♦ فرحان صالح *
نبذة عن البحث
يمكن القول إن الحياة الثقافية العربية الحديثة والمعاصرة بدأت مع محمد علي باشا (1769 – 1849م) في العام 1805، واستمرت المرحلة الأولى منها حتى العام 1841، حينما انسحب إبراهيم باشا (1789- 1848م) من سوريا ولبنان وفلسطين، منكفئًا عن طموحاته في أن تكون مصر دولة تتربع على عرش الشرق.
ما يدفعنا لهذا القول هو أن تجربة محمد علي تعدّ أول تجربة سعت إلى الخروج من تحت عباءة السلطنة العثمانية، ومن تحت عباءة الاستعمار بشقيه الإنجليزي والفرنسي أيضًا. في حين أن تجربة "الضباط الأحرار" في العام 1952م، كانت أكثر جذرية، والسبب أنها أسقطت النظام الملكي الذي أصبح عبئًا على مصر وشعبها، وحررته من الاستعمار الإنجليزي الجاثم على جسد المصريين منذ فشل تجربة أحمد عرابي (1841- 1911م) في العام 1882، واحتلال الإنجليز لمصر.
- من عالم تقليدي إلى عالم جديد
برز جيل من المثقفين العرب الواعدين، وان كان رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873م) يعدّ من أهم الرموز التي مثّلت وعبرت عن تلك المرحلة.
الطهطاوي الذي يتم التركيز على موقعه في الحياة السياسية والحقوقية والاقتصادية المصرية، هو من العائلات العريقة في مصر وتوارثت العلوم الإسلامية، وكان محمد علي قد جرد عائلة الطهطاوي وغيرها من العائلات من ثرواتهم. كان هذا في العام 1813 حينما صادر أملاك الوقف وألحقها بمؤسسات الدولة، ما دفع الطهطاوي إلى الالتجاء إلى الأزهر لتكملة دراسته. وللصدف أن يكون معلمه حسن العطار (1766- 1835م) أحد أهم العلماء الكبار في الأزهر الذي زار فرنسا وتشبّع بعلومها وفنونها.
هو هذا العالم الذي فتح للطهطاوي وغيره آفاقًا للمعرفة والاطلاع على تجارب جديدة، ستكون فرنسا المدرسة التي يريدون من مصر أن تكون نموذجًا عنها. وكان الحظ بانتظار الطهطاوي عندما تم تعيينه إمامًا لفرقة من فرق الجيش المصري، ثم إمامًا لأول بعثة أرسلها محمد علي إلى باريس.
لكن سرعة التحولات والصراعات الدولية التي تهدف لوراثة الخلافة العثمانية وتقاسمها بين الانجليز والفرنسيين، هي ما حاول استغلالها محمد علي لتحقيق مشروعه في الانفصال عن الخلافة، وتحقيق مشروعه الإصلاحي، هذا المشروع الذي لا يمكن أن يُبنى إلا على رؤية لبناء مصر الجديدة، ولا يمكن أن يحصل إلا على أنقاض القديم. وكان هذا المشروع قد ارتكز على عقول ثلاثة روافد:
أولا: على محمد علي في أبوته وحلمه.
ثانيًا: على إبراهيم باشا في أحلامه العربية التوسعية.
ثالثًا: على العقول المصرية التي تحلم بأرض تفلحها لتأكل منها.
لقد تمثل هذا الحلم بأحد العقول التي عبرت عن أحلام كل المصريين، وكان الطهطاوي هو هذا الرمز، بما حمله هو وغيره ممن أرسلوا إلى باريس وعادوا بذخيرة معرفية وعلمية وفنية واقتصادية وثقافيه، أرادوا أن يزرعوها في بلدهم في مصر، وكان الطهطاري نقطة جذب لكل العقول الواعدة التي تجمعت أحلامها في مشروع محمد علي الذي حوّل الحلم إلى واقع. كان ذلك حينما أرسل محمد علي العديد من البعثات للتعرف على الانجازات العلمية في أوروبا... وكان الطهطاوي وغيره من أصحاب العقول الواعدة، عادوا كي يساهموا في تحقيق مشروع محمد علي، وتحويل مصر من العالم التقليدي إلى عالم جديد، وليزج بمن أرسلهم إلى الغرب لتغيير الواقع المصري التي تسوده عقليات قبلية وخلافة تناهشتها الأطماع الداخلية القبلية والخارجية الاستعمارية. لقد تأثر الطهطاوي بما يقوم به محمد علي، سواء بما يتعلق بتحديث الجيش، أم بما يقوم به من تحديث في كل المؤسسات المجتمعية.
- بدايات التعاون بين مصر ولبنان في عهد محمد علي
قبل الدخول في الحديث عن التفاعل الثقافي بين مصر ولبنان، لا بدّ من الحديث عن التعاون الاقتصادي والعلمي ببن لبنان ومصر، "وقد يكون لبنان في التاريخ القديم والوسيط والحديث صورة لمصر للتعبير عن طموحاتها الخارجية"، يتحدث المؤرخ بولس قرألي (Paul Paolo Carali/ ؟ - 1952م)[i] في مذكراته التي نشرت في "المجلة السورية" العام 1927 عن هذا الدور، موضحًا أنه رافق حملة نابليون على مصر نخبة من الإداريين والمهنيين اللبنانيين، وللصدف عندما فشلت الحملة الفرنسية التحق هؤلاء جميعهم بمحمد علي... وكان باكورة التعاون بينهم أن طلب محمد علي في العام 1813 استحضار جالية لبنانية خبيرة بزراعة التوت لاستخراج نسيج الحرير وتطويره.
كان من نتيجة هذه الدعوة أن ذهبت إلى مصر ثلاثون أسرة أغلبها من قرية ذوق مكايل، وتم انزال هذه العائلات في بهتيم وشبرا الخيمة. فغرست هذه الأسر شتول التوت، واشتغلت بتربية دود القز واستخراج الحرير. ثم إن محمد علي، بعد أن رأى نجاح المشروع وتحقيق الهدف، أمر بالتوسع، واقتطع للبنانيين العاملين فيه أربعة آلاف فدان في الوادي الشرقي، وأمر بحفر ألف ساقية للغرض نفسه.
اشتغلت هذه الأسر (التي تضاعف عددها عدة مرات)، في هذا القطاع إلى آخر عهد محمد علي، وفيما بعد استقرت في مصر. ويلحظ قرألي أن خطار زيدان قد وثق ما قامت به هذه الأسر التي يقول إنها غرست سبعين ألف شجرة توت، وأن المعلم حنا النصراني كان عنده في شبرا 64 ألف اقة حرير، في حين بلغ عدد الأشجار المزروعة في مصر ستة ملايين شجرة، وبلغ الانتاج منه خمسين كنتالا.
كما توجه اللبنانيون لزراعة أشجار الكرمة لتصنيع النبيذ، وساهموا في زراعة الأرز فبلغ الانتاج 250 ألف هيكتولتر صُدّر منها الثلثان إلى الخارج، وبلغ إنتاج منطقة رشيد فقط مائة وعشرة آلاف اردب. كذلك ساهم اللبنانيون بزراعة الحلبة والذرة فبلغ الانتاج منهما العام 1834 أحد عشر مليون هكتولتر... كان لنجاح هذه المشاريع دور في توثيق العلاقة بين محمد علي والجالية اللبنانية.
يؤكد المؤرخ قرألي في مذكراته، أنه قبل احتلال نابليون لمصر لم تكن في مصر مطبعة، لكن عند فتح مدينة رومية استولي على المطبعة الشرقية الني كانت تابعة لإحدى الكليات. لكن عند مغادرة الفرنسيين لمصر، واستتباب الأمر لمحمد علي، أمر محمد علي بارسال نقولا المسابكي إلى ايطاليا ليدرس صناعة سك الحروف، ولما عاد من ايطاليا أنشأ له محمد علي مسبكا في بولاق وكلفه بإدارته. وقد أصبح في ما بعد، الأساس للمطبعة الأميرية.[ii]
أما المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي (1753 – 1825م)[iii] فيذكر في كتابه المدعو إلياس جبارة النقاش اللبناني المسيحي من دير القمر الذي عرض على محمد علي مشروعًا لسكّ النقود، فارتاح محمد علي لهذا الاقتراح وعيّنه بوظيفة أمين القربخانة.
ويتحدث قرألي عن راهب عينته الحملة الفرنسية ترجمانا على مصر سنة 1798، إلا أنه انتقل في ما بعد، لخدمة محمد علي، وقد أسهم هذا الراهب في تحديث الثقافة الطبية وتطويرها وترجم القاموس الصغير، كما ترجم لاحقًا كتاب القوانين المتعلقة بصناعة الحرير. وصدرت هذه القوانين عن مطبعة بولاق، كما نشرت لهذا الراهب أعمال أخرى.
ويذكّر قرألي بدور بعض النخب اللبنانية الأخرى، فيقول: إن محمد علي كان قد كلف الطبيب كلوت بك بإدارة كلية الطب، فاعترضته مصاعب جمّة مثل جهل التلاميذ باللغة الفرنسية، أيضًا عدم وجود كتب مدرسية طبية.
لذا استعان كلوت بك بالترجمة لالقاء الدروس الطبية، ثم ترجم بعض الكتب ونقلها إلى العربية. وكان مما ساعده في ذلك يوسف فرعون المسيحي الذي نقل إلى العربية أحد عشر كتابًا طبيًّا. كما ان يوحنا العنجوري وأوغسطين سكاكيني، وجورجي فتّال من لبنان، ترجموا العديد مـــــن الكتب الطبية، وشاركــــــوا فــــي وضع المناهج التي يحتاجها الطلاب في كلية الطب.
ويوضح بولس قرألي الذي اعتمد في ما كتبه، على تاريخ الجبرتي ومصادر أخرى وشهود عيان عايشوا تلك المرحلة، أن حنا بحري كاتب يد إبراهيم باشا قد كلفه إبراهيم باشا حين إرسال الحملة إلى سوريا ولبنان، باستطلاع المنطقة المراد السيطرة عليها من قبل الجيش المصري، والتمهيد لذهاب الحملة العسكرية إلى سوريا، أيضا كان لمحمد علي حليف راسخ هو الأمير بشير الثاني الشهابي الكبير (1788 – 1840م).
ويذكر سليمان أبو عز الدين (ابن ضهور العبادية - لبنان) أن إبراهيم باشا عيّن بحري دفتردارا لعموم سورية، كما فوّضه بالقيام بالأعمال المدنية والتجارية.
هذه بعض اسهامات اللبنانيين الذين احتضنتهم مصر من ظلم الخلافة العثمانية.[iv] ويلاحظ المتابع لسياسة محمد علي وولده إبراهيم أن ما قاما به من اجراءات أدت إلى فصل الدين عن الدولة، ونزعت من يد الأوروبيين ما يمكن تسميته بحماية الأقليات الدينية التي أعطاها الباب العالي للإنجليز والفرنسيين، فمحمد علي أعطى الثقة الكاملة لهذه الشرائح المجتمعية، ما جعلت ولاءها كاملا لمصر ولمحمد علي من دون سواه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق