Al-Hadatha Journal: 31 years of communication - Welcome to the site (under construction). Here we publish Abstracts of research

بحث - Search

مجلة الحداثة: 31 عامًا من التواصل - أهلا بكم في الموقع الترويجي (قيد الانشاء) ننشر هنا ملخصات عن الأبحاث

المشاهدات

نوافذ: ذاك الذي زلّت به قدمُ (قصّة)

ليندا محمد حجازي - مجلة الحداثة

ليندا محمد حجازي *


"يحقّ للفلسطينيين أن يفاخروا العالم بتطريز الأثواب؛
إنّ المرأة الفلسطينيّة ما نقشت وطرّزت ثوبًا لنفسها أو لغيرها
إلاّ وهي تحتدم حسًّا بروعة الوجود وغزارة الحياة".
جبرا إبراهيم جبرا؛ التّطريز الفلسطيني، "غرزة الفلاحي" التقليديّة

حين لم تُبْقِ الحرب من بيتهما غير شيء قليل من حائط تداعى للسقوط ومرآة تتكسّر عليها باقيات الذكرى وضوء النّهار. كانت كلّ صباحٍ، تجلس قبالة ذاك الزجاج المشروخ للبلكونة، على أريكة واطية، وتُسند يُمناها على الحاجز الخشبيّ، فيما تُداعب يُسراها غربال أشغال الدانتيل المسنود لوسادة، وعلى ركبتيها تتراقص أشرطة معدنيّة ولؤلؤٌ، وخرزٌ، وريشٌ، وترترٌ، وفصوصٌ، وخيوط ذهبيّة وفضّيّة، وأصباغ... وفي سلّة الياسمين تبرز قطع قماش من الحرير والكتّان و"الكنفا" وكباب ملوّنة خضراء، وحمراء، وبيضاء.
يا لشقاوة الطّفل! كالقطّ يأتي يُشاغبها، يضع ثلاث وسائد مُنضّدة فوق بعض، ويصعد مستندًا على كتفيها، وهو يحملقُ في صورتهما المنعكسة الآتية من طيوف المرايا. تُحَذِّرُهُ مِنْ انزلاق ساقيه فَيَلْتَصِقُ بِظَهْرِها وَيَدِاه تكبشان بأطراف ذقنها ونحرها.
نادت لأخته. جَاءَتْ عجلةً، تودّ إِنْزَالَهُ، فَتَشَبَّثَ بِها، وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ، وما زاده الصّراخ إلاّ عزمًا وتَشَبُّثًا بعنق أمّه، وَلمّا انْتَزَعَتْهُ الأخت انْتِزَاعًا، فرطت رجله وزلّت قدمه. ومن يومها رافقه العرجُ، وتكرُّر انزلاقه وتعثّره كلّ حين.
هي تظلّ تنقّل الأوتاد والإبر بين أناملها حتى توشك أن تتشابك، وبحركة خفيفة تغرز الخيوط والألوان إلى القماش المثبّت للوسادة بالدّبابيس. حتى إذا ما استوت حياكة الوشاح وأخذ من عينيها التّعب، رفعت إلى أعلى تلك الأوتاد الصغيرة المتراقصة بين كفّيها، كي تُسرّحَ عينيها بالأفق. وتتذكّر ملامحه، وهي تردّد أخشى أن "يموت الأبطال دون أن يسمع بهم أحد".
يا الله. كَبُرَ بسرعة! الآن تراه جسورًا إذا ما لبس زيّ المقاومة، والعصابة الخضراء، حنونًا ساعة يحبّ أن يودّعها. خجولًا بارًّا لمّا ينكفئ على يديها يقبِّلهما.
في مواجهة البلكونة، عمقَ المرآة المهشّمة، تتبدّى قطعةُ أرض مستطيلة، ويؤلّف ضلعاها جدرانَ بيوت الجوار، متهدّمة جرّاء القصف، وحطام الخرائب وركام المنازل المتهالك، الكدر، البائس... في حين تمتدّ بالضّلعين الآخرين بيّارة البرتقال التي تدمع مع ندى الصّباحات، حين تلجأ إليها عصافير الدوريّ لتبني أعشاشها من جديد بين العوارض الخشبيّة، والأسيجة، والأنقاض.
كأنّ تلك الْسّاحةَ شَاشَةٌ عملاقةٌ. رهيبةٌ. يتراءى لها شباب الفدائيّين يُحَطِّمُونَ الْصّمت، يَهْتِفُونَ بحريّة أرض فلسطين وينشدون:
"ويدرجُ يمشي على الطين شبلٌ وما له في الكونِ مثلُ
كأنّ الثرى تحت أقدام صَحْبِه سيفٌ كأنّه ينسلُّ نصلُ
يظلّ الثّرى والترابُ يُقبّلُ كفّيه دومًا وفيه المدائح تحلو
يقاتلُ كلّ عدوّ ويقطع كل الرؤوس فويل لخصمه ويلُ"

*
"هنالك بداية صغيرة لكلّ حادث كبير...".
الكُلُّ يَنْتَظِرُ إِشَارَةَ البَدْءِ بِالقِتَالِ. العَدُوُّ أَمَامَهم، يُوَجِّهُ حرّاس كتيبته، عيونهم وأسْلِحَتَهُم بكلّ اتّجاه، وَهم ينْتَظِرُون. تمرّ سَيَّارَةُ الْجِيبِ مزمجرة. ما أقسى ذلك الرّعب الّذي يتوغّل بالنّفوس خشية أن يستفيق العدو. القائد يَأْمُرُهم بِالاِسْتِعْدَادِ لِخَوْضِ الْمَعْرَكَةِ.
فِي الشّاشَةِ وَجْهٌ ليس يُرى منه غير عينين. يَأْمُرُهم:
- ألا هبّوا!
لقد أقام جنود الاحتلال متاريس من تراب ترتفع إلى لهب البارود المولول عند خيامهم الجحيميّة، وتنحدر كالزمن إلى هاوية، تُنذر المحتلّ بالفناء، وتبشّرُ الفدائيّين بأوان انبلاج الفجر والغسق نحو مصائر التّحرير. فقد كان مقدّرًا أن يُنهي المجاهدون المهمّة بتفجير خيام العدوّ بعبوات ناسفة تأتي على مركز قيادة العدوّ.
في ساعة الصّفر، وعلى مقربة من الخيمة، أمر قائد الكتيبة أن يقع اجتياز الستائر الترابيّة الموحلة والمنعطفات الزّلقة. خلع الرّجال النّعال وابتدأوا الصّعود. وانَفْتَحت عُيُونَ المجاهدين...، وَيَأْمُرُهم القائد بِالزَّحْفِ. فيزْحَفُون صعودًا.
وحده تخونه ساقه العرجاءُ، تغوص بالوحل، يتماسك، ويصعد أعلى الهضبة. يخلع نعليه، ويعبر الطّريق إلى الحياة، حيث الأرض في مهبّ الضّباب، مُضمّخة بعبق الصّلاة، والحلم. يلتمعُ على جيدهـــا قبس نبلٍ، وضوء من كرامة، وقد أسكرها التَّوق إلى دفء جلده ليفضّ فيها شهوة الحياة، فتنبثق مروجًا على مدى النّظر من الخبز الذي أنضجته شمس الإرادة، والعزيمة.
يطأها خفيفًا حافي القدمين، ينسج لهاثه ضوع حبٍّ، ويشكّل مداها خمره الأبديّ، ونجوى صلاةٍ يواكب عطرها طيب الحياة. وفكرة تسمو بها الفكَر.
يطأها حالمًا بقبر في ثراها، يغدو في عبق التاريخ محجّة وقبلة، حيث تختمر الحريّة بمخاض الولادة، ويعبق جسد النهر المتدفّق بشبق النّصر.
وما هي إلا خطوات حتى ظهرت خيمة قيادة العدوّ للعيون. ابتدأ القتال، وانهمر وَابِلُ الرَّصَاصِ.
كان تبادل إطلاق النار مريعًا كثيفًا. وما إن تقدّم الفيلق المجاهد تحت ذاك الوابل، حتى تفجّرت عبوة ناسفة زرعتها المقاومة قرب خيمة العدوّ.
سَقَطَ البَعْضُ، وَانْبَطح البَعْضُ الآخَرُ، هو لم يقدر على الانْبَطِاح. ظلّ يقفُ شامخًا وَالرَّصَاصُ يَرْسُمُ مِنْ حَوْلِه دَوائِرَ، يُطَوِّقُه، يُمَزِّقُ ثِيَابه، يَجْرِفُه التُّرَابَ، يُعفّرُ جَبِينَه، وَالأَرْضُ تَحْتَضِنُه، تَضُمُّه إِلَيْهَا وَتُقَبِّلُه.
مع الدقائق الأخيرة التي تمرّ ويوشك ينفذ وقت المهمّة، تتفحّم الأشلاء وتتطاير شرارات الانفجار، ويصعد الدّخان معلنًا نجاح المهمّة.

*
"حقًّا كلّ دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقًا صغيرًا يتّسع لأمّ تبحث عن طفلها المفقود" **
وحده الذي تعوّد أن تزلّ قدمه كلّ حين، يعود في نعش محمولًا على أكتاف رفاقه من الفدائيّين/ وقد ترسّخت أقدامه في نهر الشّهادة.

***

* كاتبة لبنانية. حائزة شهادة ماستر في اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية.
** القول للأديب الفلسطيني غسان كنفاني


الحداثة (Al Hadatha) – مج. 31 - ع. 232– صيف 2024 SUMMER

ISSN: 2790-1785

ليست هناك تعليقات:

اقرأ أيضًا

تعليقات القرّاء

راسلنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تصنيفات وأعداد

Al Hadatha (1007) أبحاث في الأدب واللغة (362) أبحاث في الثقافة الشعبية (245) أبحاث في العلوم الاجتماعية (182) أبحاث في الفنون (168) أبحاث في التاريخ (125) أبحاث في التربية والتعليم (114) أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية (80) أبحاث في علم النفس (64) مراجعات (61) أبحاث في الفلسفة (55) صيف 2019 (42) شتاء 2020 (38) محتويات الأعداد (38) افتتاحية الأعداد (37) خريف 2020 (37) ربيع 2020 (37) خريف 2019 (35) صيف 2020 (35) أبحاث في الإعلام (34) خريف 2023 (34) ربيع 2024 (33) شتاء 2024 (33) صيف 2024 (33) أبحاث في الآثار (32) الحداثة : أعلام (32) شتاء 2021 (31) خريف 2016 (26) شتاء 2017 (25) الحداثة في الإعلام (24) نوافذ (24) ربيع 2021 (23) صيف 2018 (23) صيف 2023 (23) خريف 2018 (22) ربيع 2022 (22) صيف 2017 (22) أبحاث في القانون (21) شتاء 2022 (21) خريف 2021 (20) ربيع 2017 (20) ربيع 2023 (20) صيف 2021 (20) شتاء 2019 (19) خريف 1994 (18) أبحاث في العلوم والصحة (17) أبحاث في كورونا (covid-19) (17) صيف 2022 (17) خريف 2001 (16) خريف 2022 (16) شتاء 2023 (16) ملف الحداثة (15) ربيع 2019 (12) شتاء 2000 (12) شتاء 1996 (11) شتاء 2018 (11) خريف 1995 (10) ربيع 2015 (10) أبحاث في الجغرافيا (9) خريف 2004 (9) صيف 1997 (9) خريف 2017 (8) ربيع 1999 (8) ربيع 2016 (8) ربيع وصيف 2007 (8) شتاء 1998 (8) شتاء 2004 (8) صيف 1994 (8) صيف 1995 (8) صيف 1999 (8) أبحاث في الإدارة (7) شتاء 1999 (7) شتاء 2016 (7) خريف 1996 (6) خريف 1997 (6) خريف 2013 (6) ربيع 2001 (6) شتاء 1995 (6) شتاء 2013 (6) صيف 2000 (6) صيف 2001 (6) صيف 2002 (6) خريف 1998 (5) خريف 2000 (5) خريف وشتاء 2003 (5) ربيع 1996 (5) شتاء 1997 (5) صيف 2003 (5) صيف 2009 (5) ربيع 2002 (4) شتاء 2011 (4) صيف 1996 (4) صيف 2008 (4) خريف 2003 (3) خريف 2009 (3) خريف 2010 (3) خريف 2015 (3) خريف شتاء 2008 (3) ربيع 1995 (3) ربيع 1998 (3) ربيع 2000 (3) ربيع 2003 (3) ربيع 2012 (3) ربيع 2018 (3) شتاء 2001 (3) شتاء 2010 (3) صيف 1998 (3) صيف 2005 (3) صيف 2010 (3) صيف 2014 (3) صيف خريف 2012 (3) العدد الأول 1994 (2) خريف 1999 (2) خريف 2005 (2) خريف 2014 (2) ربيع 2006 (2) ربيع 2011 (2) ربيع 2013 (2) ربيع 2014، (2) شتاء 2005 (2) شتاء 2012 (2) شتاء 2014 (2) شتاء 2015 (2) صيف 2006 (2) صيف 2011 (2) صيف 2013 (2) صيف 2015 (2) الهيئة الاستشارية وقواعد النشر (1) خريف 2011 (1) ربيع 2004 (1) ربيع 2005 (1) ربيع 2009 (1) ربيع 2010 (1) ربيع 2014 (1) شتاء 2007 (1) صيف 2004 (1) صيف 2016 (1) فهرس (1994 - 2014) (1) مجلدات الحداثة (1)

الأكثر مشاهدة