عزة مصطفى علي دياب *
تتسلق عيناه الحائط المطلي حديثًا بالأزرق الفاتح المقابل لأريكته المفضلة، لمح صورة ابنه في المنتصف، اعتادت عيناه منذ سنوات على عبورها والتأقلم معها كأي برواز لزهور أو حوريات. في ما مضى؛ نزع المسمار الذي حملها قرابة العام كانت الصورة تتأرجح ويتسرب من حول المسمار، رمل وأسمنت، أصلح الحفرة التي خلفها المسمار ولصق الصورة ببروازها الأنيق إلى الحائط من جديد، من يومها لا يعدّ الأعوام، فما عاد الجدار يئن من وخز المسمار له، انتقل الأنين إلى قلبه المسترجع للذكريات.
يلمع زجاجها كل يوم، وهو يتفادى النظر في عيني ابنه، يغمرها ضوء الشمس الواصل من النافذة، كم مرّ من صباحات لم يفتح خصاص النافذة بحجّة حجب أتربة الشارع التي تثيرها السيارات من دون هوادة. ينعكس الضوء وكأنه شعاع يخرج من عينيه الرائقة الخضرة كأنهما حبتا بازلاء، وفي منتصفهما لون رصاصي فضّي يفضي إلى القلب الذي خانه وخانهم جميعًا حين توقف فجأة منذ سنوات تعب من عدّها.
النافذة المفتوحة ولون عينيه مع ابتسامته وفرح شفيف لا يخلو من شجن، التقطت الصورة ليلة عرسه قبل أن يزفّ على عروسه، ليلتها تذكّر الأب ليلة عرسه، وكانت في البيت نفسه، مدّ الجدار إلى أعلى ليكون بيت زوجيّة جديد. الجدار الذي أظلّ أباه وأمه من ثلاثين عامًا، امتدّ اليوم ليظلّ الابن وعروسه.
مضى على زواجه سنة ووصل حفيده؛ صورة من أبيه حتى لون عينيه الخضراء التي ورثها ابنه من جدّه. تلوّن السعادة عيني ابنه، لكنها الدنيا التي ضاقت في وجه أبيه، ورسمت التكشيرة على ملامحه. تذكرته، وجاء اليوم الذي مضى فيه ابنه بعيدًا من جدار البيت، فقد استراح في رقدته الأخيرة، لم يعد في حاجة لظلّ الجدار، أصبح صورة في برواز يزيّن الحائط، ويدمي قلب أبيه.
بريق عينيه في الصورة أنار ذاكرة أبيه، وأخذه إلى الليلة التي سبقت مولده بتسعة أشهر. حينها كان هناك برواز آخر، وفي المكان نفسه، يحمل صورة أبيه المتوفى قبل دخوله الجيش بعدة شهور، كان أبوه في الصورة شيخًا بلحية وشارب كللهما المشيب وتقويرة جلبابه الصوف منفرجة، ويظهر من تحتها صديري باهت، وتكشيرة على وجهه كأنه يتألم وهو يشعر بدنو الأجل. فقد التقطت له الصورة قبل وفاته بأيام من أجل تسوية معاش الصيادين الزهيد. خضار العين وعمق النظرة التي تحيّر من يحلّلها هي الشبه الوحيد بين الصورتين للجد والحفيد. كانت زوجته تقلّب الصورة لأنها تخجل من نظرة حميها لها وهي نائمة بجوار زوجها، هو أيضا كان يتلاشى النظر إليه، فقد كانت تكشيرته تمنحه تعاسة وضيق نفس، لكنه لم ينزل الصورة عن الجدار إلا عندما حلّت مكانها صورة ابنه بملامح وديعة ونظرة حائرة بين الحلم واليقظة.
خريف العام 1970 منح 24 ساعة إجازة من الجيش، قفز في القطار المتجه لرشيد من محطة مصر في الإسكندرية. وصل البيت بعد العصر يتلهف للقاء زوجته، من ثلاثة شهور لم يأخذ ولو ساعة إجازة مرّت فيها البلاد بحدث مفاجئ رحيل الرئيس جمال عبد الناصر. مضى سبتمبر والجماهير تبكي، كان الخريف حارًا، أكتوبر يقترب من نهايته وكأننا في يوليو، فرحت أمه وأخواته لزيارته. دخل حجرته ينادي زوجته، قالت أمه: "مراتك في المستشفى أخذوها. اشتباه كوليرا". لم يقف على التفاصيل، سريعًا سلك طريقه إلى المستشفى وأمه تنادي عليه: "يا وله ارجع بعدين تتعدي منها ومن أهلها".
كانت زوجته أمضت اليوم السابق عند بيت والدها، وفي صباح اليوم ذهب أحد إخوانها إلى المستشفى يشكو من قيء وإسهال، أمر مدير المستشفى بملاحقة أهل البيت، ومن كان في زيارتهم اليوم السابق وإيداعهم في عنبر الحميات.
دخل بوابة المستشفى لمح أم زينهم التمرجية، اقترب منها، رحبت به، فقد كان ابنها زينهم زميله في المدرسة الابتدائي قبل أن يتسرّب كلاهما من التعليم. حكى لها عن زيارته الخاطفة 24 ساعة، وزوجته المشتبه فيها كوليرا، قالت: "البشحكيم يمرّ على العنبر وبعدها هات حنطور وخد مراتك، والصبح قبل متسافر هاتها قبل مرور البشحكيم الصباحي".
ركبت زينب الحنطور معه والفرحة تبرق في عينيها، تنظر إليه تلمس ذراعه وكتفه وكأنها لا تصدق أنه وهي معًا. وفي الطريق إلى بيتهما، ينزلق شالها المزركش بالورود عن رأسها على أثر طرقات حداوي الحصان لأديم الطريق وما يسببه من اهتزاز لعربة الحنطور. تداعب نسمات الخريف شعرها المماثل لون عينيها السوداوين، ترفع الشال على رأسها ونظراتهما تهمس بالشوق والمحبة وتجاهل الكوليرا وأوامر طبيب الحميات بالعزل والتباعد.
يصعدان درج البيت بخفّة، يغلق باب حجرته، ويغيبان في عناق مشتاق. تسرّب النافذة ضجيج الجيران، يسارع بغلقها، وهي تقلب صورة حميها المبحلق لهما، ذاب كلاهما في الآخر، يرفع شعرها الملتصق بعنقها من حرارة اللقاء، يضمّها تتجدد الرغبة. طرق عنيف لباب البيت، يسمع صوت أم زينهم التمرجية، يرتدي ملابسه على عجل، يجدها في منتصف الدرج أنفاسها متلاحقة:
- "فين زينب البشحكيم في السكة، حد بلغ أن المشتبه فيهم هربوا، بسرعة دي فيها رفد".
يحاول تهدئتها، ترتدي زينب ملابسها تلملم شعرها، تلفّ الشال عليها، تصطحبها "أم زينهم" وعيون أهل البيت تراقبها لم يشعروا بها حين جاءت، تعاطفت معه أمه وأخواته، بعد شهرين حين ظهرت علامات الوحم على زينب كانت أمه تتضاحك هامسة "كل ده من الليلة إياها".
في نهاية يوليو للعام 1971 وصل حامد في ليلة قائظة، تحت صورة جدّه تلقفته يدي جدته من القابلة التي نادته حامد، وعندما لم تعترض الأم أو الجدة، دوّنته في بلاغ الولادة وشهادة الميلاد. جاء في إجازة ألح في طلبها ليطمئن على زوجته التي على حسابه قد تلد في أي لحظة، وجد حامدًا نائمًا، وفوق رأسه شموع السبوع، وصحبة ورد بلدي، وكوب لبن، وطبق حمص.
يقترب من صورة حامد يتأملها: "عيناك وبياض بشرتك لجدك، الأنف والجبهة لي، الفم لأمك، شعرك الكستنائي لك أنت ولابنك، أنه صورة منك". يقترب أكثر من الصورة وكأنه يريد أن يفضي إليه بسرّ تلك المرة، يتجنب النظر إلى عينيه، يهمس: "زوجتك تريد أن تتزوج هنا في بيتك، قلت لها أتأتين برجل غريب في بيتي؟ قالت بوقاحة إنه سيصبح زوجي، ولن يصبح غريبًا، تعبت يا حامد إلى أن خلصت البيت من الورثة، بعد خروجي من الجيش بعد حرب أكتوبر 1973 عملت بمهنة والدي صيادًا، تنقلت من مركب لمركب أكبر من النهر إلى البحر إلى المحيط، كنت أعمل كثيرًا قبل أن يتقدم بي العمر، فهي مهنة تعتمد على قوة الساعد، كنت في سباق مع الزمن أحرّر البيت من الورثة حينًا، وأشتري نصيبًا في مركب تصرف علينا عندما لا يتحمّل ذراعي العمل حينا آخر". يتلفت حوله، يعتدل في وقفته أمام الصورة: "أمك كان عندها حق، بعد وفاتك قالت: دع أرملة حامد تأخذ متاعها وتعود إلى بيت والدها والطفل يظل بيننا وبينها ندفع لها نفقته وأن تزوجت يبقى معنا.
رفضت رأي زينب أو لم أصدق أنك توفيت، قد يكون ما أغضبني في كلام أمك هو وصفها لزوجتك بالأرملة، أمل جديد عشته حين مد ابنك يده لي اصطحبه للروضة لم أعش معك تلك اللحظات كنت أجري وراء لقمة العيش، منحني الطفل ذكريات جديدة، انتظر ذهابه وعودته، مضت السنوات وصدقت أنك سبقتني ورحلت".
ينظر إلى عيني حامد برجاء: "أغلقت باب بيتك، واوصيت أن يأخذه ابنك عندما يكبر، لا تقلق استرح".
يلمس الحائط بحنو، متابعًا بقع الضوء والأشعة المنعكسة من عيني حامد.
***
* قاصة مصرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق