♦ صلاح عصام أبو شقرا *
نبذة عن البحث
يعدّ الأكراد من ضمن الأقليات الإثنية التي وفدت إلى لبنان منذ قرون بعيدة حتى ما بعد تأسيس دولة لبنان الكبير. فقد توالت الهجرات الكردية إلى لبنان خلال ثلاث حقبات، أولها هجرة قديمة من فترة الغزوات الصليبية، الثانية قديمة أيضًا، شملت عائلات باتت من صلب المجتمع اللبناني منذ ما قبل تأسيس دولة لبنان الكبير، بل وبعضها يتصدر واجهة العمل السياسي في مناطق تواجد تلك العائلات، والثالثة حديثة وتشمل الأكراد القادمين إبتداءً من عشرينيات القرن الماضي، أي بعد تأسيس دولة لبنان الكبير. وتبرز هذه الورقة البحثية دور الأكراد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في لبنان على الرغم من حرمانهم من الجنسية اللبنانية.
بالنسبة إلى الحقبة الأولى، فقد تمثلت بقدوم الأيوبيين، وهم من أكراد تكريت في العراق،[i] إلى جبال لبنان لحماية الثغور من الحملات الصليبية في القرن الثاني عشر، كما أكد الشدياق[ii] أنهم أكراد وتمركزوا في منطقة من شمال لبنان، هي قضاء الكورة حاليًا. وهناك أثر بالغ الأهمية للأكراد الأيوبيين في شمال لبنان هو قلعة المسيلحة،[iii] في أسفل وادي نهر الجوز في قضاء البترون. وما زال أحفاد الأيوبيين يحتفظون بلقب أمراء ويقيمون في بلدة "راسنحاش" في قضاء البترون.
أما بالنسبة إلى الحقبة الثانية، فقد تجسدت بقدوم العائلات الكردية التي أدت دورًا مهمًا في كتابة تاريخ لبنان أبرزها سيفا، ومرعب، وجنبلاط، والعماد، وعدد من العائلات الأخرى.
بنو سيفا الأمراء الأكراد الذين عين منهم الأمير يوسف واليًا على طرابلس سنة 1579،[iv] كذلك يؤكد حتي[v] أن آل سيفا من أصل كردي، انتقل إليهم الحكم من آل عساف وقد اتخذوا من طرابلس مركزًا لهم.
المراعبة، من الشائع أنهم من أصول كردية،[vi] وقد ذكر أنهم من بكاوات منطقة هكاريا في جنوب شرق تركيا الحالية، أي كردستان الشمالية. علمًا أن المراعبة هم زعامة تاريخية في محافظة عكار[vii] وبقي تمثيلها في البرلمان إلى زمن قريب جدًا.
الجنبلاطيون، فقد أجمع عدد من المؤرخين على أصولهم الكردية، وأبرزهم الصليبي،[viii] الذي أشار إلى أن آل جنبلاط من أصول كردية وتولوا إيالة حلب. كما أوضح حتي[ix] أن علي باشا جانبولاد تولى ولاية حلب وتحالف مع الأمير اللبناني فخر الدين المعني، وكذلك المؤرخ المصري عبد العزيز عمر[x] الذي ذكر أن علي باشا جانبولاد كان أمير كلس وهو كردي. وقد يكون سبب وفودهم إلى جبل الدروز (جبل لبنان الجنوبي حاليًا) هو تلك العلاقة المتينة مع الأمير فخر الدين الثاني.
كذلك آل العماد، تلك العائلة الإقطاعية التي اشتهر منها عبد السلام يزبك العماد، وتنسب الزعامة اليزبكية له. وتعود أصول العماديين بدورهم إلى الأصل الكردي، وأكد الهشي[xi] أن لهم صلة قربى بعماد الدولة الديلمي الكردي، الذي حكم العمادية. وقد تزعمت هاتان لعائلتان دروز وموارنة، جبل الدروز[xii] لفترة طويلة، وتنافستا تحت مسمى الحزبية الجنبلاطية – اليزبكية. وما زالت العائلة الجنبلاطية تمثل ما يفوق ثلثي دروز لبنان إلى يومنا هذا.
لا يقتصر وجود أكراد الحقبة الثانية على العائلات المذكورة آنفًا، بل هناك عدد كبير من العائلات المنتشرة في معظم المناطق اللبنانية تعود أصولها إلى الكرد، نذكر منها: آل حمية في طاريا – قضاء بعلبك، كذلك آل مشيك المنتشرون في عدد من بلدات وقرى القضاء وفي قضاء الشوف – جبل لبنان هناك عائلتا نصر الله وأبو غانم اللتان يرجح أنهما من العائلات الكردية التي رافقت آل جنبلاط في هجرتهم إلى جبل الدروز.
أما الحقبة الثالثة من الهجرة إلى لبنان، فقد بدأت في عشرينيات القرن العشرين نتيجة حملات الإخضاع لسياسة التتريك والتي تخللها أعمال إبادة وترهيب، فضلًا عن التدمير لمحو الذاكرة الكردية من أي أثر لمعالم وطنهم وأصل هويتهم، وكان ذلك على أثر ثورة الشيخ سعيد البيراني سنة 1925 حيث قامت السلطات التركية بقيادة مصطفى كمال "آتاتورك" بقمعها بطرق وحشية في ديار بكر. كما وفد في تلك الحقبة أيضًا الأكراد من ولاية ماردين.
عاش الأكراد في لبنان لفترة طويلة من دون جنسية لبنانية، حين كان أكثرهم من حملة بطاقة "قيد الدرس" أو "مكتوم القيد". وقد تأخر تجنيسهم في لبنان حفاظًا على التوازن الطائفي الذي أقرته صيغة ميثاق 1943، بينما حصل على الجنسية اللبنانية عدد من اللاجئين إلى لبنان كالأرمن، والأشوريين، والكلدان، والسريان وغيرهم من الذين وفدوا في الفترة الزمنية نفسها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق