♦ مهى الخوري نصّار *
مفهوم السلطة واسع ومتداخل، تتعامل معه مختلف العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على نحو يرتكز على بعض معانيه وتشكّلاته، ويسقط سواها، وبذلك لا تعريف موحّد لهذا المفهوم. ولكن ما يمكن أن تتّفق عليه جميع التعريفات هو محوريّة دور اللّغة في إحداث السلطة. انطلاقًا من هذا، يصبح تعريف السلطة أسهل حين نقرنه باللّغة وحين نسعى إلى عرض المعطيات المشتركة في ما بينهما من مثل المجتمع والفكر والذات والتواصل.
تضعنا هذه المنطلقات أمام معادلة مفادها أنّ اللّغة أداةٌ للفكر، وأنّ الذات في المجتمع تفكّر داخل اللّغة بهدف التواصل، وبذلك فإنّ ثمّة علاقة تفاعليّة تحاوريّة بين اللّغة والسلطة من حيث المكوّنات المشتركة. صحيح أنّ ما تنتجه اللغة على المستوى الواقعيّ الخارجيّ المنطوق قد يكون تعبيرًا صادقًا عن الذات الداخليّة، وهذا ما يدخل في إطار (التواصل لمجرّد نقل الخبر) إلّا أنّ ذلك لا ينفي إمكانيّة أن يكون مناقضًا أو منقوصًا أو مزيّفًا أو مغلوطًا فيه بالنسبة إلى الذات المفكّرة الداخليّة، وهذا ما يدخل في إطار (التواصل بوصفه أداةً في خدمة تطويع الأفكار).
في الحالة الأولى، يمكن النظر إلى اللّغة بوصفها أداة تأثير، إذ لا معنى للواقع خارج نطاق اللّغة ولا تمظهُر للذات الداخليّة إلّا من خلال اللّغة. أمّا في الحالة الأخرى فتتّضح إمكانيّة تعدّي اللّغة وظيفتها التأثيريّة، وذلك حين ترتبط بالسلطة التي تسعى إلى التحرّر والإصلاح والوعي وإرضاء المواطنين في الظاهر والعلن، ولكن كما هو معلوم فهي تميل في الغالب، عبر آليّات وتقنيّات وممارسات واستراتيجيّات خطابيّة خفيّة، تتيحها لعبة اللّغة، إلى فرض هياكلها السلطويّة وإلى التأسيس لسيادة فكر معيّن يحيلنا إلى أيديولوجيّات وثقافات ونزاعات وفضاءات وإلى شبكة من العلاقات المضلّلة، المتوتّرة... فتصبح اللغة إذّاك وسيلة تعبير لنزاعات الهيمنة، وأداة لإظهار معارضة الفعل للقول، واستقلاليّة فعل السلطة عن فعل الإخبار، ومن ثمّ لكشف الأقنعة، ولتفكيك النوايا المكبوتة المشفّرة والحيل المخبوءة المحوكة، لأهداف متعدّدة منها التسويق السياسيّ (لغايات انتخابيّة أو تبريريّة لبعض الأفعال والمواقف...)، أو بغية التدمير والعنف والإخضاع، ومن ثمّ تكريس السيطرة والتسلّط. وهذا ما يؤكّد تعريف المفكر الفرنسي ميشال فوكو (Michel Foucault) للّغة بوصفها أداةً للسلطة، إذ قال: إنّ تطوير أشكال معيّنة من اللّغة يستجيب لاحتياجات أصحاب السلطة ويعتمد على استعمال خاص للسلطة من خلال مختلف ممارسات الخطاب. أضف إلى ذلك، أنّه يؤكّد طبيعة اللّغة الاستلابيّة القاهرة التي يمكن لها أن تجعل من الخطاب أداة تبليغ وحسب، أو أن تجنح به لتحوّله إلى وسيلة توجيه وخيانة وتزييف وتطويع وإخضاع، وهذا كلّه ضمن مبدإ سلطة الكلمات التي تخلق المعنى الكفيل بخلق الرابط الاجتماعيّ. وبذلك فإنّ اللّغة تحتوي على قوّة كامنة، غير ظاهرة، وغير واضحة للعلن، تبقى مستترة تحت عباءة القوالب والبنى والتراكيب اللّغويّة بما تتضمّنه من عناصر لسانيّة وسيميائيّة وأسلوبيّة وتداوليّة وإيقاعيّة كفيلة بإحالة المتلقّي على المستوى الإدراكي إلى أبعاد اجتماعيّة ونفسيّة وسياسيّة واقتصاديّة وسوسيولسانيّة معيّنة...
وقد يمكننا القول إنّ سلطة اللّغة الخفيّة تستمدّها من قدرتها على إلزام متكلّميها ببنية تركيبيّة تقيّدها قواعد وضوابط ذات طابع قمعيّ، لا يسمح لهم بأيّ تجاوز أو تخطّ أو مراوغة... وهذا ما أشار إليه الناقد الفرنسي رولان بارت (Roland Barthes) في أطروحته التي تحدّث فيها عن السلطة الداخليّة البنيويّة للّغة. وقد وافقه العالم اللغوي الروسي رومان ياكبسون (Roman Jakobson) الرأي فقال: إنّ اللّغة سلطة تشريعيّة، وإنّ اللسان قانونها، وأوضح أنّنا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأنّنا ننسى أنّ كلّ لسان تصنيف، وأنّ كلّ تصنيف ينطوي على نوع من القهر. وبذلك فإنّ اللّغة تتعيّن لا بما تخوّل قوله، بل بما تُرغِم على قوله، إذ يجد كلّ فرد نفسه ملزمًا على احترام سنن اللّغة التي يفرضها عليه النظام الاجتماعيّ، كي يحقّق مقصديّته التواصليّة.
إلّا أنّ لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) رأيًا مغايرًا في هذا الإطار، إذ إنّه رأى أنّ اللّغة في حدّ ذاتها لا سلطة لها، وأنّها تكتسب سلطتها من وضعيّات الذوات الفاعلة، أو المتحدّثين، الذين لهم السلطة لاستعمال اللّغة بطرق شتّى، والذين يمتلكون قسطًا من الحرّيّة في الممارسة والتعبير والتركيب والتحريك بين العلامات داخل بنية اللّغة.
ومن المفيد الإشارة في هذا المجال إلى أنّ الوضعيّات التي يمتلك فيها المتكلّمون السلطة، ويستعملون فيها اللّغة لغايات معيّنة، هي التي تعطي اللّغة السلطة التي تفتقدها في حال غياب هذه الوضعيّات. وجدير بالذكر أنّ اللّغة تتغيّر بتغيّر أصحاب السلطة في النسيج الاجتماعيّ، أو نوع النظام المؤسّساتيّ السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو التربويّ، إن كان ديمقراطيًّا أو شبه ديمقراطيّ أو استبداديًّا أو غير ذلك...
خلاصة القول، أنّى كان المصدر الذي تستمدّ منه اللّغة سلطتها، أمن صرامة بنيتها أو من وضعيّات متكلّميها، تبقى لها سلطة، ويبقى لها سلطان كفيل بتجسيد النهضة والتنامي والازدهار والرقيّ من ناحية وبترسيخ الخداع والفساد والتدهور والانحطاط من ناحية أخرى مقابلة.
ويبقى القول إنّ استخدام اللّغة لا يمكن له أن يكون متاحًا لأيٍّ كان في أيّ ظرف كان، فمن يودّ توجيه الكلام، لا سيّما من أصحاب السلطة، يجب أن يكون مؤهَّلًا للقيام بذلك من ناحية الوضعيّة التي يتكلّم فيها، وبذلك كلّ ذات متكلّمة ينبغي لها أن تكون شرعيّة، ذات مصداقيّة أي أن تبني لذاتها صورة معيّنة لدى سامعها، أن تجذبه، من ثمّ أن تنظّم خطابها على نحوٍ مغرٍ ومقنِع، لكي تلج إلى عالم المتلقّي الخطابيّ وتؤوله على نحو صحيح، أضف إلى ذلك ضرورة معرفة المتكلّم استعمال ماديّة اللّغة على المستوى الشكليّ المورفولوجيّ، وعلى مستوى قواعد التأليف والتركيب، وعلى مستوى الألاعيب الدلاليّة، لكي يعمد بعد ذلك المتلقّي إلى استخلاص العلامات الشكليّة لأفعال اللّغة على نحو نسقيّ، وإلى تأويل مستخلصاتها الشكليّة بكثير من الحنكة والحذر.
سلطة اللّغة هي إحدى الأفكار المركزيّة التي ينطلق منها مجال التنمية البشريّة بأكمله، في سياق ما يُعرَف بـــِ: "البرمجة اللّغويّة العصبيّة"، أو "برمجة الأعصاب لغويًّا" التي تعبّر عن إمكانيّة برمجة أفكارنا ومشاعرنا وسلوكنا وتغييرها، وتاليًا عن إمكانيّة التحكّم في لغتنا الخاصّة بنا، المنطوقة وغير المنطوقة (لغة الجسد) الكفيلة بالسيطرة عبر سلطتها على جهازنا العصبيّ وآلية إدراكه للعالم عبر الحواس، والعمل على تغييرها بالتحسين أو التعديل، أي إعادة برمجة دماغ الإنسان باعتماد التأكيدات اللّغويّة الإيجابيّة الجديدة لتغيير الاعتقادات والاقتناعات السلبيّة السابقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق