صعد طلال سلمان إلى مكان ما في السماء، قد يكون في باله "على الطريق"، أن يواصل التأمل والكتابة وتدوين ملاحظاته من فوق، بعدما مارس ذلك لسنوات على الأرض من دون أن يضع قلمه جانبًا.
طلال الذي ارتبط اسمه بعروسته "السفير" الّتي ودّعها القارئ اللبناني والعربي قبل سنوات،
بغصة عميقة، وحرقة، عندما اختفت من المكتبات وأكشاك بيع الصحف، ومن صباحاتنا... إلا أنها اختفت ورقًا، لتصبح مع مؤسسها وناشرها، مدرسة.
منذ سنوات، جرى حديث في أمسية لتكريم طلال سلمان، عن البطل القومي جلجامش الذي طرح السؤال الوجودي الصعب: كيف نواجه الموت؟ وقد تحدّى الصعوبات والتحديات كافة للحصول على عشبة الخلود، إلا أن الحضور، لم ينتبه آنذاك إلى أن هذه العشبة/ "السفير"، ستأتي اللحظة، وتلتهمها الحية.
بكى جلجامش عشبته، كما بكى طلال سفيره، إلا أنه وكلّ على طريقته، أدرك أن الخلود قد تحقق في ذاكرةِ التاريخ، عبر محبةِ الناس، والعمل الذي أنتجه أو حثّ على انتاجه.
طلال سلمان الذي نبكيه اليوم، هو من طينةِ هؤلاء، وقد زرعَ في حديقتِه أعشابَ خلودٍ، التهمها الكثيرون، فمنهم من حلّقَ بعالمِ السياسة، ومنهم من طبعَ اسمَه في تاريخِ الأدب، ومنهم من رسمَ بريشتِه مرارةَ أمة ووجعَها وفرحَها وقلقَها وخوفَها.
ابن شمسطار، الذي يربكك تواضعُه، وتربكك إنسانيتُه، وتكبرُ في قلبِه الكبير، عندما دنا الموتُ منه في العام 1984، فوجئ بحجمِ الأرواح التي تحيطُ بروحِه، وفوجئ أكثر بهذا الكمّ من النورِ الذي كاد يفضح خطواتِه.. لم يكن طلال في ذاك التاريخ قد بلغ 46 عامًا فحسب، بل ألفَ عام وعام حملها منذ شرع برمي بذرةِ "السفير" في التربةِ اللبنانية والعربية.
احتفى طلال بالكثيرين، ودّع الكثيرين، بكى الكثيرين، وسامح الكثيرين الكثيرين..
عضَّ على جراحِه كثيرًا، ليستمرَ على النهجِ نفسِه؛ نهجِ "صوت الذين لا صوت لهم".
وأمام كلِّ جرحٍ، وتحوّلٍ شهده البلد، لم يكن يفكر بنفسِه وبعائلتِه فحسب، بل بأسرةٍ تتكوّن من أكثر من 200 صحافي وكاتب ومحرر ومصوّر ومراسل ومخرج وعامل مطبعة وموظف إداري وتقني ومنفذ، وموظف استقبال وسنترال... وكلُّ فردٍ من هؤلاء يعيلُ أسرةً.. كان طلال، عند كلِّ مفترقٍ صعبٍ وخطرٍ، يفكرُ بمصيرِ حوالي ألف شخص... بأمهاتهم وآبائهم وأولادهم وبناتهم.
اليوم نحن نبكي طلالاً بعدما بكينا "السفير"، نتفحّص ما فقدناه في أرواحنا، نحن الذين واكبنا وتابعنا وعاصرنا هذا الرجل المدرسة، وصحيفته التي كانت لسانَ حالِنا، وحالِ أهلِنا البسطاء والطيبين، وكانت ترشدُنا دائمًا إلى بوصلةِ الوطن الذي نحبّ ونريد ونحلم به، ذاك الوطن الذي سال دمُه على صفحاتِها، وارتسمت ضحكتُه على عناوينها، وأغرقت دموعُه صورَها...
اليوم نحن نودّع طلالاً بعدما بكينا في الأمس، "السفير" التي انتقلت من عالم الورق إلى عالم الأسطورة.
طلال سلمان يا صاحب "السياقات"، و"الهوامش"، و"قال لي نسمة"، والعديد من الكتب، اسمح لنا أن نقولَ "على الطريق"، وفي هذا الوداع الصعب: نحبك، وأنك باق كما "السفير"، في البال وفي القلوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق