♦ علي محمود الموسوي*
- نبذة عن البحث
تبنّت الدراسات الّلغويّة مرّات عديدة، وابتداءً من "هردر" (Herder) و"فون همبولت" (Von Homboldt)، الموضوعة القائلة إنّ منظومة لغويّة ما تؤثّر في طريقة فهم أهلها للعالم، وفي طريقة تفكيرهم، لأنّنا نفكّر كما نتكلّم، ما يعني أنّ الّلغة التي تحدّد قدرتنا على الكلام، هي نفسها، التي تحدّد قدرتنا على التفكير. ويرى "هردر" أنّ الّلغة ليست أداة تفكير وحسب، بل هي القالب الذي يتشكّل فيه الفكر، لأنّ كلّ أمّة تتكلّم كما تفكّر، وتفكّر كما تتكلّم، وتختزن تجاربها، ومعارفها، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، في الّلغة. ويقول مثلَ هذا "دي سوسّير" (F.De Saussure)، إذ يقرّر أنّ كلّ لغة تحتوي على تصوّر خاصّ بها للعالم، لأنّ لغة جماعة بشريّة ما؛ جماعة تفكّر داخل تلك الّلغة وتتكلّم بها، هي المنظّم لتجربتها، وهي بهذا تصنع عالمها وواقعها الاجتماعيّ(1).
والعلاقة بين الفكر والّلغة ليس فقط لأنّ الأصل اليوناني للكلمة (logos) يُمكن أن يدلّ على الفكر أو على الّلغة (أو على كليهما)، بل أيضًا لأنّ المفهوم التقليديّ يجعل من الّلغة تجسيدًا للفكر (وبالتالي صورة له). وبذلك، ليس غريبًا أن يُطرح السؤال حول معرفة ما إذا كان يُمكن التفكير من دون لغة، أو التأكيد أنّه من دون الفكر لا وجود للّغة. هذا موقف تقليدي في التفكير الفلسفيّ، ولطالما أعاد علم النفس تداولَه(2).
وقد اعتنى العرب بلغتهم، فنجد أنّ علماء الّلغة القدامى عند العرب قد تنبّهوا إلى أهميّة جمع الّلغة وتدوينها في مصنّفات تحفظها من الضياع، وكانت أُطلقت كلمة "معجم" في الّلغة العربيّة على الكتب التي هدفت إلى جمع هذه الّلغة. وقد حاول أحد الباحثين تحديد الزمن الذي أطلقت فيه هذه الكلمة، ويمكن لمن أراد التوسّع في هذا المجال العودة إلى ما كتبه هذا الباحث(3).
كما أسهم العرب في تطوير علم الّلغة وإرسائه، في كثير من الأحيان، على أسس علميّة وطرائق بحث موضوعيّة ما زالت متّبعة في البحوث الّلغويّة الحديثة. وبرز العرب بشكل خاصّ في تصنيف المعجمات ودراستها(4)، فعرفوا التأليف في المعجم أوّلَ ما عرفوه في القرن الثّاني للهجرة بوضع الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت.175هـ /791م) معجمه الشهير "كتاب العين"، وكان في الّلغة العامّة، إذ الحاجة آنذاك كانت إلى جمع شتيتها أوّلًا، وتدوين الرصيد المعروف منها(5)، ولشرح غريب القرآن الكريم والحديث الشّريف(6).
وإنْ كان العرب قد اهتمّوا بوضع المعاجم اللّغوية لإحساسهم العميق بإعجاز القرآن، فهناك اهتمامات أُخر دفعتهم أيضًا إلى وضع تلك المعجمات، ومنها: أنّ القرآن الكريم، والحديث الشّريف يمثّلان المصدرَيْن الرئيسين للتشريع وسنّ القوانين في الدولة الإسلاميّة. والاختلاف في فهم لفظة من الألفاظ قد يؤدّي إلى عواقب وخيمة في هذه المجالات المهمّة. كما أنّ المعجمات تتعلّق تعلّقًا وثيقًا بالحضارة العربيّة، ذات العطاء الخصب للحضارة الإنسانيّة، وخاصّة في ما يتّصل بقيمة هذا التراث ومدى أصالته (7).
لا يعني هذا الكلام أنّ المعجمات كانت حكرًا على العرب، فكل مدنيّة تشجّع نوع المعجمات الذي يتلاءم وحاجاتها التي تنفرد بها دون غيرها. ففي الشّرق القديم، وُجِدت أقدم المعجمات المعروفة في وادي الرافدين لأسباب عمليّة؛ فقد واجه الآشوريّون الذي قدموا إلى بابل قبل حوالي ثلاثة آلاف عام صعوبة في فهم الرموز السومريّة، ورأى التلاميذ الآشوريّون أنّ من المفيد إعداد لوائح تحتوي على الكلمات السومريّة وما يقابلها بالآشوريّة. أمّا في الغرب، فانبثقت القوائم المزدوجة الّلغة في إنكلترا لسدّ حاجة تربويّة؛ فقد أعدّ المعلّمون تلك القوائم بالكلمات اللاتينيّة وما يقابلها بالإنكليزيّة لمساعدة تلامذتهم على فهم الكتب المدرسيّة التي كانت تدوّن باللاتينيّة. وشجّع الحماس القومي على ظهور الصناعة المعجميّة الأمريكيّة، فاندفع "نوح وبستر" (Noah Webster) إلى تأليف قواميسه بسبب استيائه من الجهل الذي كانت تعانيه المعجمات البريطانيّة حول المؤسّسات الأمريكيّة (8).
ولا يزال، حتّى عصرنا الحاضر، موضوع التأليف المعجميّ في الّلغة العربيّة يشغل المهتمّين؛ فقد لاحظ أحد الباحثين أنّه وعلى الرّغم من التراث المعجميّ الضخم الذي خلّفه علماء الّلغة العرب القدامى، وعلى الرّغم من جهد المحدثين، فإنّ الّلغة العربيّة لا تزال تعاني اليوم قصورًا معجميًّا واضح المعالم مقارنة بالّلغات العالميّة الحيّة. ومن أهم ملامح هذا القصور غياب معجم تاريخيّ للّغة العربيّة؛ الأمر الذي يمكن إنجازه بسدّ ثغرة هذا الغياب، ومواكبة تطوّر الّلغة العربيّة، علاوة على استيعاب هذه الألفاظ في مدوّنة لغويّة واحدة. ورأى أنّ هذا الإنجاز سيسهم في الارتقاء بالّلغة العربيّة إلى مصاف الّلغات العالميّة الحيّة التي تملك معاجم تاريخيّة متجدّدة كالإنكليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والإسبانيّة، والروسيّة... إلخ(9).
ومن أوجه جدوى إنجاز هذا المعجم التاريخيّ للّغة العربيّة، توفير عدد من المعاجم الفرعيّة التي تفتقر إليها المكتبة العربيّة، مثل المعجم التاريخيّ لألفاظ الحضارة (الصناعات، والحِرَف، والعمارة...)، والمعاجم التاريخيّة لمصطلحات العلوم(...)(10).
ويبقى أن أشير، في نهاية هذا المدخل، إلى أنّ المعجم قد سمّي باسم آخر هو "القاموس"، الذي جاء من تسمية معجم "الفيروزآبادى" بـ"القاموس المحيط"، ومعناه البحر المحيط، أي الواسع الشّامل. ولمّا كثر تداول هذا المعجم في أيدي المتأخّرين، اكتفوا بتسميته بالقاموس. وقد أصبح هذا الاستعمال مرادفًا لكلمة معجم لغويّ، يشمل المعاجم الّلغوية المتقدّمة والمتأخّرة (11).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق