Al-Hadatha Journal: 31 years of communication - Welcome to the site (under construction). Here we publish Abstracts of research

بحث - Search

مجلة الحداثة: 31 عامًا من التواصل - أهلا بكم في الموقع الترويجي (قيد الانشاء) ننشر هنا ملخصات عن الأبحاث

المشاهدات

مراجعات: بعد قرنٍ من مؤتمر القاهرة 1921: ماذا استجدَ؟ (1)

محمد أرسلان علي - مجلة الحداثة

محمد أرسلان علي *


ربما ما نشهده في الوقت الراهن من حالة التشتت والفوضى التي تضرب المنطقة بشكل عام من مشرقها لمغربها ومن شمالها لجنوبها، يُحتّم علينا التفكير ولو قليلًا، للبحث في أسباب هذا الوضع الذي وصلنا له ونحن في بدايات الألفية الثالثة. ورغم التطور التقني والمعلوماتية التي نعيشها والتي نكرر فيها كثيرًا أن العالم بات قرية صغيرة، إلا إن ما نعيشه يوصلنا لنتيجة مفادها: أننا حتى ضمن هذه القرية الصغيرة، لا نعي ولا نُدرك ماذا يحصل؟ ولماذا؟ فهل لهذا علاقة بمنظومتنا الفكرية والمعرفية التي نقتنع فيها بعض الأحيان، بأننا نمتلك ولو اليسير القليل منها، أم أنَّ مقدار المعلومات التي تم حقنها في أدمغتنا ما هي إلا معلومات مغلوطة وليس لها أية علاقة بالحاضر الذي نعيشه ولا لها أية روابط بالماضي وبالتالي بالتاريخ؟

صورة من مؤتمر القاهـرة العام (1921) بحث فيه مصير العرب بعد سقوط الامبراطورية العثمانية واحتلال بريطانيا للمنطقة في الحرب العالمية الاولى. الخامس على اليمين جلوسًا وزير المستعمرات البريطاني وينستن تشرشل رئيس المؤتمر، وعلى يساره المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس، وخلفه مباشرةً وزير الدفاع جعفر العسكري، وعلى يسار جعفر، لورانس العرب، وعلى يمينه واتسون ثم وزير المالية ساسون حسقيل، ثم الخاتون غيرترود السكرتيرة الشرقية لدائرة المندوب السامي البريطاني مس بيل. الصورة بتاريخ 14 حزيران 1921 (ويكيبيديا)

التاريخ الذي حفظناه على أنه مصدر عزتنا وقوتنا وحضارتنا التي انتشرت في أصقاع العالم، وأننا نحن الذين علَّمْنا الآخَرَ ما توصل إليه من مكتشفات يتغنّى بها الآن ومن علوم ما هي إلا سرقة من تاريخنا الذي هجرناه. وحينما عجزنا عن ترجمة ذاك التاريخ وما يحمله من علوم ومعرفة وعن إعطائه دفعة ليرفع المجتمعات والبشر إلى التطور، بتنا نجترّ ذاك التاريخ، ونلوك به عَلَّنا نُطَمئن أنفسنا، ونخرجها من دائرة التكرار والدوران حول الذات حتى أصابتنا هلوسة الغرور، وجنون العودة لذلك الماضي عَلَّه يشفع لحالنا ويُخرجنا مما نحن فيه. لكن التاريخ في الوقت نفسه، لا يُعطي شيئًا لأحد إن هو بنفسه لم ينهض من حالة السكون والتكرار التي يعيشها، وإن لم ينفض عن نفسه البؤس والقنوط، والأهم مصطلح الجبرية والقدرية التي باتت جزءًا من حياتنا.
قرنٌ كامل تركناه وراءنا مليء بالمآسي والتراجيديات والأفراح والأتراح، وكل شيء فيه متشابك مُعقّد، وكأنه لوحة تختزل حياتنا التي لا معنى لها سوى أننا نكررها ولا نعرف لماذا. المهم أن تستمر الحياة بما تحمله لنا من مفاجآت وصدمات وكوراث وحروب، حتى اعتدنا عليها وباتت جزءًا من شخصيتنا وهويتنا المتقاتلة على أتفه وأحطّ الأشياء، بعدما غَلَّفوها بألف هالة مقدسة وقدموها لنا على أنه لا حياة من دون هذه المقدسات الإلهية أو لا كرامة للإنسان من دونها. فمن مصطلح الاستقلال والجلاء والوطن والعَلَم والنشيد الوطني والأمة الواحدة والحرية –الاشتراكية، كذلك القائد المُلهم والزعيم الضرورة إلى الحدود المقدسة والتي يجب ألاّ نفرط بحبّة رمل وتراب فيها ولو على حساب فناء المجتمع والتضحية بالبشر. وطبعًا، العشرات من المقدسات التي ما زالت محفورة في بواطن خلجات قلوبنا ولم نعد نستطيع حتى مجرد التفكير من دون أن تدغدغنا تلك الكلمات. كيف يمكننا أن نصدّق التاريخ وما علمونا إياه، وها هو الحاضر يتم تزويره أمام أعيننا من قِبَل الزعماء ومؤرخي السلطة والنظم الحاكمة؟
لكن حينما ننظر إلى ما حَلَّ بنا وبالمنطقة خلال العقد الأخير وخاصة تحت ما سُمّي بثورات «الربيع العربي» التي بدأت من تونس فمصر، ومنها انتقلت إلى ليبيا ثم إلى سوريا واليمن، نرى أننا ما زلنا نعيش حالة من الانقسام الداخلي النفسي والشخصي وحتى الهوياتي قبل أن نلهث وراء التشتت والركض نحو الأقطاب الإقليمية والدولية ونستنجد بها كي تأتي وتمنحنا بعض الحرية والكرامة. نستنجد بمَن يحمل المُطيّة بيديه ونقول له: تعال وانحر أخي في الوطن. هنا في هذه اللحظة حينما نفكر بقتل الأخ الذي كنّا نعيش معًا في المنطقة نفسها، لا تبقى أية قيمة للوطن، ولا لكل المقدسات التي كنّا نلوكها منذ عقود من الزمن. فمنذ عقد من الزمن انهارت منظومة المقدسات كاملة ولم يعد ثمة شيء أو رمز يُلهمنا ويمنحنا الأمل كي نتكئ عليه، ونصافح هذا الأخ الذي راح يبيعنا في أقرب بازار نخاسة من أجل ثروة ما أو جشع سلطة يُمَنّي بها نفسه حتى حين.
هم أنفسهم الذين كنا نلعنهم خفية وجهارًا على أنهم السبب في تشتتنا وتقزمنا وتفرقنا وسرقة خيرات بلادنا، نترجّاهم اليوم ونركض نحوهم عَلَّهم يعطفون علينا بأموال أو سلاح كي نتمم ما عجزوا هم عن فعله. هم أرادوا تفريقنا فقط وإضعافنا كي نكون لقمة سائغة حينما يجوعون، لكننا أصبحنا أكثر توحشًا منهم ورحنا نقتل بعضنا البعض تحت شعارات دينية وقوموية لا علاقة لنا بها. هم أي الدول الملعونة ومنذ بدايات القرن العشرين وحتى نهايته، لم نترك فيها خطبة جمعة إلا وكُنَّا نلعنهم ونتوسل الله أن يفرقهم ويشتت أمرهم، وأن يُتَيّم أولادهم، ويُرَمّل نساءهم ويرميهم في البحر.
قرنٌ كامل ونحن نجترّ أدعيةً غَيَّبَتْنا عن وعينا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى شُرِّبْنَا الذُل شعارات قومية بأن الوطن للجميع، وأن لا فرق بين عَلَوي وشيعي وعربي وكردي أمام القانون، وأن الكل سواسية في الواجبات والحقوق، وأن كرامة الإنسان مصانة، كذلك حريته، وأننا كلنا أمة واحدة من الشام لبغداد ومن نجدٍ إلى يَمَن، إلى مِصرَ فتطوانِ. لا شيء يقف أمام وصولنا إلى الفردوس الذي يبعد منّا قاب قوسين أو أدنى إلا عقبة واحدة وهي القضاء على العدو الأزلي والأبدي الذي احتل جزءًا من أرضنا الحبيبة، وعلى الكل أن يتأهب كي نرميه في البحر.
قرنٌ ونحن نصفّق ونُحيي ونرفع الشعارات ونقول بعد كل أدعية الأئمة في خُطَبِ الجمعة: آمين.
بعد كل هذا، وكلما كَبرنا صَغُرَ حلمنا أكثر ورحنا نتعلق بطفولتنا أكثر ونتمنى أن نعيشها من جديد أو أن نهرم أسرع كي يأخذ الربّ أمانته، وبات المعنى هو بحدِّ ذاته اللامعنى في حياتنا، وأدركنا بعد رحيل العمر أننا كنا نلاحق سرابًا وخيط دخان يخرج من بين شفاه وأنوف الزعماء والرؤساء وأصحاب السعادة وهم يمسكون بسجائرهم في مواخير الخنوع والذل والاستسلام الغربية منها والشرقية (الإمبريالية والشيوعية)، ولا ننسى تيارات عدم الانحياز التي كانت تتراقص على حبال المصالح النفعية لكل طرف على حِدَة.
كل الدول الملعونة والمعنية بتفككنا وتَرَهلنا وجهلنا والتي تَمَنّينا أن تُمحى من الوجود ما أصابها شيء؛ فلا بريطانيا ولا فرنسا ولا أمريكا ولا حتى إيطاليا الذين هم سبب تعاستنا وتراجعنا حَلَّ بهم أمر، بل على العكس ازدادوا تطورًا واحترامًا لشعوبهم، وبات مصير معظم شعوب المنطقة بأيديهم وخاصة من الناحية التقنيّة والنفسيّة والطبيّة وحتى المأكل والملبس، والأهم السلاح والثقافة التي غزوا بها عقولنا ومجتمعاتنا.
قرنٌ ونحن نتمنى لهم الفناء والموت والذل وهم يعملون بكل إمكاناتهم لتحسين وضع مجتمعاتهم وإيصالها للأفضل نوعًا ما مقارنة بما نعيشه. وها نحن الآن بعد أن كُنَّا نلعنهم نركض لعندهم ونترجاهم أن يُصغوا لنا ويمنحونا بعضًا من المال والسلاح والضوء الأخضر لتفتيت المنطقة أكثر مما هم فعلوه. ويبدأ تكرار التاريخ من جديد والعنف والعنف المضاد أيضًا، ليدور الجميع في دائرة مفرغة من اللاحرب واللاسلم.
قال خالد الذكر في كرّاسه العبقري «الثامن عشر من برومير، لويس بونابرت»: «التاريخ لا يتكرر، وإذا تكرر فإنه يكون في المرة الأولى على شكل مأساة وفي المرة الثانية على شكل مهزلة». إذًا، هي المهزلة بعد أن خرجت من حالة المأساة التي كانت سائدة لمرحلة طويلة. وللخروج من هذه المهزلة يلزمها عقول تعي التاريخ والجغرافيا، وتُدرك أنه لا يمكن إيقاف عجلة تطور المجتمعات والشعوب مهما كان تفكيرنا يعتمد على الأحادية التي هي بالأساس غريبة عن حقيقة المنطقة من النواحي كافة.
أكبر داء أصاب المنطقة بعد حرب التقسيم الأولى هي انتشار أفكار فوضوية أدت لنشوء وتشكل مجتمعات شبيهة بتلك الأفكار التي لم تخرج من حالة الفوضى بالرغم من مرور قرنٍ عليها. فما زالت الفوضى تضرب المجتمعات والنظم، وما زال الطرفان يقدمان الحلول العقيمة لأنهما يعتمدون على مقاربات ليس لها علاقة بحقيقة التاريخ والثقافة والجغرافيا، بل تعتمد على الفكر الاستشراقي الغربي الذي اعتبر التفوق العرقي والديني أساسَ تشكل الدول.
بهذه المقاربات التي تم نشرها في مجتمعاتنا بدأت حالة التشتت الداخلي رويدًا رويدًا في أوساط النخب المرتبطة أساسًا بالخارج كذلك بعامّة الشعب التي كانت هي أيضًا متعطشة لأفكار جديدة تُخرجها من التبعية للخلافة العثمانية الجاثمة على المجتمعات لأكثر من أربعة قرون.
تركيا وإيران وما تفعلانه في المنطقة منذ قرونٍ من الزمن ليس خافيًا على أحد؛ أنهما تمتلكان مشروعين سلطويين مهيمنين على المنطقة بأكملها، وإن بدا لنا أن هذين المشروعين متناقضان في الشكل والمُسمى على أنهما شيعي- سنّي، إلا أن المضمون لا يختلف البتة؛ فكلتاهما تسعى إلى فرض هيمنتهما على المنطقة إن كان مباشرةً أو عبر الأدوات التي تستثمرها بمختلف مسمياتها. لكن وفوق كل ذلك، لم ندرك حتى الآن، أن مَن يعتمد على الآخر هو خاسر منذ خطوته الأولى، ولن يصل لهدفه مهما ضحى أو حاول لأنه لن يتعدى تلك السمكة التي تجاهد في الشبكة فتُطبِق على ذاتها أكثر وهي لا تعلم.
لا يمكن إنكار دور روسيا القيصرية وفرنسا وبريطانيا العظمى ومن بعدها أمريكا التي حَلَّت مكانها في ما آلت إليه المنطقة من تقسيم وتشتت وفق أجنداتهم ومصالحهم منذ بداية القرن العشرين. إذ حاولت هذه الدول أن ترسم مستقبلها على حساب شعوب المنطقة، وراحت تقسم الجغرافيا وفق سياسة تأجيل الحلول وتنويم الفتنة وتأليب الشعوب على بعضها بعضًا وفق مقاس كل قبيلة في البداية وكل شعب بعد ذلك، وأخيرًا على مقاس الأمة كاملة.
عملت هذه الدول مع بعضها أحيانًا وفرادى أحيانًا أخرى، وبخبث أكثر الأحيان، من أجل القضاء على ما كانت تسمّى الخلافة العثمانية التي كانت داء بكل معنى الكلمة، حَطَّ على المنطقة والعالم. عملت على القضاء على هذه الخلافة وتوزيع ميراثها في ما بينها وفق انتداب مباشر أو غير مباشر. وما رافق ذلك من حروب ومعارك طاحنة والمنفذ على الأرض كانت شعوب المنطقة التي تتطلع إلى الحرية والكرامة والتخلص من الظلم والاضطهاد العثماني الذي جثم على صدورهم أكثر من أربعة قرون.
كانت القوى العُظمى آنذاك بريطانيا وفرنسا وروسيا تقدم الأسلحة والمال والوعود لكل الأطراف لتزيد الصراع صراعًا فيما بين العثمانيين وشعوب المنطقة من جهة، أو ما بين شعوب المنطقة بكل أثنياتهم وطوائفهم وقومياتهم من جهة أخرى. تعطي الوعود لهذا الطرف على حساب الطرف الآخر، وفي الوقت نفسه تتعهد لذاك الطرف على حساب الطرف الأول، وبذلك راح الكل يحارب العثمانيين، وأصبح الكل يحارب الكل. إنها سياسة الإنكليز التي لا تُخطئ والذين لهم باعٌ كبير في إدارة الشعوب بعد معرفة خفاياهم وطبيعتهم وثقافتهم التي يغلب عليها الطابع القبلي والعشائري على حساب الأرض.
كثيرة هي الاجتماعات والمؤتمرات والوعود التي حصلت في تلك الفترة من "حرب التقسيم الأولى" التي يمكننا أن نطلق عليها وعلى ما حصل فيها هذا الاسم، بدلًا من أن نُطلق عليها اسم «الثورة العربية الكبرى» زورًا وبُهتانًا، وكي لا نخدع أنفسنا على أقل تقدير ونضع النقاط فوق الحروف كما يُقال.
ما الذي حصل؟ وكيف انخدع مَن حملوا لواء الخلاص من العثمانيين ليطردوا هذا المحتل، فاستعاضوا بدلًا منه بمحتلٍ آخر؟ ما هي المؤتمرات التي حصلت؟ وماذا دار فيها من جدال؟ وما هي القرارات التي تم اتخاذها والتي كان بموجبها تقسيم المنطقة إلى شبه دول ما زالت مستمرة حتى راهننا هشّة لا حول لها ولا قوة؟
كل ذلك نبحث فيه وخاصة في بعض المؤتمرات التي كانت مفصلية في إعطاء الشكل النهائي للمنطقة، كذلك دور الأشخاص الذين كانوا وراء الستار وتركوا بصماتهم واضحة مستمرة على ما نعيشه الآن. وخاصة مؤتمر القاهرة الذي انعقد في العام 1921: ماذا كان تأثيره؟ وما الذي يمكننا قراءته من هذا المؤتمر وتأثيره على تشكيل أو وضع الحدود السياسية للعراق؟ وغيره من المؤتمرات والاجتماعات، كذلك المراسلات والوثائق المهمة التي ربما نستفيد منها ونتعظ ولو بعد قرن من الزمن.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا هذه العودة للوراء قرنًا كاملًا؟ وماذا تُخفي تلك الفترة بين جنباتها حتى نعود لدراستها؟ سبب طرحنا لهذا السؤال هو أن ما نعيشه الآن، مرتبط مباشرةً بما كان في ذلك الوقت، وكأن التاريخ يعيد نفسه، ومن المنطقة نفسها والأدوات نفسها والسياسة نفسها، مع التحديث طبعًا في الوسائل والطرق والأساليب كذلك الأهداف.

- الحرب العالمية الأولى وتداعياتها


بمقدورنا القول إن المنطقة عمومًا، كانت تعيش الانقسام والتشتت في ظِل تَرَهّل الخلافة العثمانية من الداخل، كذلك ضعفها الإداري والاقتصادي والحروب المستمرة في مناطق سيطرتها في الأطراف. كل هذه العوامل كانت تؤثر على فرض الخليفة إدارته أو سلطته على تلك البقعة الجغرافية الكبيرة التي كانت تحت حُكمه. وهذا ما جعل القوى الخارجية تنظر إلى الخليفة على أنه شخصية يمكن ابتزازها من أجل الحصول على بعض الامتيازات منه، والدخول في المناطق التي يسيطر عليها كما فعلت بريطانيا وعقدت مع الخليفة معاهدات كثيرة، ومنحها الخليفة امتيازات كانت لا تصدق بريطانيا بأنها ستحصل عليها بهذه السهولة. خاصة أن بريطانيا كانت تنظر إلى منطقة الحجاز بأنها البوابة التي تُمَكّن من الدخول إلى منطقة مشرق المتوسط من أجل توسيع مناطق تجارتها من الهند حتى أوروبا عن طريق الخليج العربي (الفارسي وقبل ذلك اللور).
وبهذا الشكل استطاعت بريطانيا الحصول على حرية الملاحة في نهر الفرات لنقل البضائع من خلاله وإيصالها إلى المشرق كذلك إلى أوروبا. وأيضًا كانت ألمانيا، الحليف الرئيس للخليفة العثماني، لديها امتيازات لا تقل أهمية عَمَّا حصلت عليه بريطانيا. مع الفارق أن التحالف الألماني العثماني يرجع لعقود خلت، وكانت يَدُ ألمانيا مطلقة في جغرافية الخلافة بشكل عام.
من ناحية أخرى فمن القلاقل التي كانت تواجه الخليفة أيضًا ما كان يحدث في مصر والشمال الإفريقي من محاولات فكّ الارتباط مع السلطان العثماني. خاصة في فترة محمد علي باشا (1769 – 1849) وابنه إبراهيم باشا (1789 - 1848) اللذين استطاعا نيل نوع من الإدارة الذاتية لمصر وجعلها غير مرتبطة مباشرة بأستانا. وبجانب ذلك كانت سيطرة الخليفة على بلاد المغرب ضعيفة نسبيًا مقارنةً بالمناطق الأخرى.
أما داخليًا وبسبب حالة الفاقة والعوز والفقر المنتشر بين المدن والأقاليم كذلك الجهل، فكان يمكن اعتباره الدافع لمحاولات بعض العرب في التفكير بالتخلص من التركة والخلافة العثمانية المستمرة منذ قرونٍ عدة والتي لم تقدم لهم سوى المزيد من الخنوع وفرض الجباية والضرائب على الشعب وتجنيدهم في حروب عبثية في الكثير من المناطق من دون أن يرجع منهم أحد. خاصة وأنه كان لاحتلال الفرنسيين والبريطانيين لمصر التأثير المباشر على المنطقة بشكل عام. برغم أن هذين المحتلين جاءا من أجل مصالحهما وأطماعهما، إلا أن أوروبا بشكل عام وفرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص، كانتا تعيشان التطور التقني والفني بشكل كبير، وأنهما نقلتا هذه التقنية إلى مصر وخاصة الطباعة التي كانت لها التأثير الكبير في التحول الفكري الذي طرأ على النخبة والشعب. طبعًا، بالإضافة لمعامل الغزل والآلات الزراعية والصناعية، كل ذلك أثر على المناطق والمدن المجاورة وخاصة في بلاد الشام والجزيرة. مما كان لهم الحافز للتمرد على الخليفة والأوضاع التي كانوا يعيشونها.
ففي كلية التربية - قسم التاريخ، عقدت جامعة بابل في العراق محاضرات عدة حول موضوع تحت عنوان: «الأوضاع السياسية للوطن العربي قبيل الحرب العالمية الأولى» للأستاذ محمد رسن دمان السلطاني، وذلك في 27/1/2013. في المحاضرة الأولى عن المؤتمر العربي الأول، ذُكِرَ أنَّ "النهضة العربية بدأت بالاحتلال الفرنسي لمصر 1798. فقد حملت لمصر مفاهيم الغرب التي نقلتها الحملة الفرنسية. كما أدت هذه النهضة إلى إحياء الآثار الأدبية العربية القديمة على يد المدارس والمطابع التي أدخلت إلى سوريا ومصر. وجاء إخفاق تجربة محمد علي باشا في مصر والذي كان يهدف إلى توحيد المشرق العربي في دولة موحدة قوية، ليمثل صدمة سياسية لقدرة العرب خلال سير يقظتهم إبان النصف الأول من القرن التاسع عشر".
في هذه الفترة كانت الشعوب تناضل على صعد عدة وكان يتمثل هذا النضال ضد محتلين اثنين: في مصر وبلاد المغرب ضد الاستعمار الأوروبي، وفي المشرق ضد العثمانيين. ومنها تشكلت حركتان مقاومتان لهذين الاحتلالين: الأولى قادها جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897) وتلميذه محمد عبده (1849 – 1905) من بعده في توحيد الشعوب تحت الراية الإسلامية لصدّ العدوان الأوروبي. لكن في المشرق نشأت حركة علمانية قومية ضد العثمانيين تأثرت بالمفاهيم الأوروبية واصطبغت بالصبغة الأوروبية، حيث تأسست بعض الجمعيات لهدف نشر الثقافة واللغة العربية، منها (المنتدى الأدبي) الذي تأسس في الأستانة بين 1909- 1915، وكانت مدرسة للفكر القومي ومنتدى لها. وبقيت الجمعية حتى العام 1915 حين أعدم جمال باشا السفاح (1873 - 1922) رئيسه عبد الكريم خليل (1884– 1916) إثر محاكمات ديوان الحرب في عالية.
ومن الجمعيات العلنية «حزب اللامركزية الإدارية» الذي شكلته الجالية السورية بمصر 1912، وكان يطالب بتولي الولاية إدارة شؤونها الداخلية، وكان لهذا الحزب صِلات بالجمعيات المختلفة في العراق وسوريا. وفي أواخر العام 1912 تأسست «جمعية بيروت الإصلاحية» وكانت تتفق من حيث الأهداف مع حزب اللامركزية. وفي الجمعيات السريّة «الجمعية القحطانية» التي تأسست في الأستانة سنة 1909 وكانت أول جمعية سريّة عربية بعد إعلان الدستور العثماني سنة 1908، وقد دعت إلى إقامة مملكة عربية لها برلمانها وحكومتها المحلية ولغتها الرسمية. وتشكيل إمبراطورية ثنائية (عربية – تركية) وأسسها عزيز علي المصري (1880- 1965) على غرار إمبراطورية النمسا والمجر.
وتأسست في باريس العام 1911 «جمعية العربية الفتاة» من الطلبة العرب الذي كانوا يتلقون علومهم في باريس وكانت سريّة وانتقلت إلى بيروت العام 1913 بعودة مؤسسيها إلى وطنهم، ويتمثل مبدأ الجمعية في بذل كل الجهود لإيصال الأمة العربية إلى مصافِّ الأمم الراقية الحرة المستقلة الكبرى، وانتقلت الجمعية من بيروت إلى دمشق العام 1914.
كل هذه الجمعيات وتشكلها ونشاطاتها كان له تأثير كبير على المثقفين الذين يتطلعون للتخلص من الخلافة العثمانية وجورها وظلمها، كذلك تخليص الشعب من الحالة المزرية التي وصل إليها. وعليه تم عقد المؤتمر العربي الأول في باريس في 18–13 حزيران 1913، واستمر المؤتمر ستة أيام وانتهى إلى مجموعة من القرارات أهمها:
- الإصلاحات التي يجب إجراؤها في الإمبراطورية ضرورية للمجتمع.
- أن يشترك العرب في الحكومة المركزية للإمبراطورية اشتراكًا أكثر فعالية.
- اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية والاعتراف بها لغة ثانية في البرلمان العثماني.
- أن تقتصر الخدمة العسكرية على حاجات الولايات العربية باستثناء الحالات غير العادية.
- إقامة نظام إداري لامركزي في كل بلد.
هذا المؤتمر أثار حفيظة الوالي العثماني كثيرًا على فرنسا والتي حاولت بدورها التخفيف منه أمام الخليفة، إلا أن الخليفة عمل على التشهير بمن حضر المؤتمر وفَصَل الكثير من الضباط العرب وعَيَّن مكانهم ضباطًا من الجنسيات الأخرى المطيعة له. ومن الطرف الآخر أرسل الشريف حسين (1853-1931) ابنه فيصل (1883- 1933) إلى استانبول ليعرض في الظاهر شكوى والده من الوالي التركي. أما السبب الحقيقي فهو الاتصال بالزعماء العرب في دمشق ومعرفة موقعهم من عروض الانجليز. وصل فيصل إلى دمشق في 26 آذار 1915، وأخبر الزعماءَ العرب بالاتصالات التي جرت بين أبيه وبين كتشنر (Kitchener) المعتمد البريطاني السابق في مصر في 31/ 1/ 1914 والذي أصبح وزيرًا للحربية البريطانية. وقد تعهد كتشنر باسم حكومته، بحماية الجزيرة من أي اعتداء خارجي. كما أخبر فيصل الزعماءَ العربَ باتصال آخر بين الحسين وونكيت الحاكم العام في السودان في أوائل 1915.
كان الرجلان القائمان بالجهود الرئيسة في المباحثات مع الزعماء العرب قبل وصول مكماهون (McMahon)، هما السكرتير الشرقي في دار الاعتماد البريطاني رونالد ستورز (Ronald Storrs) ومدير المخابرات العسكرية المقدم غلبرت كلايتون (Gilbert Clayton)، وكان في طليعة العرب الذين تباحثوا معهم عزيز علي المصري ورشيد رضا (1865 – 1935). دارت المباحثات حول موضوع الرسائل التي بعث بها كتشنر إلى الشريف حسين وكانت ترمي إلى إقناع العرب بأن مستقبلهم رهن تحالفهم مع إنجلترا. اقتنعت بريطانيا بأنه لا جدوى من محاولاتها لكسب العرب من غير تقديم عهود قاطعة. وفي كانون الثاني 1915 تسلم سير مكماهون عمله معتمدًا ساميًا في مصر والسودان. وقد فوَّضَ مجلس وزراء بريطانيا هنري مكماهون بإصدار بيان عام يكفل مستقبل البلاد العربية ومصير الخلافة. وقد صدر البيان في أوائل حزيران 1915 وفيه أن بريطانيا تتعهد بأن ينصّ أحد بنود معاهدة الصلح على الاعتراف بشبه جزيرة العرب دولة مستقلة.
أرسل الشريف حسين أولى مذكراته إلى السير هنري مكماهون في 14 تموز 1915 وفيها الشروط التي يشترطها العرب لاشتراكهم في الحرب، وهي الشروط التي تضمَّنَها (ميثاق دمشق) الذي نصّ على:
1- اعتراف بريطانيا العظمى باستقلال البلاد العربية الواقعة ضمن الحدود التالية:
شمالًا: خط مرسين – أضنة الموازي لخط العرض 37 شمالًا.
شرقًا: على امتداد حدود إيران إلى الخليج جنوبًا.
جنوبًا: المحيط الهندي (باستثناء عدن التي يبقى وضعها الحالي كما هو).
غربًا: على امتداد البحر الأحمر ثم البحر الأبيض المتوسط إلى مرسين.
2- إلغاء جميع الامتيازات الاستثنائية التي منحت للأجانب بمقتضى الامتيازات الأجنبية.
3- عقد معاهدة دفاعية بين بريطانيا العظمى وهذه الدولة العربية المستقلة.
4- تقديم بريطانيا العظمى وتفضيلها على غيرها من الدول في المشروعات الاقتصادية.
وفي 24 تشرين الأول 1915 أرسل مكماهون مذكرة قال فيها إن: "الحكومة البريطانية قد فوّضته بأن يقدم للعرب باسمها تعهدات معينة وهي أن بريطانيا تقطع على نفسها عهدًا بأن تعترف باستقلال العرب في المنطقة التي حددها «حسب ميثاق دمشق» مع استثناء أجزاء معينة في آسيا الصغرى والشام، بشرط عدم التعرض للمعاهدات المعقودة بين بريطانيا وبين بعض رؤساء العرب".

- أزمات ما قبل الحرب العالمية الأولى


كانت المنطقة تعيش حالة من الغليان الشعبي من النواحي كافة، نظرًا للظروف القاسية بسبب انتشار الفوضى الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. كذلك كانت الدول الأوروبية تشهد الأزمات الاقتصادية في ما بينها، وأيضًا محاولة كل دولة احتلال الأخرى لفرض الهيمنة بعد التطورات السريعة في مجال الصناعة والبحث عن سوق للتصريف وأيضًا المواد الخام. وفي المنتدى العربي للدفاع والتسليح نشرت دراسة تحت عنوان «ملخص أزمات ما قبل الحرب العالمية الأولى»، وتم إجمالها كما يلي:
* أزمة مراكش الأولى 1905: بعد عقد الاتفاق الودّي الفرنسي- البريطاني في ما يخصّ المغرب، أرادت ألمانيا في المغرب اختبار هذا الاتفاق ومدى متانته، فزار إمبراطور ألمانيا ويلهلم الثاني (Wilhelm II) طنجة، وهناك صرّح أن ألمانيا ترفض احتلال فرنسا للمغرب، وتؤيد استقلال المغرب ووحدة أراضيها، كما أنها تطالب بتطبيق مبدأ «سياسة الباب المفتوح» الذي كان معناه أنه لا يجوز للدولة المستعمِرة احتكار التجارة لنفسها في الدولة التي احتلتها، بل بقاء ذلك البلد مفتوحًا تجاريًا من دون قيود مع الدول المختلفة.
هذه الزيارة وهذا التصريح كان موجهًا بالأساس ضد فرنسا وتحديًا لها على اعتبار أنها كانت تنظر إلى المغرب كمنطقة استعمار من نصيبها هي وحدها. وزير الخارجية الفرنسي دلاديه كاسيه طلب من حكومته أن تسير بخطّ متشدد ضد الألمان، وطلب رفض عقد مؤتمر دولي لحلّ الأزمة. لكن حكومة فرنسا رفضت طلبه ووافقت على عقد مؤتمر «الخسيراس» (الجزيرة الخضراء) سنة 1906 لحلّ الأزمة وذلك بحضور أهم الدول الكبرى: ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، النمسا وإسبانيا.
قرارات المؤتمر:
1- المحافظة على استقلال المغرب.
2- اتباع سياسة الباب المفتوح من الناحية التجارية.
3- وضع جهاز الشرطة المغربي تحت إشراف فرنسا.
في هذا المؤتمر انتصر موقف ألمانيا حيث حققت ما أرادته من خلال فرض سياسة الباب المفتوح. لكن هذا المؤتمر أوثق العلاقات بين فرنسا وروسيا وبريطانيا كما أظهر مدى انقسام أوروبا إلى معسكرين.
* أزمة مراكش الثانية سنة 1911: بعد سنة 1906 زادت فرنسا من تدخلها في جهاز الشرطة المغربي وفي السياسة الداخلية المغربية، مما أقلق ألمانيا فعادت للتحرش بفرنسا في أراضي المغرب، فأرسلت سفينة حربية تدعى تايغر«tiger» إلى ميناء أغادير المغربي لإظهار تحديها العسكري للفرنسيين. هذا العمل عَكَّرَ جوّ العلاقات في أوروبا وازداد التوتر كثيرًا وكان الحلّ الذي جَنَّبَ أوروبا ويلات الحرب هذه المرة هو اتفاق الدول الكبرى على ما يلي:
- فرنسا تأخذ المغرب.
- إيطاليا تأخذ ليبيا.
- ألمانيا أخذت منطقة غرب الكونجو الفرنسية والكاميرون.
* أزمة البوسنة والهرسك سنة 1908: قام انقلاب في اسطنبول ضد السلطان عبد الحميد الثاني (1842 – 1918). كانت البوسنة والهرسك قد وُضِعتا تحت الإدارة النمساوية سنة 1885. استغل النمساويون انشغال تركيا بالانقلاب لكي يبسطوا سيطرتهم الكاملة على البوسنة والهرسك. هذا الأمر عُدّ بمثابة تَحَدٍّ لصربيا التي كانت تسعى إلى إقامة دولة سلافية كبرى تضم البوسنة والهرسك وصربيا وغيرها. وأبقيت تحديًا لروسيا التي رأت نفسها حامية السلافيين والمسيحيين الأرثوذكس في العالم أجمع وخاصة روسيا كانت متحالفة مع صربيا في البلقان. حشرت روسيا جنودها على الحدود مع النمسا وتحرك الألمان وحليفتهم النمسا وطلبوا من روسيا إعادة جيوشهم إلى مواقعها وإلا ستحصل حرب. اتصلت روسيا بحليفتها فرنسا لمعرفة موقعها في حال حدوث حرب مع الألمان فأجابت فرنسا أنها غير مستعدة حاليًا لخوض حرب شاملة من أجل البوسنة والهرسك. عندئذٍ رأت روسيا أنه لا بُدّ من الاستجابة للتهديد الألماني وأرجعت جيوشها إلى مواقعها متحملة الإهانة التي تعرضت لها بسبب عدم مقدرتها على الوقوف إلى جانب حليفتها صربيا.

- حرب البلقان الأولى سنة 1911:


هذه الحرب كانت بين الدولة العثمانية من جهة وبين حلف ضم اليونان وبلغاريا والجبل الأسود (مونيتيجرو) وصربيا من جهة ثانية. اندلعت الحرب بتحريض من بريطانيا وروسيا لهذه الشعوب ضد الدولة العثمانية، انتقامًا منها بسبب تقاربها من ألمانيا في عهد عبد الحميد والاتحاديين. الهدف الأساسي كان استقلال بلغاريا كليًّا عن الدولة العثمانية وإنهاء وجود الأخيرة في أوروبا. فمعظم معارك الحرب دارت على أرض بلغاريا والبلغاريون هم الذين تحملوا العبء الأكبر من ضحايا هذه الحرب. انتهت الحرب بهزيمة ساحقة للأتراك وتوقيعهم على معاهدة لندن سنة 1913 والتي نصت على:
- استقلال بلغاريا كليًا عن الدولة العثمانية.
- تراجع الدولة العثمانية عن مقدونيا ومنطقة شمال بحر إيجة.
- صربيا واليونان يتقاسمان مقدونيا فيما بينهما.
- تحصل اليونان على شمال بحر إيجة حتى مسافة 20 كم عن إسطنبول.
- إنشاء دولة ألبانيا مستقلة (وهذا لضغط من النمسا في محاولة لإضعاف صربيا ومنع وصولها إلى البحر).

- حرب البلقان الثانية سنة 1913:


بلغاريا لم تكن راضية من نتائج الحرب البلقانية الأولى لأنها أرادت أن يكون لها منفذ مباشر على بحر إيجة يُجنِّبها الحاجة إلى دخول المضائق التركية البوسفور والدردنيل. ولهذا أعلنت بلغاريا الحرب على صربيا واليونان اشتملت رومانيا والدولة العثمانية وأعلنتا الحرب على بلغاريا التي استمرت شهرًا واحدًا فقط. انهار بعده الجيش البلغاري وخسرت بلغاريا الحرب وأجبرت على التوقيع على صلح «بوخارست » عاصمة رومانيا ونتائجه:
- خسرت بلغاريا إقليم دبروجا على نهر الدانوب لصالح رومانيا.
- استعادت الدولة العثمانية بعض أراضيها شمال بحر إيجة وهو الإقليم المعروف اليوم باسم «إقليم تراكيا» أما في ما يتعلق بباقي الأمور فبقيت على ما هي.
حروب البلقان الأولى والثانية: أدت إلى مزيد من التباعد بين صربيا والنمسا لأن إنشاء دولة ألبانيا كان بتشجيع من النمسا بهدف منع إعطاء صربيا منفذًا على البحر، كذلك ازداد التقارب بين الدولة العثمانية وألمانيا وازداد التباعد عن روسيا وبريطانيا. كما أن بلغاريا غضبت من الحلفاء فانضمت إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.

- اغتيال ولي العهد النمساوي في سراييفو سنة 1914


عند ذلك تحركت ألمانيا حليفة النمسا وأعلنت الحرب على روسيا. لكن ألمانيا وفقًا لخطة شليفن أرادت أن تعرف موقف فرنسا حليفة روسيا. فكان الرد الفرنسي باتخاذ الموقف الذي يتناسب مع مصالحها الوطنية. فأعلنت ألمانيا الحرب على فرنسا في 3/8 وأدخلت جيشها في الأراضي البلجيكية (خطة شليفن بنيت على أساس أن ألمانيا ستحارب على جبهتين في آن واحد، روسيا شرقًا وفرنسا غربًا). بلجيكا كانت دولة محايدة. بريطانيا اتخذت من الهجوم على بلجيكا حجّة لدخول الحرب ضد ألمانيا، وهكذا انفجرت الحرب العالمية الأولى. أما ايطاليا فوقفت محايدة ثم انضمت إلى الحلفاء سنة 1916 ناقضة حلفها مع ألمانيا. أما بلغاريا والدولة العثمانية فدخلتا مع ألمانيا وفي سنة 1917 حدثت تطورات أخرى ودخلت الولايات المتحدة إلى جانب الحلفاء لكن في السنة نفسها خرجت روسيا من الحرب بسبب الثورة البلشفية. من هنا اتضح أن ميزان القوى منذ البداية لم يكن في صالح المحور مع أن ألمانيا كانت أقوى دولة برًا في العالم آنذاك.
جمعت الحرب القوى الاقتصادية العظمى في تحالفين متعارضين: قوات الحلفاء أو قوات الوفاق الثلاثي وهم: المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا والجمهورية الفرنسية الثالثة والإمبراطورية الروسية، ضد دول المركز، وهي: الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية ومملكة بلغاريا. حيث كانت هذه الحرب مُكلفة جدًا على البشر والاقتصاد بشكل عام. حيث تم استخدام أسلحة متطورة ومدمرة، كذلك شارك فيها أكثر من سبعين مليون عسكري من كل الأطراف المتصارعة، وغَيَّرَت هذه الحرب موازين القوى العالمية.
عرف النصف الثاني من القرن التاسع عشر دولًا منتجة جديدة، لم تكن بارزة من قبل، مثل الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا وإيطاليا وفرنسا أمام بريطانيا التي تصدرت الإنتاج الصناعي عالميًا لمدة طويلة من الزمن، فعوامل مثل وفرة الفحم والحديد في مقاطعَتَي الالزس واللورين المنتزعتين من فرنسا بعد حرب السبعين، ساعدت على بروز ألمانيا صناعيًّا، حتى أخذت المنتجات الألمانية تزاحم المنتجات البريطانية في العديد من الدول مثل بلجيكيا وهولندا، ودخلت السوق البريطاني والدولة العثمانية وأمريكا اللاتينية، مما أدّى إلى انكماش تصدير التجارة البريطانية للعالم من 23% إلى 12% العام 1880، فعمّق ذلك الصراع بين الدولتين. وكان للسياسة الاقتصادية التي اتبعتها ألمانيا في هندسة التخطيط الصناعي والاهتمام بطرق النقل وتوسيع الموانئ وتسهيل رسو السفن أثر في جعل البحرية الألمانية بعد العام 1900 أقوى قوة بحرية في العالم بعد بريطانيا.
وكانت سنة 1872 بداية مرحلة حاسمة عقدت فيها تحالفات عديدة بين أطراف مختلفة المصالح والأهداف، وأهم هذه التحالفات:
أ- عصبة الأباطرة الثلاثة 1872-1887: عقد هذا التحالف في برلين، بين كل من إمبراطور ألمانيا وليم الأول (Wilhelm I) وقيصر روسيا الاسكندر الثاني (Aleksandr II) وإمبراطور النمسا جوزيف الثالث (Franz Joseph I)، وكان هدف التحالف المحافظة على الأوضاع السياسية القائمة في الإمبراطوريات الثلاث ومقاومة الأفكار الثورية التي تهدد أنظمة الحكم القائمة فيها.
ب- التحالف الثنائي الألماني النمساوي 1879: عقـد هذا التحالف بين ألمانيا وإمبراطورية النمسا-المجر لمدة خمسة أعوام قابلة للتجديد، كان نصّه أن أي اعتداء على إحداهما معناه اعتداء على الاثنتين معًا، فإذا هاجمت روسيا النمسا أو ألمانيا فيجب أن تعلن الثانية الحرب على روسيا. ويعدّ هذا التحالف عاملًا أساسيًّا في أوربا لأنه ثبَّت محور ألمانيا النمسا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
ج- الحلف الفرنسي الروسي 1891-1894: عقد هذا التحالف بين فرنسا وروسيا، واقتضى مساعدة روسيا لفرنسا إذا هاجمتها ألمانيا أو النمسا.
د- التحالف الثلاثي 1882: عقد هذا التحالف بين ألمانيا والنمسا-المجر وإيطاليا، وهدفه عزل فرنسا، وفرض الهيمنة الألمانية على المشهد الأوربي.
هـ- معاهدة إعادة التأميم 1887: تمت المعاهدة بعد انتهاء عصبة الأباطرة الثلاثة، وحلّ محلها التحالف الثنائي بين روسيا وألمانيا وعرف فيما بعد بمعاهدة إعادة التأميم.
و- الاتفاق الودّي 1904-1907: من أبرز التحالفات التي عملت على انقسام القارة الأوروبية، وتم بعدما شعرت بريطانيا بالخطر الألماني، فأخذت تتقرب من فرنسا وروسيا، وفي العام 1904 وقعت اتفاقية مع فرنسا لتسوية الخلافات، وفي العام 1907 وقعت اتفاقية مع روسيا حلّت الدولتان بموجبها معظم خلافاتهما في آسيا، خصوصًا القضية الإيرانية.
نمو الروح العسكرية وتصادم المصالح الاقتصادية أدى إلى أن تعمل الدول الأوروبية الكبرى منفردة على رفع مستوى قدراتها العسكرية، وخاضت سباقًا غير مسبوق للتسلح، بما لا يسمح تفوق غيرها، فكان نتيجة هذا الوضع كما ورد في معلومات عن الحرب العالمية الأولى في اتجاهين مؤثرين: الأول هو إصرار الدول المتصارعة على الاحتفاظ بجيوشها وأساطيلها، وإنشاء شبكات تجسس لمراقبة خطوط باقي الأطراف، مهما كلّف من ميزانية الدولة. والثاني هو قيام فئة من العسكريين بالسيطرة على مقاليد الحكم ومن ثم توجيهها ضمن الإطار العسكري.
كل ذلك بالإضافة إلى التسابق في البحث عن أسواق خارجية لتصريف المنتجات الاقتصادية بعد الثورة الصناعية، والبحث عن مواد أولية وخامات من خلال التشدد في استغلال الأراضي المستعمَرة واستنزاف خاماتها وثرواتها، بالإضافة إلى ظهور طبقة جديدة من الرأسماليين الكبار اقتضت مصالحهم استثمار البلدان المتأخرة التي تحتاج إلى مدّ سكك الحديد فيها أو إنشاء المصارف. كل هذا إلى جانب الاندفاع السياسي وتنافس الدول الأوربية لتوسيع ممتلكاتها في ما وراء البحار، ودعم نفوذها السياسي وإنشاء إمبراطوريات بما يرضي غرورها القومي، مما أدّى إلى تأزيم الصراع الأوربي وتهديد السلام العالمي، وظهور الدعاية والإعلام، ونمو الروح القومية والانفصالية وكل ذلك، مما كان له دور أساس في اشتعال الحرب العالمية الأولى.
ويمكن القول إن السبب المباشر للحرب يعدّ اغتيال ولي عهد النمسا-المجر الأرشيدوق فرديناند (Archduke Franz Ferdinand) وزوجته على يد غابريلو برنسيب (Gavrilo Princip) في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة، في 28 حزيران 1914. ويعدّ برنسيب واحدًا من أعضاء منظمة اليد السوداء الصربية التي كانت تهدف إلى العمل من أجل الوحدة الصربية. وكان هذا الاغتيال محكًا واقعيًا وفعليًا للتحالفات الدولية وتعميق الخلافات بين الدول. هنا وجّهت النمسا باتفاق مع ألمانيا إنذارًا صارمًا إلى حكومة صربيا، بضرورة تسليم قتلة الأرشيدوق، وفتح تحقيق بمحققين نمساويين في حادثة القتل، إلى جانب لجنة التحقيق الصربية، وإلغاء جميع التنظيمات العسكرية السريّة التي كانت تدعو إلى قيام دولة صربيا الكبرى وتعادي النمسا، ورأت النمسا أنّ رفض أي بند من هذه الشروط هو رفض لشروط الإنذار، ومنحت صربيا مهلة 48 ساعة للردّ على هذه الشروط تنتهي عند الساعة التاسعة من مساء 25 تموز.
وافقت صربيا على بنود الإنذار عدا السماح للمحققين النمساويين بالمشاركة في عملية التحقيق لما فيه من تشكيك في نزاهة القضاء الصربي، ورأت النمسا أن هذا الرد هو رفض من صربيا للإنذار، فقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع صربيا وأعلنت التعبئة العسكرية الجزئية، ثم أعلنت الحرب على صربيا. وهنا أعلنت روسيا عدم تخلّيها عن حليفتها صربيا، وطالبت النمسا بإيقاف عملياتها العسكرية واللجوء إلى التحكيم، وأعلنت التعبئة الجزئية يوم 28 تموز، وفي يوم 29 تموز صرّحت ألمانيا بأنها ستعلن التعبئة العامة إذا لم تقدم الحكومة الروسية على إلغاء التعبئة الجزئية، فردت روسيا بإعلان التعبئة العامة في 30 تموز بدلًا من التعبئة الجزئية.
في 1 آب 1914 أعلنت ألمانيا التعبئة العامة والحرب ردًّا على روسيا، فأعلنت فرنسا حليفة روسيا التعبئة العامة، في حين رفضت بريطانيا التعبئة العامة وأعلنت بأنها غير ملزمة بتقديم المساعدة العسكرية لفرنسا، مما دفع ألمانيا إلى تسريع أوامرها للجيش في 2 آب لاحتلال فرنسا عبر بلجيكا على الرغم من حياد الأخيرة. وكان لخرق القوات الألمانية حياد بلجيكا ردّ فعل قوي لدى بريطانيا التي رأت خرق سيادة دولة مجاورة محايدة من قبل دولة كبرى تهديدًا لها، وأن مصلحتها تقتضي عدم السماح لألمانيا بزعزعة التوازن الدولي، وهنا تراجعت بريطانيا عــن موقفها وأعلنت التعبئة العامة لمشاركة حلفائها في 4 آب 1914. وبعد شهر من بداية الحرب العالمية الأولى انضمت إيطاليا إليها بعد توقيعها معاهدة لندن السرية في 26 نيسان 1915.
وكان من نتائج الحرب العالمية الأولى أنها انتهت بفوز روسيا وحلفائها في العام 1918م، وخسارة ألمانيا في معركة المارن الثاني وتوقيع استسلامها، كما أسفرت عن خسائر مادية وبشرية جسيمة وعن تراجع الدور الرائد لأوروبا في توجيه سياسة العالم. أما أبرز نتيجة للحرب العالمية الأولى فتمثلت في قيام سلام منقوص يحتوي على جميع العناصر التي من شأنها إشعال حرب عالمية ثانية، وقدرت الخسائر البشرية والمادية بتسعة ملايين قتيل، ويزيد عن ذلك بكثير من الجرحى والمشوهين، كان أغلبهم من الروس، ثم ألمانيا والنمسا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. أمّا الخسائر المادية، فكانت على الأراضي التي قامت عليها الحرب العالمية الأولى، فقد أتلفت المحاصيل الزراعية، وقتلت الكثير من المواشي، ودمرت مئات آلاف المنازل وآلاف المصانع، ولحقت الكثير من الأضرار بالسكك الحديدية ومناجم الفحم التي غمرت بالماء منعًا لاستغلالها من العدو بالنسبة لطرفَي الحرب. أما الدول الأوروبية كبريطانيا وفرنسا فقد كثّفت من استغلال مستعمراتها من حيث المواد الأولية والأيدي العاملة والمقاتلين.

- السلام المنقوص في ما ذكر من معلومات عن الحرب العالمية الأولى


وافقت ألمانيا على الاستسلام، وتوقيع الهدنة في 11 تشرين الثاني 1918، على أساس مبادئ ويلسون، في مؤتمر السلام الذي عقد أولى جلساته في باريس 18 كانون الثاني 1919، وحضره ممثلون عن 32 دولة حليفة، واستبعدت منه الدول المهزومة وروسيا والدول المحايدة، مما جعله اجتماعًا للدول المنتصرة لتتقاسم المغانم في ما بينها وتفرض إرادتها على الدول المهزومة، وفرضت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية رأيهم على جميع رؤساء الوفود المشاركة في المؤتمر.
فقد كان من مطالب فرنسا وبريطانيا، توسيع حدودهما واكتساب مستعمرات جديدة، فطالب الفرنسيون الألمان باستعادة منطقتي الألزاس واللورين والضفة اليسرى لنهر الراين كمنطقة دفاعية ومنطقة السار كمصدر للتزود بالفحم الحجري، مع اعتبار المستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا ووسطها وفي جنوب شرق آسيا والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، أمورًا غير قابلة للنقاش. أمّا رئيس وزراء بريطانيا فطالب بوراثة المستعمرات الألمانية في أفريقيا وشرق آسيا وبالانتداب على مصر والسودان وفلسطين والعراق متناسيًا الوعد البريطاني باستقلال المشرق العربي تحت راية الشريف حسين بن علي. أما رئيس الوزراء الإيطالي فطالب باستعادة منطقتي ترانتان وتريستا إلى إيطاليا. وانفرد الرئيس الأمريكي ويلسون (Wilson) بالمطالبة بإقامة عصبة الأمم التي تستلهم مقررات المؤتمر من مبادئه الأربعة عشر.
كان من نتائج المؤتمر: تغيير الخريطة السياسية لأوروبا: فقرر مؤتمر باريس تفكيك الإمبراطوريات الألمانية والنمساوية، وإجراء تعديلات على الحدود السياسية لدول أوروبا كان نتيجتها ظهور دول جديدة على الخريطة الأوروبية كالمجر وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا. وتغيرت أنواع أنظمة الحكم في الدول بطريقة جذرية، فتحولت تركيا وألمانيا إلى النظام الجمهوري، وتحولت النمسا إلى جمهورية صغيرة، أما روسيا فتحولت من النظام القيصري إلى النظام الشيوعي منذ الثورة البلشفية 1917 التي قادها فلاديمير لينين (Vladimir Lenin).
ويمكن القول إن الحرب العالمية الأولى مرت بمرحلتين؛ الأولى من 1914 إلى 1917 وتميزت هذه المرحلة بانتصار الألمان (الوفاق) ونهج حرب الخنادق. أما الثانية فبدأت من 1917 – الثورة البلشفية - إلى 1918، حيث انقلبت الموازين لصالح الحلفاء خصوصًا بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب إلى جانب الحلفاء. ونتج عن الحرب العالمية الأولى عدة نتائج سياسية أهمها؛ عقد مؤتمر الصلح في 28 حزيران 1919 بفرساي، والذي فرض على ألمانيا شروطًا قاسية أهمها: غرامة مالية كبيرة، واقتطاع أجزاء من أراضيها وتقليص عدد جنودها، كما فرضت على باقي الدول المنهزمة مجموعة من المعاهدات: معاهدة سان جيرمان أيلول 1919 على النمسا. وكذلك معاهدة نيويي تشرين الثاني 1919 على بلغاريا. ومعاهدة تريانو حزيران 1920 على المجر. وقد ترتب عن هذه المعاهدات تغييرات واضحة على خريطة أوروبا، وذلك بظهور دول جديدة واتساع نفوذ الدول المنتصرة على حساب الدول المنهزمة. كما نتج عن هذه المعاهدات (فرساي) إنشاء هيئة دولية للحفاظ على السلم في العالم حملت اسم عصبة الأمم، وقد اعتمدت ما جاء به الرئيس الأمريكي ويلسون في مبادئه 14 كأهداف لها.

- سايكس بيكو


اتفاقية سايكس بيكو (Sykes–Picot Agreement) في 1916 هي معاهدة سرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة في الحرب العالمية الأولى. اعتمدت الاتفاقية على فرضية أن الوفاق الثلاثي سينجح في هزيمة الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى ويشكل جزءًا من سلسلة من الاتفاقات السرية التي تأمل في تقسيمها. وقد جرت المفاوضات الأولية التي أدت إلى الاتفاق بين 23 تشرين الثاني 1915 و3 كانون الثاني 1916 وهو التاريخ الذي وقَّع فيه الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس على وثائق مذكرات تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك. وصادقت حكومات تلك البلدان على الاتفاقية في 9 و16 أيار 1916.
قسمت الاتفاقية الولايات العربية العثمانية خارج شبه الجزيرة العربية، إلى مناطق تسيطر عليها بريطانيا وفرنسا أو تحت نفوذها. فخصصت الاتفاقية لبريطانيا ما هو اليوم جنوب "إسرائيل" وفلسطين والأردن وجنوب العراق ومنطقة صغيرة إضافية تشمل موانئ حيفا وعكا للسماح بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. أما فرنسا فتسيطر على جنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان. ونتيجة اتفاق سازونوف-باليولوج المشمول فإن روسيا ستحصل على أرمينيا الغربية بالإضافة إلى القسطنطينية والمضائق التركية الموعودة بالفعل بموجب اتفاقية القسطنطينية (1915). وافقت إيطاليا على هذا الاتفاق سنة 1917 عبر اتفاقية سانت جان دي مورين بحيث يكون لها جنوب الأناضول. أما منطقة فلسطين ذات الحدود الأصغر من فلسطين المنتدبة اللاحقة فإنها ستكون تحت "إدارة دولية".
استُخدِمَت الاتفاقية مبدئيًا لتكون الأساس المباشر للتسوية الأنجلو-فرنسية المؤقتة 1918 والتي وافقت على إطار عمل لإدارة أراضي العدو المحتل في بلاد الشام. وعلى نطاق أوسع كان من المفترض أن تؤدي بشكل غير مباشر إلى تقسيم الدولة العثمانية بعد هزيمتها سنة 1918. بعد فترة وجيزة من الحرب تنازل الفرنسيون عن فلسطين والموصل إلى البريطانيين. ووضعت بلاد الشام وما بين النهرين تحت الانتداب في مؤتمر سان ريمو في نيسان 1920 حسب إطار سايكس بيكو؛ استمر الانتداب البريطاني على فلسطين حتى 1948، واستعيض عن الانتداب البريطاني على العراق بمعاهدة مماثلة مع العراق المنتدب، واستمر الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان حتى سنة 1946. وتم تحديد الأجزاء الأناضولية حسب معاهدة سيفر بحلول آب 1920؛ لكن هذه الطموحات أحبطتها حرب الاستقلال التركية 1919-1923.
ينظر كثيرون إلى الاتفاقية على أنها نقطة تحول في العلاقات الغربية العربية. فقد ألغت المملكة المتحدة وعودها للعرب في ما يتعلق بوطن قومي عربي في منطقة سوريا الكبرى مقابل دعمهم لبريطانيا ضد الدولة العثمانية. وانكشفت بنود الاتفاقية بوصول البلاشفة إلى سدة الحكم في روسيا في 23 تشرين الثاني 1917 وتكررت في صحيفة الجارديان البريطانية في 26 من الشهر نفسه، بحيث «كان البريطانيون محرجين والعرب مستائين والأتراك مسرورين». ولا يزال إرث الاتفاقية يلقي بظلاله على النزاعات الحالية في المنطقة.
بينما كان سايكس وبيكو في مفاوضات، كانت المناقشات جارية بالتوازي بين الحسين بن علي شريف مكة ومقدم السير هنري مكماهون المفوض السامي البريطاني في مصر في مراسلات عرفت بمراسلات الحسين – مكماهون، وتألفت من عشر رسائل متبادلة من تموز 1915 إلى آذار 1916، وافقت فيها الحكومة البريطانية على الاعتراف باستقلال العرب بعد الحرب مقابل قيام شريف مكة بإطلاق الثورة العربية ضد الدولة العثمانية.
تم تعريف منطقة الاستقلال العربي على أنها تحدّها من الشمال مرسين وأضنة تصل إلى خط عرض 37° شمالاً وهي الدرجة التي تقع عليها البيرة وأورفا وماردين ومديات وجزيرة ابن عمر والعمادية حتى حدود بلاد فارس؛ ومن الشرق على حدود بلاد فارس حتى خليج البصرة؛ ومن الجنوب المحيط الهندي، باستثناء ميناء عدن حيث يبقى كما هو؛ في الغرب البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط حتى مرسين باستثناء أجزاء من سوريا تقع غربي مدن دمشق وحمص وحماة وحلب.
وقد رد حسين بتاريخ 1 كانون الثاني على مكماهون المؤرخ في 14 كانون الأول 1915 في وزارة الخارجية ونصّ على: "من الجيد أن نلاحظ القبول العام في الوقت الحالي للعلاقات المقترحة بين فرنسا والعرب، وإشارته إلى مستقبل هذه العلاقات تنصّ على مصدر للمتاعب، ومن الحكمة عدم تجاهلها. لقد أبلغت في أكثر من مناسبة حكومة صاحب الجلالة بالكراهية العميقة التي ينظر بها العرب إلى الإدارة الفرنسية المحتملة لأي جزء من الأراضي العربية. في هذا يكمن خطر كبير على علاقاتنا المستقبلية مع فرنسا، لأنه من الصعب وحتى من المستحيل إقناع فرنسا بخطئها، إذا لم نحاول القيام بذلك عن طريق تحذيرها من الحالة الحقيقية للشعور العربي، فقد نأتي فيما بعد أن تتهم بالتحريض أو تشجيع معارضة الفرنسيين، والتي يهددها العرب الآن وسوف يفعلونها بكل تأكيد".
وصل فيصل إلى باريس في 20 تشرين الأول 1919 ثم في 6 كانون الثاني 1920، حيث قَبِلَ الانتداب الفرنسي لكل سوريا، بالمقابل وافقت فرنسا على تشكيل دولة عربية ضمت دمشق وحمص وحماة وحلب، ويحكمها الأمير بمساعدة مستشارين فرنسيين (اعتراف بحقّ السوريين في الاتحاد لحكم أنفسهم كدولة مستقلة). في غضون ذلك انسحبت القوات البريطانية من دمشق يوم 26 تشرين الثاني. عاد فيصل إلى دمشق في 16 كانون الثاني وتولى ميلران مهام منصبه بعد كليمنصو في 20 من الشهر نفسه.
أعلن المؤتمر الوطني السوري في دمشق عن دولة سوريا مستقلة في 8 آذار 1920. وتحوي الدولة الجديدة أجزاءً من سوريا وفلسطين وشمالي العراق. وأعلن فيصل ملكًا على الدولة. في هذا الوقت أعلن أخوه الأمير زيد وصيًا على العراق. في نيسان 1920 سلّم مؤتمر سان ريمو إلى فرنسا انتدابها على سوريا من الدرجة الأولى، والعراق وفلسطين إلى بريطانيا. صادق المؤتمر نفسه على اتفاقية نفط تم التوصل إليها في مؤتمر لندن في 12 شباط بناءً على نسخة مختلفة قليلًا من اتفاقية النفط التي تم توقيعها مسبقًا في لندن في 21 كانون الأول.
قررت فرنسا أن تحكم سوريا حكمًا مباشرًا، فاتخذت إجراءات لفرض الانتداب الفرنسي على سوريا قبل قبولها شروط عصبة الأمم. فأصدر الفرنسيون إنذارًا ثم تدخلوا عسكريًّا في معركة ميسلون في حزيران 1920. وأطاحوا بالحكومة العربية وطردوا الملك فيصل من دمشق في آب 1920. كما عينت بريطانيا مفوضًا ساميًا وأنشأت نظامًا إلزاميًّا خاصًا بها في فلسطين، وأيضًا دون الانتظار للحصول على موافقة عصبة الأمم أو حتى الحصول على تنازل رسمي للإقليم من تركيا حكام المنطقة السابقين.
وفي تشرين الثاني 1914 احتل البريطانيون البصرة. ووفقًا لتقرير لجنة دي بونسن عُرِّفت المصالح البريطانية في العراق بأنها الحاجة لحماية جناح الهند الغربي وحماية المصالح التجارية بما فيها النفط. أصبح البريطانيون قلقين أيضًا بشأن سكة حديد برلين-بغداد. على الرغم من أنه لم يتم التصديق عليه، وأيضا وقّع البريطانيون على المعاهدة الأنجلو-عثمانية لعام 1913.
دخل البريطانيون بغداد خلال حملة بلاد الرافدين في 11 آذار 1917، وعلى الرغم من توقيعهم على هدنة مودروس في 30 تشرين الأول 1918 إلا أنهم واصلوا تقدمهم ودخلوا الموصل في 2 تشرين الثاني. بعد منح بريطانيا الانتداب على العراق في سان ريمو، واجه البريطانيون ثورة عراقية ضدهم من تموز وحتى شباط 1921، بالإضافة إلى تمرد كردي في ولاية الموصل (التي تضم الموصل وكركوك والسليمانية وأربيل). ولتهدئة ذلك تقرر تثبيت فيصل ملكًا على العراق بعد مؤتمر القاهرة.
حسب التوزيع فقد خصصت سايكس بيكو جزءًا من شمالي كردستان ومناطق كبيرة من ولاية الموصل (التي تضم الموصل وكركوك والسليمانية وأربيل) بما في ذلك مدينة الموصل إلى فرنسا في المنطقة ب، وحصلت روسيا على بدليس ووان في كردستان الشمالية (انقسمت الدولة العربية المزمعة والتي تضم الكرد في حدودها الشرقية ما بين المناطق A وB. يقول بومان إن هناك حوالي 2.5 مليون كردي في تركيا، معظمهم في المنطقة الجبلية المسماة كردستان. قدم شريف باشا «مذكرة بشأن مطالبات الشعب الكردي» إلى مؤتمر باريس للسلام سنة 1919 كما أوصى التقرير المكتوب للجنة كينغ - كراين بنوع من الاستقلال الذاتي في «المنطقة الجغرافية الطبيعية التي تقع بين ما سميت أرمينيا شمالًا والعراق جنوبًا، وحدودها الغربية هي الفجوة بين الفرات ودجلة، أما الشرقية فهي فارس». تخلّى الروس عن مطالبهم الإقليمية بعد الثورة البلشفية، وفي مؤتمر سان ريمو مُنح الفرنسيون الانتداب على سوريا والإنجليز الانتداب على العراق.
من المحتمل أن معاهدة سيفر اللاحقة قد نصّت على إقليم كردي يخضع للاستفتاء وموافقة عصبة الأمم في غضون عام من المعاهدة. ومع ذلك أدت حرب الاستقلال التركية إلى إبطال معاهدة لوزان التي لم تنصّ على وجود دولة كردية. والمحصلة النهائية هي أن الكرد والآشوريين تم ضمهم إلى مناطق تركيا والعراق وسوريا وإيران.
الباحث الفرنسي جان بول شانيولو، صاحب كتاب «عنف وسياسة في الشرق الأوسط - من سايكس بيكو إلى الربيع العربي»، قال حول هذه الاتفاقية: "فرضت تقسيمات تعسفية للأراضي وتم تناسي قوميات. قامت دول بلا شعوب وظهرت شعوب بلا دول» في إشارة إلى الفلسطينيين والكرد. موضحًا «كاد الكرد يحصلون على دولة. فقد حصلوا عليها في معاهدة سيفر أغسطس (آب) 1920، لكن توازن القوى على الأرض غير الوضع".
ورغم تلميح اتفاقية «سيفر» العام 1920، لاحتمالية إقامة كيان كردي في شرقي الأناضول حيث يشكل الكرد الغالبية، فإن الاتفاقية لم تطبق بسبب الحركة القومية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (1881 – 1938/ مؤسس تركيا الحديثة)، وتم استعاضتها باتفاقية لوزان في 1923 التي اعترفت قانونيًا بتركيا الحديثة، دون ذكر للكرد. ووفق ما ذكره بول شانيولو في كتابه، فإن "سايكس بيكو فرضت حدودًا على الشعوب ويجب إعادة الأمور إلى نصابها: الآن يعود إلى الشعوب فرض إرادتها في إنشاء دولة.

- معاهدة سيفر 1920


معاهدة سيڨر 10 آب هي واحدة من سلسلة معاهدات وقعتها دول المركز عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وقد كانت مصادقة الدولة العثمانية عليها هي المسمار الأخير في نعش تفككها وانهيارها بسبب خسارة قوى المركز في الحرب العالمية الأولى، وتضمنت تلك المعاهدة التخلي عن جميع الأراضي العثمانية التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، إضافة إلى استيلاء الحلفاء على أراض تركية، فقُسِّمت بلدان شرق المتوسط حيث أخضعت فلسطين للانتداب البريطاني ولبنان وسوريا للانتداب الفرنسي. وقد ألهبت شروط المعاهدة حالة من العداء والشعور القومي لدى الأتراك، فجرّد البرلمان الذي يقوده مصطفى كمال أتاتورك موقّعي المعاهدة من جنسيتهم، ثم بدأت حرب الاستقلال التركية التي أفرزت معاهدة لوزان حيث وافق عليها القوميون الأتراك بقيادة أتاتورك؛ ممّا ساعد في تشكيل الجمهورية التركية الحديثة.
وُقِّع، قبل معاهدة سيفر، على معاهدة فرساي مع الإمبراطورية الألمانية لإلغاء الامتيازات الألمانية في الفلك العثماني ومنها الحقوق الاقتصادية والشركات. وفي الوقت نفسه تم «اتفاق سري ثلاثي» بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. تحصل بريطانيا بموجبه على الامتيازات النفطية والتجارية، وتُنقل ملكية الشركات الألمانية في الدولة العثمانية إلى شركات دول الاتفاق الثلاثي. لكن تبقى شروط معاهدة سيفر أشد وطئًا على العثمانيين من شروط فرساي المفروضة على الألمان؛ وإن أخذت المفاوضات المفتوحة أكثر من خمسة عشر شهرًا، بداية من مؤتمر باريس للسلام.
استمرت المفاوضات في مؤتمر لندن، إلا أنها اتخذت شكلًا واضحًا بعد اجتماع رؤساء الوزراء في مؤتمر سان ريمو في أبريل 1920. وقد بدأت كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا - سرًا - محاولة تقسيم الدولة العثمانية منذ سنة 1915، ولكنها تأجلت لأن تلك القوى لم تتوصل إلى اتفاق في ما بينها، والذي كان متوقفًا على حصيلة الحركة الوطنية التركية. ووقع ممثلو الدول على معاهدة سيفر في معرض لمصنع الخزف في سيفر بفرنسا. حيث أرسل السلطان محمد الخامس (1844 – 1918) أربعة أشخاص للتوقيع على المعاهدة على أنهم وفد غير رسمي برئاسة الجنرال شريف باشا الذي انتخب لرئاسة الوفد الكردي من قبل (جمعية تعالي وترقي كردستان، حزب استقلال الكرد، الجمعية الكردية والحزب الديمقراطي الكردي) لتمثيل الكرد في المؤتمر، وقد ضم الوفد كلًا من (فخري عادل بك، عادل بك المارديني، صالح بك حسني مدير شؤون شريف باشا، غالب علي بك سكرتير شريف باشا)، وحاول الشيخ محمود الحفيد إرسال وفد خاص إلى باريس للالتحاق بشريف باشا، إلا أن الإنكليز حالوا دون وصوله. فتركيا من جانب وبريطانيا وفرنسا من جانب آخر لم ترتح لوجود وفد كردي مستقل يمثل الكرد في المؤتمر لأنها أرادت الانفراد بحلّ المسألة الكردية وفق مصالحها الخاصة.
قام شريف باشا (وهو محمد شريف بن سعيد باشا بن حسين باشا الخندان، من عائلة بابان الكردية المشهورة التي تسلمت الكثير من الوظائف العليا في الدولة العثمانية، فكان والده وزيرا للخارجية ثم رئيسًا لمجلس شورى الدولة. عين عام 1898 وزيرًا مفوضًا للدولة العثمانية في ستوكهولم وظل في منصبه حتى اعلان الدستور العثماني 1908، عاد إلى تركيا وانخرط في صفوف الحركة الكردية وساهم في تأسيس جمعية تعالي وترقي كردستان مع أمين عالي بدرخان)، بالاتصال بممثلي أغلب الدول المشاركة في المؤتمر (27 دولة)، لشرح القضية الكردية وبشكل خاص ممثل بريطانيا. وعرض عليه وضع كردستان تحت الانتداب البريطاني.
وقّع السير جورج ديكسون غراهام عن بريطانيا العظمى، وألكسندر ميلران عن فرنسا وولونجاري عن إيطاليا. واستبعدت الولايات المتحدة، أحد اللاعبين الأساسيين في دول الحلفاء، من المعاهدة. كما استبعدت أيضًا روسيا بسبب توقيعها على معاهدة برست ليتوفسك مع الدولة العثمانية سنة 1918. بالنسبة إلى باقي دول الحلفاء، فقد رفضت اليونان الحدود المرسومة ولم تصدّق على المعاهدة. ووقّع أفتيس أهارونيان رئيس الوفد الأرمني على تلك المعاهدة؛ وهو نفسه الذي وقع على معاهدة باطوم يوم 4 حزيران 1918. وقد تمكنت الدولة العثمانية في تلك المعاهدة، بسبب إصرار الصدر الأعظم طلعت باشا (1874 – 1921)، من استعادة أراض احتلتها روسيا في الحرب الروسية التركية (1877-1878) وبالذات أرداهان وقارص وباطومي.
حدد زعماء كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة أهدافا متباينة تتعلق بالدولة العثمانية في مؤتمر باريس للسلام 1919. إلا أن الموضوع المشترك هو أن رجل أوروبا المريض قد وصل نهايته. ومع ذلك؛ فقد صدم الحلفاءُ المجتمعَ الدولي عندما أقرّوا في المعاهدة الإبقاء على الحكومة العثمانية في العاصمة إسطنبول. وقد هدَّد الحلفاء بطرد العثمانيين من أوروبا إن لم يوقعوا على المعاهدة، ومن شدة تلك الشروط المفروضة أن السياسة البريطانية نجحت نوعًا ما في خنق رجل أوروبا المريض في آسيا الصغرى. وقد قررت الولايات المتحدة ــ التي رفض الكونغرس فيها وصاية أرمينيا ــ الخروج من موضوع تقسيم الدولة العثمانية، حيث إنها تريد سلامًا دائمًا في أسرع وقت ممكن مع دفع تعويض مالي عن نفقاتها العسكرية.
لكن وبعد أن رفض الكونغرس الأمريكي طلب ويلسون ولاية أرمينيا، بقي أمله في إشراك رئيس الوزراء اليوناني القوي إلفثيريوس فينيزيلوس (Eleftherios Venizelos) في المعاهدة. وقد قضت المعاهدة بفصل الولايات العربية عن الدولة العثمانية، حيث أخذت بريطانيا وفرنسا كلا من العراق والشام لتصبح خاضعة للانتداب، كما نصّت الاتفاقية على وضع البوسفور والدردنيل تحت إدارة دولية، وعلى إعطاء جزر دوديكانيسيا لإيطاليا والتي كانت تحتلها بالفعل قبل الحرب العالمية الأولى.
عززت المعاهدة في تقسيم الدولة العثمانية حسب الاتفاقيات السرية بين دول الحلفاء. فحظيت مملكة الحجاز باعتراف دولي. وتبلغ مساحتها 100.000 ميل2 (260.000 كـم2) وبتعداد سكان 750 ألف شخص. وأكبر مدنها مكة (80 ألف نسمة) والمدينة المنورة (40 ألف نسمة). وقد كانت تسمّى ولاية الحجاز، ولكنها استقلت خلال الحرب وأصبحت مملكة تحت النفوذ البريطاني. واعتُرِف بأرمينيا، بوصفها دولة أسستها الأطراف الموقعة (القسم السادس «أرمينيا»، البنود 88-93).
حاول الحلفاء السيطرة على موارد الدولة العثمانية، وعمل رقابة مالية كاملة وصولًا إلى القبول والإشراف على ميزانية الدولة والقوانين المالية ولوائحها، والهيمنة التامة على البنك العثماني. وقد أعيد تشكيل إدارة الدين العام العثماني (أسست في 1881) لتشمل حاملي السندات من الجنسية البريطانية والفرنسية والإيطالية فقط. حيث بدأ الدين العثماني زمن حرب القرم (1854-1856) حينما اقترضت الدولة أموالًا لتمويل الحرب ومعظمها من فرنسا. ثم قرر مؤتمر لوزان أن جمهورية تركيا مسؤولة عن الالتزام بـ67% من ديون ما قبل الحرب العظمى. لكن المشكلة كانت في كيفية الدفع، وقد حلّت تلك المسألة سنة 1928‏. كما استعيدت تنازلات الدولة العثمانية التي ألغاها طلعت باشا سنة 1914. ثم امتدت الهيمنة إلى التحكم برسوم الاستيراد والتصدير وإعادة تشكيل النظام الانتخابي والتمثيل النسبي «للأعراق» داخل السلطنة. وطُلب من السلطنة منح حرية عبور الأشخاص والبضائع والسفن وغيرها التي تمر عبر أراضيها. بحيث تكون البضائع العابرة خالية من جميع الرسوم الجمركية. كذلك منعت الدولة من عمل أي تطوير مستقبلي للنظام الضريبي أو الجمارك أو عمل اقتراض داخلي أو خارجي أو أي تنازل دون الحصول على موافقة لجنة المالية لقوات الحلفاء.
ولقطع الطريق أمام أي اختراق اقتصادي لألمانيا أو النمسا-المجر أو بلغاريا لتركيا؛ فقد طالبت المعاهدة السلطنة بتصفية ممتلكات مواطني تلك الدول في أراضيها، وتقديم تلك التصفية إلى لجنة التعويضات. أما ملكية سكة حديد بغداد فقد خرجت من السيطرة الألمانية. كذلك حددت المعاهدة ألا يزيد تعداد الجيش العثماني على 50.700 عسكري. أما البحرية العثمانية فتبقي على سبعة سفن حراسة وستة زوارق طوربيد. وحظر عليهم الحصول على سلاح جو. وتضمنت المعاهدة أيضًا وجود لجنة مشتركة بين الحلفاء للرقابة والتنظيم والإشراف على تنفيذ البنود العسكرية.

***


* كاتب وصحافي كردي - سوريا

مراجعات: بعد قرنٍ من مؤتمر القاهرة 1921: ماذا استجدَ؟ (2)


الحداثة (Al Hadatha) – ع. 227 - س. 30 - ربيع Spring 2023

ISSN: 2790-1785

ليست هناك تعليقات:

اقرأ أيضًا

تعليقات القرّاء

راسلنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تصنيفات وأعداد

Al Hadatha (1007) أبحاث في الأدب واللغة (362) أبحاث في الثقافة الشعبية (245) أبحاث في العلوم الاجتماعية (182) أبحاث في الفنون (168) أبحاث في التاريخ (125) أبحاث في التربية والتعليم (114) أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية (80) أبحاث في علم النفس (64) مراجعات (61) أبحاث في الفلسفة (55) صيف 2019 (42) شتاء 2020 (38) محتويات الأعداد (38) افتتاحية الأعداد (37) خريف 2020 (37) ربيع 2020 (37) خريف 2019 (35) صيف 2020 (35) أبحاث في الإعلام (34) خريف 2023 (34) ربيع 2024 (33) شتاء 2024 (33) صيف 2024 (33) أبحاث في الآثار (32) الحداثة : أعلام (32) شتاء 2021 (31) خريف 2016 (26) شتاء 2017 (25) الحداثة في الإعلام (24) نوافذ (24) ربيع 2021 (23) صيف 2018 (23) صيف 2023 (23) خريف 2018 (22) ربيع 2022 (22) صيف 2017 (22) أبحاث في القانون (21) شتاء 2022 (21) خريف 2021 (20) ربيع 2017 (20) ربيع 2023 (20) صيف 2021 (20) شتاء 2019 (19) خريف 1994 (18) أبحاث في العلوم والصحة (17) أبحاث في كورونا (covid-19) (17) صيف 2022 (17) خريف 2001 (16) خريف 2022 (16) شتاء 2023 (16) ملف الحداثة (15) ربيع 2019 (12) شتاء 2000 (12) شتاء 1996 (11) شتاء 2018 (11) خريف 1995 (10) ربيع 2015 (10) أبحاث في الجغرافيا (9) خريف 2004 (9) صيف 1997 (9) خريف 2017 (8) ربيع 1999 (8) ربيع 2016 (8) ربيع وصيف 2007 (8) شتاء 1998 (8) شتاء 2004 (8) صيف 1994 (8) صيف 1995 (8) صيف 1999 (8) أبحاث في الإدارة (7) شتاء 1999 (7) شتاء 2016 (7) خريف 1996 (6) خريف 1997 (6) خريف 2013 (6) ربيع 2001 (6) شتاء 1995 (6) شتاء 2013 (6) صيف 2000 (6) صيف 2001 (6) صيف 2002 (6) خريف 1998 (5) خريف 2000 (5) خريف وشتاء 2003 (5) ربيع 1996 (5) شتاء 1997 (5) صيف 2003 (5) صيف 2009 (5) ربيع 2002 (4) شتاء 2011 (4) صيف 1996 (4) صيف 2008 (4) خريف 2003 (3) خريف 2009 (3) خريف 2010 (3) خريف 2015 (3) خريف شتاء 2008 (3) ربيع 1995 (3) ربيع 1998 (3) ربيع 2000 (3) ربيع 2003 (3) ربيع 2012 (3) ربيع 2018 (3) شتاء 2001 (3) شتاء 2010 (3) صيف 1998 (3) صيف 2005 (3) صيف 2010 (3) صيف 2014 (3) صيف خريف 2012 (3) العدد الأول 1994 (2) خريف 1999 (2) خريف 2005 (2) خريف 2014 (2) ربيع 2006 (2) ربيع 2011 (2) ربيع 2013 (2) ربيع 2014، (2) شتاء 2005 (2) شتاء 2012 (2) شتاء 2014 (2) شتاء 2015 (2) صيف 2006 (2) صيف 2011 (2) صيف 2013 (2) صيف 2015 (2) الهيئة الاستشارية وقواعد النشر (1) خريف 2011 (1) ربيع 2004 (1) ربيع 2005 (1) ربيع 2009 (1) ربيع 2010 (1) ربيع 2014 (1) شتاء 2007 (1) صيف 2004 (1) صيف 2016 (1) فهرس (1994 - 2014) (1) مجلدات الحداثة (1)

الأكثر مشاهدة