Al-Hadatha Journal: 31 years of communication - Welcome to the site (under construction). Here we publish Abstracts of research

بحث - Search

مجلة الحداثة: 31 عامًا من التواصل - أهلا بكم في الموقع الترويجي (قيد الانشاء) ننشر هنا ملخصات عن الأبحاث

المشاهدات

مراجعات : المثقفون العرب نحو "انتفاضة كبرى"

سعد محيو - مجلة الحداثة

سعد محيو *


"أفرزت انتفاضات 2010-2011 عدوى احتجاجات أظهرت، على الرغم من احتضار العروبة، أن المواطنين العرب ما زالوا يتشاطرون ليس لغة واحدة وثقافة واحدة فحسب، بل نوعًا من الهوية السياسية المشتركة أيضًا".
لو جاء هذا الكلام على لسان مفكر أو سياسي عروبي، لأعتُبر ذلك مجرد نوستالجيا أو ثرثرة رغائبية فوق الأطلال. لكن الأمر ليس كذلك: فالمتحدث هو المركز الرئيس لصناعة القرار السياسي والفكري والقيادي في الولايات المتحدة: مجلس العلاقات الخارجية (عبر مجلة "فورين أفيرز"- عدد آذار/ نيسان 2022- ص 14).
حين يُطل هؤلاء على العروبة على هذا النحو، أي إنها حيّة وتركل عبر "العدوى" في كل المنطقة العربية، على الرغم من اعتقادهم أنها كانت في "حالة احتضار"، فهذا يعني حتمًا أنهم فوجئوا تمامًا بهذا الحدث، بالقدر ذاته الذي كان هذا التطور بالنسبة إلينا بمثابة تأكيد موضوعي لما هو مؤكد: مفهوم العروبة وُجد ليبقى، وسيبقى تاريخيًّا، وثقافيًّا، وهوياتيًّا، وأيضًا سياسيًّا على الرغم من حقبة الكساد الأخلاقي والانهيارات السياسية التي تجتاح الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه.

حصيلة دقيقة؟

أجل. لكنها خطيرة أيضًا، لأنها ترتّب على المثقفين العرب بالتحديد، وأكثر من أي فئة أخرى بما فيها النخب السياسية والدينية والاقتصادية، مسؤولية ضخمة لاطلاق مشروع وعي جديد في المنطقة يستند أولًا وأخيرًا إلى تحديث فكرة العروبة وتطويرها واستنهاضها، خاصة بعد أن أثبت انفجار المنطقة، من الهلال الخصيب إلى اليمن وشمال إفريقيا، أن أحد العوامل الرئيسة لهذا الانفجار هو غياب أو تغييب الهوية العربية الموحَّدة والموحِّدة.

لكن، عن أي عروبة تحديثية نتحدث هنا؟

ليس عن عروبة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والاعتراف بالخصوصيات القطرية والتكوينية لكيانات الدولة العثمانية وسايكس بيكو، والانفتاح على كل مكونات الحضارة الإسلامية والمشرقية المتوسطية فحسب، بل العروبة التي تعانق الثورات الهائلة التي تجري الآن على قدم وساق في كل أنحاء العالم أيضًا والتي ستغيّر (عبر العولمة والثورة التكنولوجية الرابعة) وجه التاريخ ومستقبل الجنس البشري على كوكب الأرض، ولن يصمد أمام تسونامياتها سوى أصحاب الهوية الحضارية المكينة والواثقة من نفسها. والحال اننا بتنا قريبين بالفعل، وللمرة الأولى في التاريخ البشري، من نقطة تحوّل "نهائية" حقيقية هذه المرة. وهذا يعني أن الهوية العربية المتجددة يجب أن تكون في آن قومية محلية وأممية عالمية، أي تعترف بقرب ولادة التاريخ الجديد وتقرر أن تكون مساهمة فيه وليس على مائدة طعامه.
وهكذا، إما أن نكون عروبيين عالميين (أو أمميين)، أو لا نكون. إما أن نتجرّد من كل عدة الشغل المحلاوية السابقة في كل المجالات الثقافية، والشعورية، والاقتصادية الاجتماعية، أو نسقط من جاذبية الكرة الأرضية لنهيم في فضاء بهيم لا قرار له.
العالم الذي عرفناه طيلة عشرة آلاف أو سبعة آلاف سنة يكاد ينقرض. والعالم الجديد الذي يوشك أن يحلّ مكانه لن يكون امتدادًا له، بل قطيعة عنه. لن يكون تتويجًا له، بل ربما قتلًا له:
لا الزراعة ستبقى هي الزراعة، بعد أن تنتقل (وهي بدأت تنتقل) من الأرض والتربة إلى المختبرات والمعامل العلمية، ومن أيدي الفلاحين والمزارعين إلى أحضان علماء الجينات والبيوتكنولوجيا وشركات الفارماكولوجيا، ولا الصناعة بشطريها الكلاسيكي والمتطور المعلوماتي ستبقى كما هي ولن يعمّر أي نوع فيها لسنة أو أقل (هو العمر الافتراضي"الراهن" لأي جيل من أجيال العقل الالكتروني) فتحلّ مكانها صناعات أخرى أكثر تطورًا معلوماتيًّا. كما أنها ستكون هي "سيدة نفسها" فتعيد انتاج ذاتها، وتصلح أعطالها، ولن تكون في حاجة إلى "إله بشري" يخلقها أو يوجهها أو يعلّمها.
لا العمل سيبقى هو القيمة، أو حتى سيبقى على قيد الحياة، ولا بالطبع العمّال، وسيكون على كارل ماركس (Karl Marx) وباقي الاقتصاديين من كل الأشكال والأنواع أن يبحثوا عن محرّك جديد للتاريخ.
أما عن الحياة الاجتماعية الجديدة للبشر، فحدّث هنا ولا حرج:
فالرجل، كـ"ربّ أسرة"، لن يبقى "رجلًا" ولا بالطبع "ربًّا" للأسرة، بعد أن يتم "تأنيث" العمل ونقله إلى المنزل بدل المكاتب والمصانع، جنبًا إلى جنب مع المرأة. وهذا سينسف أسس الصفقة التاريخية التي أبرمها العصر البطريركي المديد، التي يوفّر بموجبها الرجل المأكل والمشرب والمأوى للمرأة وأطفالها، فيما تقدّم هي له مقومات الحياة التناسلية والمنزلية. هذا التطوّر كان يجري على قدم وساق وإن ببطء طيلة مائتي سنة المنصرمة، مع دخول المرأة سوق العمل وتصاعد نشاط الحركات النسوية. لكنه مع التغيرات الكاسحة الجديدة في طبيعة العمل والاقتصاد والتطورات التكنولوجية، سيؤدي (وهو بدأ يؤدي) إلى تمزقات اجتماعية كبرى في جلّ المفاهيم والقيم الاجتماعية المتعلّقة بالأسرة، والعلاقات الجندرية، والقيم الأخلاقية والجنسية. لا بل حتى هذه الحصيلة تعتمد بالطبع على احتمال تمكّن الرجل من الحصول على عمل وإن منزلي وجزئي ومؤقت، إذ إن ثورات الأتمتمة وحلول البشر الآليين مكان العمّال البشر، وخسارة مئات ملايين الفلاحين والمزارعين لفرص العمل، قد يحيل قريبًا ثلاثة أرباع البشرية إلى عاطلين من العمل كليًّا أو جزئيًّا. وهنا ليس بالمستطاع قطعًا تصوّر، مجرد تصوّر، الانفجارات والأزمات الضخمة التي قد تشهدها حينذاك معظم المجتمعات البشرية على كل الصعد الاجتماعية والقيمية والصحيّة (بشطريها العضوي والنفسي)، خاصة منها عالم الدول النامية الذي يشكّل ثلثي البشرية والذي تنتمي منطقتنا إليه.
إلى جانب هذه الاضطرابات الاجتماعية الكبرى، قد تبرز اضطرابات سياسية لا تقل خطورة. فعظم الدول ستكون عاجزة عن تلبية حاجات مواطنيها لمساعدتهم على التأقلم مع الانقلابات الاقتصادية- التكنولوجية الهائلة. وهذا سيحدث أولًا وأساسًا في دول العالم الأول الغربية التي شهدت منذ معاهدة وستفاليا 1648 (Peace of Westphalia) ولادة مفهوم الدولة- الأمة، التي حلّت بالتدريج مكان العناية الإلهية في توفير الأمن والغذاء ثم الرفاه لمواطنيها بهدف توفير الأيدي العاملة "الصحية" والأسواق للرأسمالية النائشة، بعد أن كانت الدولة في المجتمعات الإقطاعية السابقة تعتمد سياسة السيطرة والاخضاع بالقوة وحتى الابادات لرعاياها.
الآن، ومع الفقدان المتواصل للدول- الأمم لسلطاتها وقدراتها، يُرجّح أن تعود معظم فئات العديد من مناطق العالم إلى صيغة من صيغ القرون الوسطى الخاصة بمفاهيم السيادة والأمن والاقتصاد، سواء المحلية منها أو الإقليمية، فيما تندمج قلة قليلة فيها في النظام العالمي المتعولم وتدمن على الرضاعة من ثدي العولمة بدلًا من ثدي أوطانها القومية. وحينها ستكون مفاهيم شاملة من طراز القومية وطبيعة الدين، ومعنى الحضارة، وحتى فلسفة الوجود، على بساط التشريح والشكوك العميقة، إذا لم تستطع هذه المفاهيم تطوير ركائزها وتحديث توجهاتها. وهذا ما قد يتسبّب بفوضى فكرية لم يسبق لها مثيل في التاريخ، خاصة إذا ما عجزت العولمة الرأسمالية، أو الأديان الكبرى، أو الفكر الاشتراكي- الإيكولوجي، أو العولمة البديلة عن طرح وعي كوني جديد وهوية حضارية عالمية بديلة تكون قادرة على الحلول مكان الهويات التي ستتناثر أشلاء في العالم.
لكن، حتى إذا ما نشأت هذه الهوية العالمية الجديدة، فإن العلماء والأنثروبولوجيين يتوقعون نشوء هويات جديدة إلى جانبها من نوع لم يعرف التاريخ له مثيلًا من قبل، على غرار "الذات الوسطانية- Mediated – (المعتمدة على الميديا الإلكترونية)، والذات السايبورغية (Cyborg) التي هي مزيج من الإنسان والآلة، والذات المتبطّلة (غير العاملة التي تعيش على عوامل التسلية)، والذات الافتراضية (التي تعتاش على الحقيقة الافتراضية)، والذات المتحوّلة (حيث تغيّر جينات الفرد قبل أن يولد)، وبالطبع الذاتيات الطائفية المذهبية والإثنية العتيقة التي قد تستخرج من القبر.
هنا يدخل الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence- AI) على الخط ليستكمل اقتحام التكنولوجيا لكل مجالات الحياة البشرية، وليُحدث تحوّلات تاريخية ضخمة في المجتمع والاقتصاد والسياسة العامة والسياسات الخارجية، بشكل يتجاوز قدرة أي مفكر أو باحث أو سياسي محترف بمفرده على إدراك ما يجري أو مجرد الإحاطة به.

الذكاء الاصطناعي

تعريفًا، ليس صناعة أو منتجًا منفردًا، بل هو أشبه بموجة عاتية تخترق العديد من الصناعات وأوجه الحياة الإنسانية: من البحث العلمي والتعليم والثقافي والفن إلى التصنيع واللوجستيات والنقل والدفاع وتطبيق القانون والإعلانات والحروب السيبرانية. وهو بسبب ما يتميّز به من التعلّم الذاتي، والتطور السريع، والمفاجآت، سيكون قادرًا على تغيير الهوية البشرية نفسها ومعها فهم الإنسان لطبيعة الحقيقة الموضوعية على مستويات لم نختبرها منذ فجر العصر الحديث، خاصة بعد أن أعلن عمناويل كانط (Immanuel Kant) وكوكبة أخرى من الفلاسفة الحديثين (كما الأقدمين) عجز العقل البشري ذي الأبعاد الثلاثة عن إدراك كنه "الشيء في ذاته" أو الحقيقة الموضوعية.
بكلمات أوضح: الذكاء الأصطناعي سيكون قادرًا، بعد التطوير القريب للكومبيوتر الكمي وكومبيوتر الحمض النووي، على تقديم صورة للعالم الخارجي من شأنها قلب مفاهيم البشر ومدركاتهم عن الحقيقة رأسًا على عقب. وحينها قد يكون هناك حقًا "نهاية للتاريخ".

أي تاريخ؟

بالطبع، تاريخ البشر الذي يخشى الآن العديد من الباحثين أن يصبح جنسًا "لاغيًا ومندثرًا" ذهب ريحه وانتهى دوره على كوكب الأرض.
بيد أن عمليات الانقطاع التاريخي هذه لن تتوقف هنا. فإلى جانب الانقلابات الشاملة، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا وقيميًّا، سيكون هناك تطور أخطر بكثير وأقرب إلى الزلزال منه إلى الانقلاب، وهو تحرّك العلم والتكنولوجيا، أساسًا عبر هندسة الجينات والبيوتكنولوجيا أو التكنولوجيا الحيوية، نحو تغيير طبيعة الإنسان نفسه.
هذا المشروع، الذي يعمل الآن من أجله كم هائل من الدول والشركات والعلماء والمنظمات السرّية وغير السريّة، يستند إلى فكرة بسيطة للغاية وواضحة للغاية: تطوّر الإنسان وفق قانون الانتخاب الطبيعي الدارويني، يحتاج إلى ردح طويل من الزمن. لكن الآن ومع التقدم الهائل للعلم والتكنولوجيا، بات بإمكان الإنسان أن يتحكّم للمرة الأولى في التاريخ بعملية تطوره الخاص، بدلأ من انتظار الانتخاب الطبيعي البطيء الذي توقف أساسًا لدى الإنسان بسبب انتهاء مراحل العزلة لدى البشر والتي هي الشرط الرئيس للتحولات التطورية.

لكن كيف ستتم عملية التطوير الذاتية؟

ليس من خلال القيم العليا والفلسفات الروحانية التي يمكن أن ترتقي بالوعي البشري من الوعي الماكيافيلي الموروث من العصور الحجرية والقائم على صراع البقاء وحرب الجميع ضد الجميع، بل عبر تزويج خليّة السليكون بالخليّة الحيّة، والميت بالحي، والمادي بالعضوي، وبالتالي استيلاد مخلوقات جديدة تُدعى السايبورغ (Cyborg) التي ألمعنا إليها أعلاه: نصف آلة ونصف إنسان. مثل هذه المخلوقات ستكون فائقة الذكاء، بسبب تقاطع قدرات العقل البشري مع إمكانات العقل الإلكتروني اللذين سيندمجان ببعضهما البعض، مما سيجعل هذه الكائنات أشبه بآلهة الإغريق، أو هي ستتحوّل إلى ذكاء رقمي يسبح في الفضاء السيبراني وفي كل الكون، أو تكون قادرة على البقاء على قيد الحياة طويلًا بصحة كاملة، إن لم يكن إلى الأبد.
أرباب العولمة الرأسمالية يرسمون صورة زاهية لعالم جديد تقوده التكنولوجيا نحو البحبوحة والتطور السريع والولوج إلى عوالم قد لا تخطر على بال. لكن في مقابل هذه الصورة الزاهية والجميلة، يرسم نقاد العولمة الرأسمالية والتكنولوجيا المنفلتة من عقالها من دون ضوابط إنسانية- أخلاقية وتنظيمات قانونية جديدة، صورة مغايرة تمامًا.
يقول هؤلاء إن السيطرة الفعلية للآلات على حياة البشر، كما يحدث الآن، يعني إخضاع الجنس البشري إلى النزعة المادية المطلقة التي سبّبت طيلة القرون الخمسة الماضية سلسلة الكوارث المفجعة في التاريخ البشري، من الابادات الجماعية والحروب العالمية المتواصلة، إلى وقف تطور مسيرة الضمير، والأخلاق، والقيم الروحانية المتسامية (التي تعني هنا وحدة الوجود وكل الكائنات). وعلى الرغم من أن هؤلاء النقاد لا ينفون إيجابيات هذه النزعة المادية، بخاصة في مجالات التطور العلمي وبروز مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنهم يحذرون من أن هذه المكاسب باتت كلها عرضة إلى التقويض بفعل الصعود الكاسح لرأسمالية عالمية يدمغونها بالتوحش.
هذا التخوّف لا يقتصر على التيارات اليسارية والديمقراطية والبيئية، بل هو يجري أيضًا على ألسنة عتاة الفكر الرأسمالي الذين يُعدّون "الجناح المتنوّر" في المعسكر الرأسمالي.
فها هو، مثلًا، كلاوس شفاب (Klaus Schwab)، مؤسس المنتدى الإقليمي العالمي (أهم ملتقى تخطيطي وفكري للعولمة التكنو- رأسمالية) يرفض في كتابه الأخير: "السردية الكبرى" ما أسماه “عقلية يوم الآخرة التي تحيل البشر إلى مستقبل اندثاري وانقراضي"، لكنه يسجل في الوقت نفسه المخاوف الآتية:
- مخاطر تسارع الأتمتة والروبطة والابتكار، وتفاقم التفاوت وعدم المساواة، وتزايد سلطة التكنولوجيا والتجسس، والتراجع النسبي عن العولمة، والتفكك المتزايد للمشهد الجيوسياسي، وتآكل البيئة، والأوبئة، والجرائم السيبرانية.
- وباء كوفيد جاء في وقت كانت اقتصاداتنا ومجتمعاتنا غير مؤهلة لمجابهة التحديات التي برزت أمامنا، حيث المشهد الجيوسياسي والتكنولوجي يعاد تشكيله بطريقة ستجعلهما غير مفهومين لنا خلال حفنة سنوات، وحيث بيئة الأرض على شفير كارثة بات معها تغير المناخ خطرًا وجوديًّا، وحيث الأزمات على أنواعها تنفجر كلها دفعة واحدة ما يجعل الحقبة الراهنة من التاريخ فريدة من نوعها.
بيد أن كل هذه الأزمات بالنسبة إلى شفاب هي مجرد "مفعول به" يفتقد إلى "فاعل". وحين يأتي دور هذا الفاعل، وهو بالطبع التكنو- رأسمالية، يعترف بأن الطبقة الرأسمالية لن تكون بأي حال مستعدة لإنقاذ الحياة على كوكب الأرض من التدهور البيئي، لأن الانتقال من اقتصاد الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة سيكلف ما بين 100 إلى 300 تريليون دولار. وبالتالي، فهو يدعو الحكومات، أي دافعي الضرائب، إلى تحمّل هذه التكلفة وحدهم. وكما في مجال البيئة، كذلك في مسألة اللامساواة العالمية. فشفاب يعترف بأن العولمة زادت ثروات الـ1% الممسكين بزمام الثروات والسلطة والمعرفة، فيما ثلاثة أرباع البشر يرتعون أكثر في لجج الفقر. ومرة أخرى، الفاعل هنا مجهول، والمخرج يحال إلى صيغة ضبابية حملت الشعار الفضفاض "إعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين".
أما بالنسبة إلى التكنولوجيا، خاصة في مجالي الذكاء الاصطناعي والبيوتكنولوجيا اللذين يمسك بكل تلابيبهما طبقة الواحد في المئة الرأسمالية، فلا يجد شفاب حلًا سوى التحذير من أن غياب الضوابط القانونية والأخلاقية "سيدفع بالجنس البشري إلى سباق تسلّح جيني (ورقمي) قاتل".
صاحب "نهاية التاريخ" فوكوياما (Fukuyama)، وعلى الرغم من إيمانه المطلق بالمادية الرأسمالية الغربية الصلدة، لم يسعه تجنّب الإفصاح عن رعبه وهو يتابع تطور حركة الترانس هيومان (ما بعد الإنسان):
"لا أحد يعرف أي "احتمالات تكنولوجية ستنبثق من التعديل الذاتي للجنس البشري. لكن الحركة البيئية على حقّ حين تعلّمنا ضرورة التواضع واحترام وحدة الطبيعة. نحن في حاجة الآن بالفعل الى تواضع مماثل في ما يتعلق بالطبيعة البشرية. وما لم نفعل، سنكون قد أفسحنا في المجال أمام ما بعد الإنسانيين (الترانس هيومان) لتشويه البشرية ومسخها بجرافاتهم الجينية".
هذه بعض ملامح العالم الجديد، عالم الانقطاع التاريخي إذا جاز التعبير، الذي بدأ يولد تحت أعيننا مباشرة الآن. وهو كما أسلفنا، عالم لن يبقى فيها على قيد الحياة سوى أصحاب الهوية الحضارية المتطورة القادرة وحدها على الصمود والمشاركة في صياغة عالم جديد يفترض أن يكون متعدد الحضارات (بعد التراجع المتواصل للسيطرة الغربية على العالم وصعود نجم الحضارات القديمة في شرق آسيا وجنوبها).
بالطبع، لن يستطيع فرد واحد أو حتى مجموعة محدودة من المفكرين العرب صياغة هذا الرد الحضاري الكبير، بل سيحتاج الأمر بالفعل إلى بلورة "عقل جماعي عربي" يعانق عصر الذكاء الاصطناعي والعولمة، في الوقت ذاته الذي يعيد فيه بناء الصرح الوطني العربي على أسس جديدة وحديثة.

هاكم هنا بعض الأفكار:

- تحويل هيئة الحوار العتيدة بين المثقفين العرب إلى مؤسسة رسمية دائمة لها فروع في كل الوطن العربي، بالتنسيق مع جامعة الدول العربية وباقي الهيئات الإقليمية والمجتمعات المدنية العربية.
- تعمل هذه المؤسسة على تحرير المثقف العربي الحر من شتى القيود التي تكبّل حركته واستقلاليته، كي يستطيع وضع فكره وممارسته في خدمة قضية العروبة الجديدة. ومثل هذه المهمة الجليلة تتطلّب بذل كل الجهود مع كل/ وأي طرف أو مؤسسة في الوطن العربي ملتزمة بمسألتي الهوية والنهضة العربيين.
- يكون على رأس مهام مؤسسة حوار المثقفين نشر الوعي بين المواطنين العرب حول الحقيقة بأن غياب أو تغييب العروبة بكل مندرجاتها الحضارية والاستراتيجية كان أحد الأسباب الرئيسة للكوارث التي حلّت بالأقطار العربية وأدّت في خاتمة المطاف إلى شرذمتها طائفيًّا ومذهبيًّا، ما سمح للمباضع الدولية والإقليمية بالتدخل لبسط سطوتها ونفوذها.
- كذلك، ينبغي التوضيح أن استنهاض العروبة مجددًا على كل الصعد الحضارية والاستراتيجية والاقتصادية، لا يعني البتة عدّ الكيانات الأخرى للحضارة الإسلامية، من أكراد وأتراك وإيرانيين وغيرهم، هم الضد أو الأعداء الذي تتشكّل الهوية العروبية على أساس العداء لهم، بل العكس هو الصحيح: حيث سيكون من مصلحة العروبة الجديدة إعادة بناء نظام إقليمي جديد في المشرق المتوسطي على قدم المساواة بين كل مكوناته وعلى أسس الديمقراطية والتعاون الخلاق والحريات العامة.
- العمل على نشر الوعي بين المواطنين العرب حول حقيقة أخرى، هي أن مشروع التكامل العروبي هو المدخل الوحيد أمام كل العرب لولوج عصر الذكاء الاصطناعي والتوحّد الاقتصادي العالمي، وإلا سيكون 400 مليون عربي على لائحة التهميش النهائي وربما حتى أيضًا الإبادة الحضارية والجسدية.
- العمل على طرح حلول لـ"المسألة اليهودية" في إطار البوتقة العروبية الحضارية الجديدة، كبديل من العنصرية الصهيونية، وكمدخل لاستعادة كل فلسطين إلى الحضن العروبي.
- سيكون على رأس الأولويات أيضًا قيام المثقفين العرب بحملات واسعة النطاق لتوضيح مخاطر تغيّر المناخ وتلوث البيئة، وضرورة العمل من الآن على إيجاد مخارج وحلول لها، بالتعاون مع كلٍّ من الشعوب الإقليمية المجاورة كما مع الأطراف المنتمية للحضارة المتوسطية في جنوب أوروبا.
ختامًا، أمام المثقفين العرب قاطبة مهمة تاريخية ضخمة وجليلة في هذه المرحلة الفاصلة من التاريخ البشري، كما من تاريخ ثقافتنا وحضارتنا. والخطوة الأولى للقيام بهذه المهمة هي استعادة الثقة بأنفسنا وهويتنا وتاريخنا ودورنا الريادي التي تجسدها كلها فكرة العروبة الجامعة، تلك الفكرة التي اعترف حتى أعداؤها في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، بأنها لا تزال تنبض بالحياة والحيوية، وتنتظر الآن من يعيد رفع رايتها خفاقة في أرجاء وطننا العربي.

***

* كاتب لبناني


الحداثة (Al Hadatha) – س. 28 – ع. 221 – 222 - شتاء 2022 Winter

ISSN: 2790 -1785

ليست هناك تعليقات:

اقرأ أيضًا

تعليقات القرّاء

راسلنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تصنيفات وأعداد

Al Hadatha (975) أبحاث في الأدب واللغة (349) أبحاث في الثقافة الشعبية (245) أبحاث في العلوم الاجتماعية (179) أبحاث في الفنون (167) أبحاث في التاريخ (123) أبحاث في التربية والتعليم (108) أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية (77) أبحاث في علم النفس (61) مراجعات (59) أبحاث في الفلسفة (55) صيف 2019 (42) شتاء 2020 (38) محتويات الأعداد (38) خريف 2020 (37) ربيع 2020 (37) افتتاحية الأعداد (36) خريف 2019 (35) صيف 2020 (35) خريف 2023 (34) ربيع 2024 (34) شتاء 2024 (33) أبحاث في الآثار (32) الحداثة : أعلام (32) أبحاث في الإعلام (31) شتاء 2021 (31) خريف 2016 (26) شتاء 2017 (25) الحداثة في الإعلام (23) ربيع 2021 (23) صيف 2018 (23) صيف 2023 (23) نوافذ (23) خريف 2018 (22) ربيع 2022 (22) صيف 2017 (22) شتاء 2022 (21) خريف 2021 (20) ربيع 2017 (20) ربيع 2023 (20) صيف 2021 (20) أبحاث في القانون (19) شتاء 2019 (19) خريف 1994 (18) أبحاث في كورونا (covid-19) (17) صيف 2022 (17) خريف 2001 (16) خريف 2022 (16) شتاء 2023 (16) أبحاث في العلوم والصحة (15) ملف الحداثة (15) ربيع 2019 (12) شتاء 2000 (12) شتاء 1996 (11) شتاء 2018 (11) خريف 1995 (10) ربيع 2015 (10) أبحاث في الجغرافيا (9) خريف 2004 (9) صيف 1997 (9) خريف 2017 (8) ربيع 1999 (8) ربيع 2016 (8) ربيع وصيف 2007 (8) شتاء 1998 (8) شتاء 2004 (8) صيف 1994 (8) صيف 1995 (8) صيف 1999 (8) أبحاث في الإدارة (7) شتاء 1999 (7) شتاء 2016 (7) خريف 1996 (6) خريف 1997 (6) خريف 2013 (6) ربيع 2001 (6) شتاء 1995 (6) شتاء 2013 (6) صيف 2000 (6) صيف 2001 (6) صيف 2002 (6) خريف 1998 (5) خريف 2000 (5) خريف وشتاء 2003 (5) ربيع 1996 (5) شتاء 1997 (5) صيف 2003 (5) صيف 2009 (5) ربيع 2002 (4) شتاء 2011 (4) صيف 1996 (4) صيف 2008 (4) خريف 2003 (3) خريف 2009 (3) خريف 2010 (3) خريف 2015 (3) خريف شتاء 2008 (3) ربيع 1995 (3) ربيع 1998 (3) ربيع 2000 (3) ربيع 2003 (3) ربيع 2012 (3) ربيع 2018 (3) شتاء 2001 (3) شتاء 2010 (3) صيف 1998 (3) صيف 2005 (3) صيف 2010 (3) صيف 2014 (3) صيف خريف 2012 (3) العدد الأول 1994 (2) خريف 1999 (2) خريف 2005 (2) خريف 2014 (2) ربيع 2006 (2) ربيع 2011 (2) ربيع 2013 (2) ربيع 2014، (2) شتاء 2005 (2) شتاء 2012 (2) شتاء 2014 (2) شتاء 2015 (2) صيف 2006 (2) صيف 2011 (2) صيف 2013 (2) صيف 2015 (2) الهيئة الاستشارية وقواعد النشر (1) خريف 2011 (1) ربيع 2004 (1) ربيع 2005 (1) ربيع 2009 (1) ربيع 2010 (1) ربيع 2014 (1) شتاء 2007 (1) صيف 2004 (1) صيف 2016 (1) فهرس (1994 - 2014) (1) مجلدات الحداثة (1)

الأكثر مشاهدة