♦ فرحان صالح - رئيس التحرير
ترتبط روحية الشعوب بأساطير وحكايا مشتركة، وإن كانت هذه تتكامل وتتشارك لترسم صورة خاصة لشخصية الشعوب في هذا الكون الذي يضم الجميع. التشارك هذا يتماثل ويتكامل كما الزمن الذي تعطيه تقلبات الليل والنهار معناه وتراكماته، ومن دون تلك التقلبات يبقى الزمن من دون تاريخ، وتبقى الصفحات مسطحة، فإما بيضاء بيضاء، وإما سوداء سوداء، أو ما بينهما من ألوان متنوعة. الاتصال والانفصال بين ليل ونهار من الأبواب التي تفتح صفحات الزمن، وبالتالي أبواب ما نسميه التاريخ. والأسطورة بتقلباتها وتحولاتها سواء جاءت على ألسنة البشر أو الحيوانات، تبدو مسطحة، إذ لا زمن لها، وقد تصل منها نتف مبعثرة قابلة للتأويل ولتعددية القراءات التي يحاول البعض استخلاص معانيها والعبر منها.
أسطورة "ديوك السماء" من تلك الأساطير التي وصلت إلينا مبعثرة، وكان على من يريد تفسيرها أن يفكّ العديد من مكوناتها كلمة كلمة، تمامًا كالكلمات المتقاطعة. "وديوك السماء" ما هي سوى المزود "لديوك الأرض" بتعاليم أزلية تمليها عليهم تعاليم آلهة السماء المقدسة. فالآلهة التي توجه تلك الديوك بتعاليمها، هي من أعطت سرّها لديوكٍ أجنحتها موشاة بالزمرد والياقوت واللؤلؤ والمرجان، تفصل بين الليل والنهار، والخير والشر، والشرق الذي هو ذاته النهار في شمسه وضيائه وتحولاته، وبين الغرب بما هو الليل والعتمة، ذلك الليل الذي تسرح وتمرح في عتماته قوى الشر، تلك التي يفضح بعض من مخططاتها ونواياها القمر الذي يلاحق أسرارها الشريرة، أما جناحا تلك الديوك، فتعبير عن الصراع الأزلي بين قوى الخير والشر في الجسم الحي، خاصة أن قوائم تلك الديوك منغرزة في الأرض السفلى التي تخفي تحت سطحها النوايا الخيّرة والشريرة. وجناحا هذه الديوك في توازن قد تحسم خياراته تلك الغلبة التي تفصل عرف الديك برأسه عن أسفله من حاجات مجتمعية، ليترك الجسد مهزومًا من دون عقله حيث القرار (وما سيقر ليس سوى كلمة الله). والليل برهبته المدلهمة هو المأوى لقوى الشر، القوى تلك التي تدير مكائدها في العتمة، وهي التي ترى في صياح الديكة نذير شؤم يهدد مخططاتها.
قد يرمز صياح الديك اليوم إلى دور النقد والإعلام والتربية سواءً في فضح قوى الشر أو في التغطية على ما يخطط له العدو من مكائد. الديك يعلن بصياحه طرد تلك القوى من نهاراته التي يبشر بها وبالتالي فلا كذب، والديك في صياحه هو من يعلن النفير، وهو من يوقظ أهل الليل، معلنًا طلوع الشمس التي تساوي بين الجميع في عدلها، وليس كما الليل الذي تتحايل فيه قوى الشر على ضوء قمر باهت، يمكن عبره تمرير المخططات المشبوهة والشريرة.
ديك الفجر ينتصر كل يوم على أعدائه الذين يغتصبون ليلًا أرواح البشر في سكينتهم وأحلامهم.
لقد علل الأقدمون تلك الأساطير التي تعدّ صياح الديكة اعلان انفصال عن شرور ومخاطر واتصال بعوالم الخير والحبّ والحوار والتفاعل الإيجابي، مستندين في ما يقولونه إلى مرجعيات دينية - أي إلى تعاليم الغيب المقدسة - وإلى تعاليم دينية تبشر بها "الكتب المقدسة".
الأرض يوميًا يولد فيها ملايين الديوك الأرضية التي تأخذ تعاليمها من "ديوك السماء المقدسة"، تلك الديوك التي تولد صباحًا لتعود إلى جحورها مساءً لتحتمي من خطرٍ قد يتربص بها من القوى الشريرة التي لا تتحرك إلا ليلًا... والديك في صياحه وفي إعلانه انفجار الفجر الذي يزيل العتمة ليولد الضوء، يبدأ مسبّحًا بحمد الله قائلًا: "سبوع قدوس ربنا الله لا إله غيره"، وهو بذلك المؤذن الأول الذي أعلن إيمانه بأن لا إله إلا الله، والله ذاته في هذه الأسطورة هو من أرشد آدم حينما شكا إليه عدم معرفته أوقات العبادة، فما كان من الله إلا أن أنزل إليه ديكًا من الجنة، ديكًا أبيض اللون، فكان آدم إذا سمع صياحه يقوم ويجتمع مع الملائكة مسبّحًا وساجدًا لإله الأرض والسماء، مكررًا على ألسنة الديوك المنتشرة في أصقاع الكون تلك التسابيح "سبوع قدوس، ربنا الله لا إله غيره"، محددًا على "ألسنة آدم والملائكة الحارسة له" أوقات العبادة التي أخذت بها كل الديانات التي عرفتها البشرية.
الرمزية التي تحيلنا إليها هذه الأسطورة، تعطي معنى الخير لشمس أبدية تنتصر على العتمة، وعلى ظلم قد يسودان حينًا، إلا أنهما إلى زوال وانحسار مهما طال زمانهما.
الديك هنا في هذه الأسطورة، هو الرمز، والعدو الأول للقوى الشريرة، وهو الحافز لنهوض قوى الخير التي تنبعث ولاداتها من شمس أبدية لا تزول. وقوى الشر لا تترصد كمائنها البشر فحسب، بل الملائكة أيضًا، في ليل لا يمكن في عتمته التمييز بين ما هو أمامهم أو يبتعد منهم، وبالتالي فإن عدم التمييز يؤدي إلى الارتداد على ذوات خائفة تتخيل أن ما يحيطها يضمر لها الشرور ويستعد للانقضاض عليها في أية لحظة. وقد تكون الأسطورة الفارسية التي ترى أن الظلمة عنوان للشرّ، وأن النور عنوان للخير من الأمثلة الساطعة على ما نشير إليه، خاصة أن الحكايا الخرافية التي قد يكون ناسجوها قد صوروها عن أسطورة سبقت، تقول إن الغيلان تلاحق ديوك الأرض ليلًا، محاولة القضاء عليها والتهامها، لكن يأتي الفجر المحفز الأول ليعطي حياة جديدة للديوك المقدسة حيث ينتصر فيها الخير على الشر.
تتأكد في هذه الأساطير، الرمزية التي تؤكد أن الشرق لم يكن إلا رمزًا لقوى الخير وانه بيت للإيمان، وأن الغرب – الغراب -بتقنياته وعلومه غير المعروفة لشعوب الشرق، تقنياته التي يمنع تعميمها، ويوظفها ضد عوالم الشرق، ولالتهام خيرات الشرق التي تنزع منه، وبالتالي التهام غيلانه لديوك الشرق، كما تشير رمزية الأسطورة.
لقد عُدّت الديانات ذاتها، بأنها انفصال عن عتمة وتمجيد لنور إلهي جديد، وبالتالي لعقائد عرفتها البشرية في تاريخها القديم الحديث. هكذا هي حال اليهودية المؤسسة للتوراة، هذا الكتاب الذي يحوي عمليًّا التراث المشترك لشعوب وأقوام عرفتها المنطقة التي يتحدث عنها. إن أهمية ما قام به الآباء اليهود أنهم جمعوا هذا التراث، وأرخوا له ونسبوه إلى أنفسهم. وهذا هو حال التراث المجتمعي الذي كانت عليه فلسطين وما يحيطها أيضًا. كما أن مؤرخي الأناجيل كانوا قد جمعوا ما رواه يسوع المسيح عن التاريخ والتراث، وتخيلوه ونسبوه إليهم. وبالتالي فقد كانت المسيحية كما اليهودية من قبلها، إعلان انفصال عن ليل عرفته البشرية في تلك الأزمنة. وهكذا هو حال الإسلام، فهذا الدين وما سبقه من أديان، اعتقد أن صياح الديكة هو ذاته صوت وحي يأتي من السماء على لسان أضعف المخلوقات. والعربي ذاته قبل الإسلام، كان يعتقد بوجود قوى غيبية تفصل ما بين الخير والشرّ، على الرغم من أن القرآن الكريم لاحقًا، نزل من السماء كخلاصة لكل ما سبقه من أديان كانت معروفة في الجزيرة العربية. هذه الديانات وغيرها من تراثات مادية وغير مادية، على ما يبدو أنها زبدة مكونات الحضارتين الهيروغليفية والسومرية؛ وهما خلاصة حضارتي آسيا وافريقيا وعلاقتهما بالعالم القديم، حيث كانت المرأة سيدة الكون بآلهةٍ أرضية، قبل أن يسود الرجل بآلهته السماوية.
تلحظ تقسيمات علماء الاجتماع والتاريخ والآثار أن المجتمعات البشرية كانت قد مرت بمراحل وتحولات تاريخية، والمجتمع البشري اليوم هو خلاصتها، وتعبير عن التراكمات التي أضيفت. والبداية كانت من العصر المشاعي الذي نمت في أحشائه، بذور العبودية ومن ثم الاقطاعية لتأتي الرأسمالية والشيوعية.
وكما يبدو أن أسطورة "ديوك السماء"، كانت تتمظهر بشكل يحاكي المتغيرات التي كانت تطرأ في ظل ما يسمّى سيادة العصر "البطريركي"، ويمكن القول إن "عرفه" اليوم يتمثل بأميركا ومن قبلها فرنسا وإنكلترا، حيث تفرض "صياحها" على العالم، فهي تستعمل إنجازاتها العلمية لخدمة "الشر"، ساعية للسيطرة على خيرات الشعوب، والتهام ديوك الحياة، أي الأجيال الجديدة التي تطمح إلى التقدم والندية والمساواة والحوار.
نعم، هناك منزلة لثقافة حياة تتبدى في نهارات الصين المضيئة، فالصين، على الرغم من الملاحظات العديدة، مثال للخير والتعاون والحوار الإيجابي، أما أميركا وغيرها من دول رأسمالية، فلم ترسخ سوى الظلم وإلغاء الآخر.
ليل الشرق اليوم هو ليل القلق والتمرد على الظلم، وقد تكون الأحلام التي تحملها الأجيال الجديدة والتي عبّرت عنها مشاريع الثورات العربية، مؤشرًا لتحولات ولحركة حياة جديدة، وهذا ما تضمره "ديوك الحياة" التي خرجت من جحورها، فإذا ضحك المصنع بكى الجامع، وإذا انتشرت المدارس اضمحلت عصور الجهل والأمية، وانتصرت معها "ديوك الأرض" على رجال دين ما يقولونه عن العدل هم ذاتهم يمارسون عكسه.
إن ديوك الأرض أي الأجيال الجديدة، فبإيماءاتها، وتعاليمها التي اكتسبتها من تجارب الناس، سترسم صورة لإله مختلف يولد من رحم الأم الأولى، إله يقول بالخير والمساواة والحرية، ويواجه هذا الإله تشيؤ الإنسان والمجتمع والحياة، ويحدّ من ثقافة الاستهلاك والخنوع والاستجابة للغرائز. هذا الإله - الديك الجديد سيعلن نهاية الليل الأميركي، ليطلق النهارات مع الفلاحين والعمّال والطيبين المتسلحين بالعلم والعمل واحترام حقوق الإنسان والقانون.
هذه هي الرمزية الأزلية لصياح الديكة التي تقول "حي على خير العمل"، هذا النداء الذي حملته سواعد الأجيال القديمة، هو ما تم حذفه من قبل أنظمة ومؤسسات لا تريد للشعوب التحرر والعدل والمساواة، إنما البقاء تحت جناحي العبودية.
الزمن قاربٌ لضمان العبور إلى الضفة الأخرى، وصياح الديكة اليوم، ضمان لانفصال الليل عن نهارات كانت ولا تزال قوى الشرّ تحاول وضع العرب خارج التاريخ، ولعل المنتظر من ديوك الحياة – الأجيال الجديدة - هو رفع راية التمرد، فالحياة مستقر، وإن كانت ممرًا لضفة أخرى.
تقول بقية أسطورة "ديوك السماء": إن الفراعنة القدماء عدّلوا ذات مرة، التقويم الزمني فأصبحت سنتهم من 365 إلى 360 يومًا... لم يفهم المصريون السبب وراء هذا التعديل، لكن نخبهم زعمت أن إيزيس، آلهة كل البوابات، كانت قد خسرت الأيام الخمسة في لعبة قمار مع أحد كبار الآلهة. ومنذ ذلك الحين، كان يعدّ كل من يولد من الأيام الخمسة المحذوفة من التقويم الزمني الفرعوني، أنه مولود خارج الزمن، بل انه لقيط ومنبوذ وغير معترف به.
فهل حان أن تعيد الأجيال العربية – ديوك الحياة- أيام العرب المحذوفة؟