♦ كامل فرحان صالح *
هو سالم معروف المعوش الذي يمدّ لك قلبَه قبل يدِه، ولم تزده المناصبُ والألقابُ وحفلاتُ التكريم والجوائزُ الكثيرة إلا طيبةً ومحبةً.
عارك الحياةَ منذ الصغر، وكان يتخطّى الصعوباتِ والعوائقَ ببسمةٍ ورضا. لم يكن عملُه في الشأن العام مغايرًا لعملِه في الشأن التربوي والتعليم العالي، فهو هو، المحبُّ والمبادرُ والخلوقُ والإنسانُ الذي لم تفارقه صفةُ الأبِ والحاضنِ والمربي، فكان المقصدَ لزملائِه أينما حلّ، والمقصدَ لطلابِه حتى بعد تقاعده. لم يبخل بنصيحةٍ أو استشارةٍ، فكان كما يقول المثل: كرم على درب.
لا أذكره إلا بصفةِ الأخ الأكبر، فهو من أوئل من ساعدني في التعليم في الجامعة اللبنانية، كما ساعد عشرات الأساتذة غيري، حيث تنازل عن موادٍ له ليعطيني إيّاه، وقد ساعدني بالدخول إلى خفايا عالم التعليم العالي عبر النصح والإرشاد، واقتراحِ الدراسات والكتب والمحاضرات والامتحانات.
ماذا أقول عن صاحبِ عشرات الأبحاث والكتب في النقد الأدبي واللغة والسير، وفي أدب السجون، فضلا عن الروايات، وقد زادت أعماله المنشورة على 40 كتابًا، وهناك 10 كتب بانتظار النشر؟
ماذا أقول عن الباحثِ والمؤرخ الأدبي والناقد والأكاديمي والأديب والروائي، ورئيس قسم اللغة العربية في الجامعة اللبنانية، ومقرر لجنة قبول مشاريع الماجستير، وعضو هيئة مندوبي الأساتذة، فضلًا عن مناقشته وإشرافه على عشرات الطلاب في مرحلتي إعداد شهادة الماستر وشهادة الدكتوراه؟
ماذا أقول عن الرجلِ العصامي الذي بنى نفسَه بنفسِه، والحائزِ عدة شهادات أكاديمية؟
في الأدبِ والنقدِ واللغةِ هو مرجعٌ، إذ تشكلُ مؤلفاتُه مَعينًا لا ينضب لعشرات الأساتذةِ وآلافِ الطلابِ والباحثين، وأذكر منها: إيليا أبو ماضي بين الشرق والغرب، وصورةَ الغرب في الرواية العربية، وشعرَ السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر، وأحمد الصافي النجفي، وبدر شاكر السياب، والأدب وحوار الحضارات، والعولمة والتربية وسباقات الاتصال والتشكل والتنمية، والأدب العربي الحديث، ودور اللغة العربية في بناء المجتمع وتطوره، والقيم والاتصال... وغيرها وغيرها.
أما في الإبداع فهو علمٌ، إذ أصبحت رواياتُه محطَّ اهتمامِ عشرات الباحثين في الروايةِ العربية عمومًا واللبنانية خصوصًا، وقد خضعت غير رواية له للدرسِ الأكاديمي المنهجي، إن كان عبر رسالةِ ماجستير أو دكتوراه أو أبحاثٍ أصيلة.
فإن كان المعوش يسلكُ في أعمالِه البحثيّة مسلكَ المنهجِ والمنهجية العلمية الرصينة، فإنه في أعمالِه الإبداعية يسلكُ مسلكَ القادرِ على رسمِ التفاصيل المسكوت عنها في غير موضعٍ من مواضع الحياة اليومية، والاجتماعية، والعملية، والسياسية، والتاريخية، فلا يكلُّ أو يتعبُ من مواصلةِ الحفر في صخرِ هذا الواقع، لعلّه يصل إلى النبع، حيث تكمن إنسانيةُ الإنسانِ وشفافيتُه، وعلاقاتُه السوّية مع أخيه الإنسان، ومع السماء.
في أعماله السرديّة، ترتسمُ أمام المتلقي مشهدية الرغبة في الكشفِ، والبوحِ، وكسرِ الصمت المطبِق على مجتمعنا، على الرغم من كثرةِ الضجيجِ المنتشرِ في كلّ مكان. فلا يختارُ المعوش عناوينَ رواياته بمعزلٍ عن الأبعادِ العميقةِ لمفهومِ الرمز، فيبني عناوينَه على تركيبةٍ جاذبةٍ للمتلقي، تثيرُ لديه الشغفَ بأن يعرفَ ماذا سيحدث "عندما تمطر السماء حنينًا"؟ وما هو "الكلام غير المباح"؟ وأين سيصل في "صواب"؟ وماذا يوجد في "الخفايا"؟
لذا يسلك الروائي المعوش عبر عناوينِه هذه، مسلكين:
- مسلكُ النجاةِ من الموت، بحيث إن كلّ معرفةٍ ينتجُها المرءُ تزيد مساحةَ الحياةِ وتقلصُ مساحةَ الموت.
- ومسلكُ الكاشفِ والعارفِ والشاهدِ على كثيرٍ من الأحداثِ التي لا يدركُها كثيرون، وإن عَلمَ البعضُ فيها، فإن علمَهم يبقى مشوبًا بغموضٍ قد يغيّر الكشفُ عنه بناءَ الحكايةِ كلِها.
ما تبوح به أعمالُ المعوش، ولاسيما السرديّة منها، هو المتراكم في الذاكرةِ والواقعِ والتاريخ، عبر شخصياتٍ متفاوتةٍ في المعرفةِ والإدراكِ وتقييمِ الأمور، إلا أنها قادرةٌ على صياغةِ جانبٍ من جوانبِ الحدث المركزي، فضلًا عن الأحداثِ الجانبية.
لا يضطرُ المعوش في أعمالِه إلى نزعِ جلده ليرتديَ جلدًا آخر، وقد بدت ملامحُه واضحةً في الشخصياتِ المحوريةِ في معظمِ رواياتِه، إذ يحاكي في مواقعَ عديدةٍ في رواياتِه، أمكنةً حقيقيةً، يمكنُ للمرءِ أن يستدلَّ عليها من دون عناء.
فهل قصد ذلك قصدًا؟ قبل الإجابةِ عن هذا السؤال، ثمة أسئلة أخرى، لا بدّ منها: لماذا يريدُ الكاتبُ أن يكشفَ اللثام؟ كذلك أين هي الحدودُ الفاصلةُ بين عالمي السيرة والسرد؟...
لا شكّ في أن صياغةَ إجاباتٍ ممكنةٍ، تبقى قاصرةً، كما أن البحثَ التحليليّ والنقديّ ليس هو المكان المناسب لمنح إجاباتٍ شافيةٍ ووافيةٍ، بل إن مهمتَه الأساسية قد تكمنُ في قدرتِه على إثارةِ الأسئلة. لكن يمكن القول: إن سالم المعوش لم يعد قادرًا على الصمت، وبالتالي، يقصدُ أن تتقاطعَ شخصيتُه مع شخصياتِ رواياتِه، لتقولَ ما كان غير ممكنٍ قولُه من قبل، وقد شاءت هذه الأعمال، أن تبثَّ الرسائلَ الأساسية، والمركزية إلى هذا الواقعِ الغارقِ في الدمِ والعنفِ والخوفِ وإلغاءِ الآخر، لتقولَ بشفافيةٍ مطلقة: إن المدماكَ الأول للنجاةِ من هذا المستنقع، يكمن في مدِّ جسورِ الحوارِ وتعزيزِ قيمِ الحبِّ والأخلاق، ومن دون ذلك لا خلاص لنا.
البرفيسور سالم معروف المعوش إن تكريمَك اليوم من قبل لجنةِ جائزة جان سالمه، هو تكريمٌ للإنسانِ الذي يسعى في هذه الأرض إلى نثرِ المعرفةِ والعلمِ والأدبِ واللغةِ والإبداع ِبحبٍّ وتواضع وشغف.
إن تكريمَك اليوم هو تكريمٌ لنا جميعًا في هذا اللبنان الذي ارتقى إلى المجدِ عندما رسمَ الحرفَ ونشرَ الفنونَ وخطَّ كلمتَه في لوحٍ من نور، وهبطَ إلى دركِ جهنم عندما رفعَ في دروبِ التلاقي والحوار، سواترَ البغضِ والكرهِ والحقدِ، ولغةِ الإلغاء.
سالم المعوش نكبر بك، ومبارك هذا التكريم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق