Editorial: Paperback or Screen?
ثمة مسألة لا تزال تطرح، وتتردد أصداؤها منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، وهي: الكتاب الورقي أم الشاشة؟ ولا يُخفى أن هذا السؤال جاء على خلفية ما صرح به مؤسس شركة "مايكروسوفت" الأميركي بيل غيتس (Bill Gates) عندما توقّع منذ سنوات، أن يحقق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حدّ للورق، ومن ثم للكتب. وقد تحدّث عن هذا الحلم، في غير مناسبة له.
يلحظ أن هذا السؤال، يقوى حينًا، ويخفت حينًا آخر، ولا سيما مع بروز ظاهرة موجة الإصدارات الورقيّة بكثافة، عشية كل معرض من معارض الكتب في عالمنا العربي. وإذا كنّا لا نريد الدخول في طرح سؤال عن القيمة الفنيّة والإبداعيّة، أو النقديّة، أو الفكريّة لهذه الكتب، فإن السؤال الذي يبرز صارخًا: ما معنى الحفاظ على هذا التقليد في ظل سيطرة الشاشة على حياتنا: شاشة الهاتف، وشاشة الكومبيوتر، وشاشة التلفاز، وشاشات الطرق...؟ لماذا هذا الحنين إلى الكتاب الورقي، وتحديدًا من قبل أجيال جديدة لم تعش حقبة وهج الكتاب الورقي، وانتظار صدوره، ومن ثمّ وصوله من مكان إلى آخر، أو من بلد إلى آخر، للحصول عليه وقراءته؟
يستوقفني في هذا الإطار، تساؤل كان قد طرحه الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا (Mario Pedro Vargas Llosa) الحائز على جائزة نوبل للآداب (2010م)، في مقالته "لماذا نقرأ الأدب؟": "هل تستطيع الشاشة حقًا استبدال الكتاب من جميع الجوانب؟"، ويوضح في مكان آخر من مقالته، "نحن نعيش في عصر تخصص المعرفة، وذلك بفضل التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا، وبفضل تقسيم المعرفة إلى وحدات صغيرة وعديدة. وهذا الاتجاه الثقافي سيستمر بالنمو لسنوات قادمة". يتابع يوسا الذي فارق الحياة في شهر نيسان/أبريل من هذا العام، بقوله: "هذا هو التخصيص والتقسيم الذي كان يحذرنا منه المثل القديم: "لا تركّز كثيرًا على غصن أو ورقة، وتنسى أنهما جزء من شجرة. ولا تركّز على الشجرة، فتنسى أنها جزء من غابة".
وما "الغابة" التي يقصدها يوسا، سوى العالم الذي نعيش فيه، وهذا الغابة تحترق، وبات من الضروري العمل على اطفاء النيران التي تلتهم كل شيء، بدلًا من التلهي بالتركيز على معالجة التفاصيل الجانبية، أي الفرع، واهمال الأصل.
بالعودة إلى السؤال، وهو جدوى استمرار الكتاب الورقي في زمن الثورة الرقمية، يلحظ أنه طرح للنقاش بشكل حاد، ومثير للاهتمام في "معرض فرانكفورت العالمي للكتاب" منذ سنوات، حيث انبرى كتّاب وروائيون ومفكرون من دول أجنبية عدة، للدفاع عن "حميميّة الكتاب الورقي"، مقابل آخرين لم يخفوا خوضهم الجدّي في ما يسمّى "الكتاب الإلكتروني"، وعلى رأسهم الروائي البرازيلي باولو كايلو (Paulo Coelho) صاحب الرواية الشهيرة "الخيميائي". أما عربيًّا، فقد دارت منذ بدء ثورة العصر الرقمي، نقاشات كثيرة حول هذه القضية، كما خصص لبحث ذلك، عدد من الكتب، والتحقيقات، والمقالات يصعب حصرها.
لكن لعل حدة المأزق تبرز أكثر ما تبرز، في السلوكيات والعادات والتقاليد، إذ تلحظ الأزمة بشكل صارخ عند الجيل الذي عاصر الزمنين معًا، أي زمن الكتاب الورقي والإنترنت، فيما تخفّ حدة هذا المأزق عند جيل الشباب الذي يعدّ الشريحة الأكبر في استخدام الإنترنت. ولا يمكن أن يُنسى في هذا السياق، معنى الكتاب ومفهومه في الذاكرة الجمعيّة العربيّة، فهو دينيًّا مرتبط بالقرآن الكريم (الكتاب)، وسلوكيًّا هو "خير جليس". وأمام هذا الحضور التاريخي للكتاب الورقي، لا يقع المرء في أزمة "حنين" فحسب، بل يشعر نفسه أمام مأزق أخلاقي، بحيث يعدّ توجه القارئ نحو الكتابة على الإنترنت، نوعًا من التخلي عن جزء أساسي من "صديقه"، و"أنيسه"، و"حاضن همومه وهواجسه"، و"مربيه"، و"حافظ تاريخه وأدبه وحضارته".
الحياة تتطور، والإنسان في طبيعته، تمكّن ويتمكن باستمرار من التأقلم مع المتغيرات التي يحدثها هو نفسه، أو التي تفرض عليه، والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ الإنساني، فبعد نحو ثلاثين سنة على الخروج الفعلي لثورة الإنترنت، ظل الكتاب حاضرًا في الساحة، وهناك مئات، بل آلاف الكتب التي تصدر سنويًّا، ولا سيما من قبل الأجيال الجديدة، ولا يزال الكثير من الناس يواظبون على قراءة الكتاب في السرير قبل النوم، ويهتمون بأن تتصدّر بيوتهم مكتبة تضم ألوانًا مختلفة ومتنوعة من الموضوعات. وفي الوقت نفسه، هناك آخرون كثر أيضًا، يواظبون بشكل جدي وفعلي لمتابعة ما ينشر على الإنترنت، وإنشاء مواقع جديدة، وكتابة مدونات تعكس آراءهم وأفكارهم وهواجسهم، كذلك يجب أن لا ننسى، الانتشار الواسع للصحف الإلكترونية، والمواقع الثقافية والعلمية والدينية، ومنتديات التواصل. ولعل اللافت في الأمر هنا، أن ثمة جهات ومؤسسات عربية تطلق عبر الإنترنت بين الحين والآخر، مواقع تحتضن كمًّا هائلًا من الكتب والموسوعات الورقية، بحيث يمكن قراءتها، أو طباعتها من الإنترنت مباشرة. ومما لا شك فيه، إن هذه التوجه تمكّن إلى حد ما، من عقد "صلح"، و"مد جسر" للتواصل بين عالمي الورق والإنترنت.
يبقى القول إن جمال الحياة في احتضانها للمتناقضات، والاختلافات، والمسارات المتعددة، ولم تنبذ المسيرة البشرية إلّا الذي لم يعد صالحًا لها، وبالتالي، فإن الإنسان هو الحكم النهائي في هذه الإشكاليّة، فهل سيتمكن من الحفاظ على استمرارية الكتاب الورقي والإلكتروني جنبًا إلى جنب، أم سيسقط أحدًا منها؟ والسؤال نفسه يطرح أيضًا، على مصير الذكاء البشري في ظل تحديات الذكاء الاصطناعي؟ هذان السؤلان وغيرهما، في رسم أجيال المستقبل.
***
* باحث لبناني. أستاذ دكتور في كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الجامعة اللبنانية
* Lebanese researcher. Professor at the Faculty of Arts and Humanities, Lebanese University.
***
الحداثة (Al Hadatha)
ربيع 2025 Spring
العدد: 235 ISSUE
مجلد: 32 .Vol
ISSN: 2790-1785
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق