. Pour une critique de la raison fonctionnaliste, trad. Jean-Marc Ferry, T. I, Paris: Fayard
- HABERMAS, Jürgen, (1999). De l'éthique de la discussion, trad. Mark Hunyadi, France: Flammarion
- Habermas, Jürgen, Etre résolument moderne, in Autrement. A quoi pensent les philosophes, no 102
- MAALOUF, Amin, (1988) Samarcande, Paris: Jean-Claude Lattès

الحداثة (Al Hadatha)
خريف - شتاء 2025- 2026 Autumn /Winter
العدد: 237 - 238 ISSUE
مجلد: 32 .Vol

ليست هناك تعليقات:

اقرأ أيضًا

تعليقات القرّاء

راسلنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تصنيفات وأعداد

Al Hadatha (1124) أبحاث في الأدب واللغة (393) أبحاث في الثقافة الشعبية (247) أبحاث في العلوم الاجتماعية (196) أبحاث في الفنون (178) أبحاث في التاريخ (147) أبحاث في التربية والتعليم (132) أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية (88) أبحاث في علم النفس (76) أبحاث في الفلسفة (66) مراجعات (64) أبحاث في الإعلام (43) صيف 2019 (42) محتويات الأعداد (41) افتتاحية الأعداد (40) شتاء 2020 (38) خريف 2020 (37) ربيع 2020 (37) خريف 2019 (35) صيف 2020 (35) خريف 2023 (34) خريف 2024 (34) شتاء 2025 (34) أبحاث في الآثار (33) ربيع 2025 (33) شتاء 2024 (33) صيف 2024 (33) الحداثة : أعلام (32) ربيع 2024 (32) شتاء 2021 (31) خريف 2025 (29) شتاء 2026 (29) الحداثة في الإعلام (27) أبحاث في القانون (26) خريف 2016 (26) شتاء 2017 (25) نوافذ (24) ربيع 2021 (23) صيف 2018 (23) صيف 2023 (23) خريف 2018 (22) ربيع 2022 (22) صيف 2017 (22) صيف 2025 (22) شتاء 2022 (21) خريف 2021 (20) ربيع 2017 (20) ربيع 2023 (20) صيف 2021 (20) أبحاث في العلوم والصحة (19) شتاء 2019 (19) أبحاث في كورونا (covid-19) (18) خريف 1994 (18) صيف 2022 (17) خريف 2001 (16) خريف 2022 (16) شتاء 2023 (16) ملف الحداثة (15) أبحاث في الجغرافيا (14) أبحاث في الإدارة (13) ربيع 2019 (12) شتاء 2000 (12) شتاء 1996 (11) شتاء 2018 (11) خريف 1995 (10) ربيع 2015 (10) أبحاث في الحقوق (9) خريف 2004 (9) صيف 1997 (9) خريف 2017 (8) ربيع 1999 (8) ربيع 2016 (8) ربيع وصيف 2007 (8) شتاء 1998 (8) شتاء 2004 (8) صيف 1994 (8) صيف 1995 (8) صيف 1999 (8) شتاء 1999 (7) شتاء 2016 (7) خريف 1996 (6) خريف 1997 (6) خريف 2013 (6) ربيع 2001 (6) شتاء 1995 (6) شتاء 2013 (6) صيف 2000 (6) صيف 2001 (6) صيف 2002 (6) خريف 1998 (5) خريف 2000 (5) خريف وشتاء 2003 (5) ربيع 1996 (5) شتاء 1997 (5) صيف 2003 (5) صيف 2009 (5) ربيع 2002 (4) شتاء 2011 (4) صيف 1996 (4) صيف 2008 (4) خريف 2003 (3) خريف 2009 (3) خريف 2010 (3) خريف 2015 (3) خريف شتاء 2008 (3) ربيع 1995 (3) ربيع 1998 (3) ربيع 2000 (3) ربيع 2003 (3) ربيع 2012 (3) ربيع 2018 (3) شتاء 2001 (3) شتاء 2010 (3) صيف 1998 (3) صيف 2005 (3) صيف 2010 (3) صيف 2014 (3) صيف خريف 2012 (3) العدد الأول 1994 (2) خريف 1999 (2) خريف 2005 (2) خريف 2014 (2) ربيع 2006 (2) ربيع 2011 (2) ربيع 2013 (2) ربيع 2014، (2) شتاء 2005 (2) شتاء 2012 (2) شتاء 2014 (2) شتاء 2015 (2) صيف 2006 (2) صيف 2011 (2) صيف 2013 (2) صيف 2015 (2) الهيئة الاستشارية وقواعد النشر (1) خريف 2011 (1) ربيع 2004 (1) ربيع 2005 (1) ربيع 2009 (1) ربيع 2010 (1) ربيع 2014 (1) شتاء 2007 (1) صيف 2004 (1) صيف 2016 (1) فهرس (1994 - 2014) (1) مجلدات الحداثة (1)

الأكثر مشاهدة