خديجة عبد الله شهاب *
سمائي فكرة والأرض منفاي المفضّل
محمود درويش
- نبذة عن البحث
الوطن ليس هو المكان المجرّد الذي ينمو في وعينا السياسي، بل هو المكان الحِسّيّ، الذي ندركه بالتَّماس مع حُبيبات تراب بنكهة الكرامة، ومع رائحة أرض بعبير الغار، وقد روتها دماء الشهداء والأبرياء. الوطن هو التفاصيل الصغيرة في حياتنا اليومية، وعلاقات الصداقة التي تنشأ بين أبنائه وأهله، هو مكتنز بالزمن وبعلاقات القربى مع الأشياء والإنسان، يرواده عن نفسه فيأتيه صاغرًا طائعًا.
يكتب الأديب مع الأرض المغتصبة قصصًا مأخوذة من قلب المعاناة، يضع أمامك حقائق بعيدة من التنميق والتزويق، يقدّم المعاناة مضافة إليها الثورة على بعض الواقع المتخاذل عن نصرة الأرض التي تعاني جرّاء احتلالها، وتدنيس ترابها، يفعل كلّ ذلك ليخلق لنا عالم الواقع اللائق بنا، حيث يُحترم وجودنا، وتستيقظ طاقاتنا الكامنة في دواخلنا، فتتآلف من أجل استعادة الأرض التي سُلِبت منا.
إذًا مع ثورة الأديب نشهدُ انقلابًا جذريًّا في العلاقات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إذ يبدع بلغته وأسلوبه، كما يبدع المقاوم ببندقيته، والأديب في هذا السياق "عامل من عمَّال الثورة لكنّه يعمل باللغة"([ii]) وبالقلم، ويتميّز بطرحه بين أيدينا صورًا عن التداخل والتَّلاحم مع الأرض.
لقد خرج أدباء هذه المرحلة- أي مرحلة ما بعد التحرير- من زمن الهزائم، راحوا يتكيّفون مع زمن الحرّية والانتصار، وأخذوا يعملون على تشكيل الوجدان الجماعي، ما يشير إلى أنّ تحولًا حياتيًّا حصل بالتزامن مع التحوّل الأدبي الذي أصبح معه "الأديب قادرًا على أن يجسّد هذا الواقع ويحاكيه بتغيراته أدبيًّا"([iii])، ما أثمر أعمالًا نابضةً بالإحساس الوطني والقومي.
يسعى هذا البحث إلى تسليط الضوء على إحدى حكايا الأرض/ الوطن من خلال رواية "حدثيني عن الخيام" للكاتبة فاتن المر، وقد اتسمت روايتها بنقل معاناة أهل الخيام في ظل الاحتلال الإسرائيلي للبنان سنة 1982م، واستطاعت أن تضع يدها على مفاصل الهدم والبناء في حياة أهل هذه البلدة وهم يمارسون العمالة/ المقاومة، الخيانة/ الوفاء، البغض/ الحبّ، الغدر/ الأمانة، الضحك/ البكاء، الفرح/ الحزن، الخوف/ الأمان، الموت/ الولادة، الهدم/ البناء، التشرد عن أرض الوطن/ البقاء فيه.
فهل بدا أنّ الكاتبة ترسم العلاقات الإنسانية بالاستناد إلى واقع فرضه المغتصب لهذه الأرض، وقد بنى عليها معتقله الشهير في الخيام ([iv])؟ علمًا أن هذا المعتقل كان آخر المعتقلات التي بقيت للعدو الإسرائيلي في الجنوب اللبناني إلى ما قبيل انهزامه بلحظات.
هل تضع الرواية القارئ أمام صور من الاندماج والتحدّي القائم على خطين متوازيين؟ إذ يلاحظ أن الأول يقوم: على إصرار المحتل على النيل من كرامة المواطنين، وزجّهم في الأقبية والسجون لإضعاف مقاومتهم، والقضاء عليهم كأصوات مزعجة تصدر من هنا وهناك، ويقوم الثاني: على إصرار الشعب الجنوبي عمومًا، وأهالي بلدة الخيام خصوصًا، على صمودهم وبقائهم في أرضهم، وتحديهم لجلادهم.
وكيف ستكون العلاقة المتينة بين الجنوبي وأرضه؟ هذا ما يحاول البحث الإجابة عنه في سياق البحث، وقد نهضت الرواية على علاقات إنسانية متنوعة، الأمر الّذي يدفعنا إلى اختيار المنهج السيميائي الذي "يدرس الأنظمة الرّمزيّة في كلّ الإشارات (العلامات) الدالة"([v])، تلك العلامات التي "تستمد تعددها من الإيحاءات"([vi])، فتبرز كأشياء مادّية لها مدلولاتها الذهنية المرتبطة بها، و"تنقسم إلى دوال ومداليل وعلاقات تربطها معًا"([vii]) بحسب عالم اللغة السويسري سوسير ((soccer، كما إنّها تنقسم إلى معنى واسم وشيء عند عالم البيولوجيا التطورية البريطاني ريتشارد (Richard).
وحين نرغب في دراسة مجموعات سيميائية لها عمق اجتماعي حقيقي، هذا يعني أن "تلتقي اللغة بالسلوك، وردات الفعل البشريّة"([viii])، كالبكاء، والنحيب، والضحك بشكل هستيري، إذ إنّ كلّ حركة دالة وبقوّة، ولا تكون مستقلة عن السياق الذي صدرت فيه.
في ضوء ما تقدّم، يدرس البحث علاقة الإنسان الجنوبي بأرضه، في مستوى المحافظة عليها، والموت دونها، ودورها في الاستقرار النّفسي لساكنيها، وشعورهم بالتضامن والوحدة، الأمان والاطمئنان.
- يدرس العنوان الأول: دور المحتل الإسرائيلي في هدم ما بناه المواطن اللبناني الجنوبي، والعمل على النيل من إرادته. يعمل المحتل على خطٍّ مغاير للمقاومين، ويسعى إلى إذكاء الفتنة، وتوسيع الهوة بين المقاومة والمواطنين الذين ترتفع أصواتهم المنددة بتصرفات المغتصب للأرض والتي ساهمت في أن يعيشوا المعاناة، وكلّ ذلك في سبيل فرض سطوته على هذه الأرض، وإخضاعها وإنسانها لهيمنته الفكرية والسياسية والحضارية.
- يدرس العنوان الثاني: دور المقاومين اللبنانيين في بناء ما تهدّم من الممتلكات على الأرض/ الوطن، ومساهمتهم في رفع الروح المعنوية للأهالي، وإصرارهم على دعم بقاء الإنسان في أرضه، وتصميمه على عدم التراجع أمام جبروت العدو وبطشه، وقد أراد المقاومون أن يؤكدوا للبنانيين والجنوبيين أنّ المقاومة حريصة عليهم، وتعمل على إبقائهم في أرضهم، والمحافظة على كرامتهم ووجودهم، وذلك في المستويات كافة: الفكرية، الاجتماعية، السياسية والأمنيّة، في المقابل يسعى الأهالي إلى تبيان مدى تجاوُبهم مع المقاومين واحتضانهم لهم، ومساعدتهم في مشروعهم التحريري، وبيّنوا أنّ المعاناة مشتركة وهي السبيل للوصول إلى الحرّية.
(...)
***
* باحثة من لبنان - دكتورة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الجامعة اللبنانية
** فاتن المر، حدثيني عن الخيام، دار الآداب، بيروت، ط1، 2015
[ii]- أدونيس، زمن الشعر. دار العودة، بيروت، ط2، 1978، ص 116.
[iii]- عبد المجيد زراقط، مؤتمر أدب المقاومة ومواجهة الحرب الناعمة، الأونيسكو بيروت، جلسة عُقدت في 19-5-2014.
-[iv] سجن الخيام هو معتقل يقع على تلّة مرتفعة ضمن بلدة الخيام في موقع حصين يطل على شمال فلسطين من جهة وعلى مرتفعات الجولان السوريّة من جهة ثانية، ويؤمن السيطرة عليهما. وقد بناه الاحتلال الفرنسي في أيام الأنتداب على لبنان سنة 1933م، ليكون ثكنة عسكرية ومقرًا له في الجنوب اللبناني. بعد أن نال لبنان استقلاله تسلّم الجيش اللبناني الثكنة وبقي يستعملها كمعسكر إلى أن اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان سنة 1982م، فاستعمل الثكنة كمركز تحقيق واستجواب؛ وفي سنة 1985م انسحبت القوات الغازية جزئيًا من الجنوب، ومع انسحابها سقط معتقل أنصار الشهير، وبقيت بلدة الخيام تحت سيطرتها، فتم تحويل الثكنة إلى معتقل بديل من معتقل أنصار وعُرف بعدها بمعتقل الخيام.
[v]- علي مهدي زيتون، النص الشعري المقاوم. دار العودة، بيروت، ط3، 2013، ص107.
[vi]- إمبرت إيكو، العلامة تحليل المفهوم وتاريخه. ت، سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2007، ص83.
[vii]- ميجان الرويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي. المركز الثقافي العربي، بيروت، ط5، 2007، ص177.
[viii]- زيتون. م.س.، ص107.