♦ فرحان صالح *
يمكن أن يلحظ المتابع للشأن اللبناني، التباين في النظرة إلى ثقافة الانتماء، بين الجيل السياسي السابق والحالي، فعلى الرغم من الموقف من "الزعامات التاريخية التقليدية" (كما كنّا نصفهم)، إلا أنه يسجل أن هذه الزعامات كانت تتمتع بثقافة الانتماء وفكرة الانصهار الوطني بين اللبنانيين، وإن اختلفت أو ابتعدت مواقف البعض السياسية من بعضها (كما كان ذلك في سبعينيات القرن العشرين)، فتلك الزعامات/القيادات عبّرت في مواقفها، عن عمق روحيّة علاقات اللبنانيين بين بعضهم البعض.
لعل مثال ذلك، يمكن ملاحظته عند زيارة مبعوث الإدارة الأميركية إلى لبنان دين براون في أواخر العام 1975، ولقائه الرئيس كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، والطلب منهم آنذاك بإقناع المسيحيين بالهجرة إلى أميركا. وكان الرد بالرفض لهذا العرض ولهذا المشروع.
من هنا علينا أن نعيد قراءة وتصويب ما قاله الكاتب جوزف أبو خليل (1925 – 2019) إن "الأمن الاستراتيجي المسيحي يكمن في العمق اللبناني المسلم"، ويمكن أن نعكس الآية، انطلاقًا من مواقف تاريخية عرفها لبنان؛ فالزعماء الثلاثة حينما رفضوا العرض الأميركي كانوا يعبّرون عن موقف لبناني، يعبّر عن وطنيتهم وانتمائهم المتجذّر، وعن مواقف بيئاتهم الوطنية (بل البيئة اللبنانية بكل تنوعاتها السياسية)، فالمشروع الأميركي كان يهدف إلى تغيير هوية لبنان وديموغرافيته، وموقف هؤلاء الزعماء التقليديين، إن عبّر عن شيء، فإنما يعبّر عن الجذور الثقافية الوطنية الموروثة في ذاك الزمن. وسنرى (كما أشرنا) أن هناك موقفًا معكوسًا لما قاله أبو خليل وهو: "إن الأمن الاستراتيجي الإسلامي يكمن في عمق الانتماء اللبناني المسيحي". وهذا ما عبّر عنه قادة مسلمون يومذاك من رشيد كرامي إلى صائب سلام إلى أحمد وكامل الأسعد إلى صبري حمادة وعسيران... ويمكن أن نضيف: إن "الأمن الاستراتيجي اللبناني يكمن في قوة بُعديه: العربي والإقليمي"، وهذا البُعد الاستراتيجي هو ما ثبت ضعفه، وهو ما عكسه المشهد العربي الدولي آنذاك، في ضعف مواقفه، وتفكك بُناه السياسية والاجتماعية، بل في تنوّع أنانيّاته السياسية، إذ حين دخل إلى لبنان أدخل معه "أيديولوجياته المنفصلة عن ممارساته"، وصراعاته وصولا إلى ما وصلنا إليه.
إن ما رفضه هؤلاء الزعماء ("الانعزاليون" كما كنا نصفهم) إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على عمق انتمائهم لهذا البلد، رغمًا عن كل النعوت التي كان اليسار واليمين يصف بعضه البعض بها، ورغمًا عن كل الانتقادات التي كانت توجّه من هذا لذاك. هذا الوصف وهذه النعوت (السلبية) لم توجه يومذاك من فئة دون الأخرى، بل شملت الفئتين: إلى يسارييه وإلى يمينييه، كما كان متداولا، فرفض هؤلاء الزعماء للمشروع الأميركي يدلُّ على شعورهم بخطورته، وبخطورة الأهداف التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تحقيقها، وانعكاس ذلك على الوضعين اللبناني والعربي.
لكن ورغمًا عن أهمية هذا الموقف الوطني، إلا أنه كان على الطرفين (اليميني واليساري) استثمار هذا الموقف، والدفع لحوار وطني عبر تنازلات متبادلة تنهي الحرب، وتبعد الخطر القادم، وتوحّد جهود اللبنانيين.
لقد كانت المبادرة الوطنية التي قدّمها كمال جنبلاط (1917 – 1977) زعيم الحركة الوطنية آنذاك نقطة ارتكاز لتحديث النظام السياسي اللبناني، وصولاً إلى الاستقرار والتعاون لبناء دولة، كما سعى جيل الرئيس فؤاد شهاب. لكن رغبة البعض بغلبة فريق على فريق، بقيت الهاجس المسكوت عنه الذي دفع قادة مسيحيين للاستعانة بسوريا وصولاً لحلّ عربي كما حصل. وبهذا القرار نقل "الحلّ العربي" معه كل المتناقضات العربية إلى الساحة اللبنانية.
رفض المشروع الذي طرحته ما يُسمّى آنذاك "الحركة الوطنية"، هو الخطأ الذي يتحمّل مسؤولية عدم الاستجابة له من رفضوه، خاصة إنه حلّ لبناني، ومشروع داخلي مقدّم من كمال جنبلاط، بما يمثل في وجدان الشعب اللبناني. بالتأكيد ليس هذا المشروع مقدّسًا، بل كان يمكن الحصول على تنازلات متبادلة من كلا الطرفين توصل لبنان إلى استقرار يؤدي إلى إيقاف الحرب والتفاهم على صيغه لمشروع وطني يمثل القاسم المشترك الجامع لكل اللبنانيين، وهذا الرفض من الشريك الآخر، أدّى إلى انتقال الصراع من الضفة الداخلية اللبنانية إلى الضفة الأخرى العربية بغطاء خارجي، مع ما في الحلول العربية من صراعات عربية تنعكس على الوضع الداخلي اللبناني.
إن المشروع الأميركي الذي اعتقدت الولايات المتحدة الأميركية أن لبنان هو المختبر له، هو ما حققته بعد عشرات السنين، حينما حوّلت الصراع (بعد احتلالها للعراق) في المنطقة من صراع وطني اجتماعي، إلى صراع طائفي سنّي - شيعي. ولم تستطع تحقيق مبتغاها إلّا باجتثاث الوجود المسيحي المتجذّر في العراق وسوريا حيث اجتثت معه عشرات الملايين من البشر، وهذا ما يحصل تدريجيًّا وعلى مراحل في لبنان. وهناك أمثلة أخرى، السودان الذي تم تقسيمه إلى دولتين: دولة مسيحية وأخرى إسلامية، وهو ما رحّبت به الولايات المتحدة الأميركية.
إن احتلال العراق هو المدخل الذي أدّى إلى نمو العصبويات والغرائز الطائفية وبروزها، ومن سوء الحظ، إن مجاراة إيران للسياسة الأميركية من خلال لعبها دور حماية الشيعة، وتمثيل مصالحهم، أدّى إلى تكثيف نمو هذه العصبويات الطائفية التي أدّت إلى تدمير فكرة الدولة الوطنية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تحاول تحقيق مبتغاها في لبنان وفي غيره.
في سياق متصل، يلحظ أن السعودية أدركت ما تخطط له الولايات المتحدة الأميركية، فكان أن بادرت إلى تصفية الإرث (التقليدي) الوهابي، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على عمق الوعي لدى القيادة السعودية لمخاطر المشاريع الأميركية، ليس على السعودية فحسب، بل على مجمل الدول العربية أيضًا.
هذا الموقف الرافض للمشروع الأميركي والذي كان لبنان السبّاق في التأسيس لمواجهته ورفضه، خاصة أنه جاء من قبل القيادات المسيحية التي وصفها اليسار آنذاك بـ"الانعزالية"، لا بدّ مــــــن الوقوف عنده وتثمينه.
إن ما يحصل (اليوم) من تحولات في إيران وتركيا والعالم العربي (هذه التحولات التي لا تزال في بدايــــاتها)، تدلُّ على المواجهة الشرسة للمشروع الأميركي الذي لم يعد يملك من وسائل لتحقيق هدفه سوى القتل والدمار، وتشريد الشعوب، وتغيير الهويات في المنطقة، وآخر تلك المحاولات، زلزال تركيا - سوريا الذي يبدو أنه لم يكن سوى بفعل فاعل، كما تبين عدة مراكز أبحاث علمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق