رفيق صالح أبو غوش *
تدخل إلى نصّ محمد توفيق أبو علي** الموسوم بـ"غمام الرّوح وتعاويذ الياسمين"*** دخولاً حسّيًّا مباغتًا. ويطالعك فيه المدخل البصريّ والمدخل الذّهني. فالعتبات النصّيّة التي يقيمها تشكّل قنطرةَ العبور من المرئي إلى الميتافيزيقي، ومن الرّذاذ الذّهنيّ إلى استدعاء الخارق الباراسيكولوجي من خلال توظيف قدراتٍ خارقة للقيام بفاعليّات تتحدّى قوانين الفيزياء. أو يفتتح طقسَ روحه بتعويذةِ الياسمين قبل أن يبسطَ سهل تصوّراته مازجًا ما بين شغبِ الفصول وفتنة الطّبيعة.
إن عمليّة التشاكل بين الرّؤيتين عمليّة متشابهة في طريق الدّفاع السّلبي قبل اجتياح اليباس بساط الطّبيعة. وقد مهّد الشّاعر بعتبتين متناظرتين بحيث يحمل العنوان الثّاني نزقَ الأول، ويفتح بواسطته سياق التّركيب لينأى به عن الذّبول والأفول. فالرّوح ترتبط بما هو ذهني، وتُفسَّرُ في ضوء المعرفة والسّلوك. أمّا توليفها مع الغمام فهو بحاجةٍ إلى الغيث والارتواء والكلمة الطّيبة كي تنتعشَ وتسافر في الحنين ولون الصّباح، وتطلق بوحًا عالي النّغم يهزم الواقع، ويتوق إلى النّدى على وجنات الأديم. والغمام هو السّحاب الذي لا ماء فيه، والذي يلبث في الطّبقات العليا من الجّو قريبًا من الأرض، ويهمي رذاذًا خفيفًا أنيقًا لا يؤلم الرّوح. فهل روح الشّاعر فاضت بالمشاعرِ حدّ الامتلاء لدرجة أنّها لم تعدْ تستقبل أفواج المطر، وطَرَقاتِ الماء على شبّاكها المتهالك من كثرة الحنين والشّفافية؟ أهو حفرٌ في طبقات الإيمان (ويوم تشقّق الأرض بالغمام) أو اختزال لظلٍّ يقيه حرَّ الشّمس، ويقي النّفسَ حرَّ المشاعر، فتنداح منسابةً مع الأنهار إلى أبيها البحر (وظللنا عليهم الغيم)؟
هذا الرّذاذ اللّغويّ على جسد الغمام يهرع إلى المرايا التي تمتصُّ ثقلَ الرّوح، ويمسحه الشّاعر من على قميص اللّغة ليؤلّفَ حركةً تعبيريّة تتجسّد بيانًا شعريًّا جديدًا باتّجاهِ تفعيل مرآتيّة النّظرة التي تمارس شهوتها في التّحرّر والانفلات لاستيلاد متعٍ نصّيّة يحملها هذا الصّوت الثّريّ ليعيدَ تأثيثَ المفردات وإنتاج شعريّة صافية. وهو في كلّ هذا يمسك منجلهُ ليقصّ الغيمَ من فوق البحر، وليبني مكانه قصرَ البهاء على زند الموج. عرّاف الدّهشة هو من دون بخورِ اللغة. واللغة معه قصور بناتٍ على الرّمل يتركها لمجامعة الماء. يبرعمها الشّاطئ، ويهندسها طفل الموج بين أصابعه كي تخرجَ من ديمةِ الفجرِ على الورق الطّريّ حين يطلبها إلى الفراش.
صادمٌ أبو علي وهو يراود الزّهرَ والنّبعَ، والزّرعَ والغيم. يأخذ إبريق المتعة ويفلفشُ صدور الكلمات بحثًا عن حمامٍ بريّ، عن نهدٍ ثريّ، عن حليب اللغة. هي رحلةٌ لحناجر الحقول في صفّ بديعٍ أنيق حيث الصّبايا يغتسلنَ برذاذ الجّمر، ويلهبنَ البذور في الأرض الخارجة من مهرجان الماكياج. وفي كلّ بذرةٍ عيدٌ ونشيد قبل أن يعبرَ قنطرة العشق إلى تعويذة الياسمين التي تمثّلُ الانعتاق والتّحرّر والنفاذ من سلطة الرّوح إلى الأمكنة الرّصينة في بياضٍ مشقوقٍ حتّى منتصف الصّدر.
ففي البدايات لم تكن تعرفُ الأزهار والورود أي لونٍ عدا اللون الأبيض عندما كان كلّ شيء أبيض قبل أن يرتكبَ آدم فعلته، فيحيل الوجود إلى مشاعٍ للعابثين. وذات يوم نزلتْ أشعّة الشّمسِ وطلبت من كلّ زهرةٍ أن تنحني لتلونّها بلون خاصّ. كلّ الأزهار انحنت للشّمس إلا الياسمينة التي أبت أن تنحني، واحتفظت بلونها كما فعلت وصيفتها "ليليت" عندما تمرّدت على آدم، ورفضت أن تُخلقَ من ضلعٍ بشريّ. لذلك تُعدُّ الياسمينة رمزًا للكبرياء والتّمرّد، وتُقدَّمُ تعويذةً لحبيبةٍ متمرّدة، وتخفّف وحشة الغريب، وتبعث الأمل في النّفوس القلقة.
أفلا يكون الشّاعر هو آدم الذي تمنّعت عليه "ليليت" كما تمنّعت الغمامة عن إشباعِ عطشِ الرّوح، فاستعاذَ بالياسمين ربيبة "ليليت" من يبسِ الأرض وعطشِ الرّوح! أم يكون بذلك خالفَ جاذبيّة الجسد فارتقى إلى مدار الغمام مازجًا رياح روحه بغمام الأرض الذي يتوسّلُ فراشَ الياسمين لأن يخرجه من أمسهِ إلى فضاءات الوحيّ كي يشفيَ ندوب الرّوح الهائمة في البعيد مع مجموعة تعاويذ تقيه إشعاعات نورانيّته: الأولى: ضدّ الجمال، والثّانية ضدَّ الإبداع، والثّالثة ضدَّ الياسمين؟
يتداخل في نصّ أبي علي الواقع بالحلم، والأمل بتجاعيد الحياة، والنأي بعطر الياسمين، والحبّ بالأحلام المتجاوزة حدود المكان. وهي رغبةٌ في الانفلات والتّحرّر إلى سماء بعيدة تترنّق كلماتها، وتتكتّل وتتزاحم عند منعطفٍ، ثمَّ ما تلبثُ أن تنفلتَ كجلمودِ صخرٍ يحدوها شغفُ الوصول. وهي صرخةُ الواجفِ تطلقها الرّوح بقوّة الحرف، وكبرياء اللغة الطّيّعة. وهذه الرّوح التي تتوقُ إلى التكتّل في المُفارق، الملتفّ بأطياف ضوئيّة، والملوّن بغبشٍ شفيفٍ تتلاقى إشعاعاته في خطّ الزّمن الجميل.
وبعيدًا من المسافة الفاصلة بين أرضٍ وسماء وأنت تغوصُ في لجّة الحرف وتستقطر الرّحيق، تباغتك الأنسامُ العليلة، وتلفّك الكلمات بوشاحٍ مغبّشٍ يليق بهذا الحضور الياسميني حين يفتح الشّعراء محفظة الياسمين فيشبّهون الشّهداء الذين يتساقطون بالياسمين (محمود درويش) والمدن التي يعشقونها بالياسمين (نزار قبّاني) والبلاد التي نزحوا منها بالياسمين (الشّعراء الأندلسيون). ويبدو لك المشهد حكاية عشقٍ أبديّ يفترّ عن بياضٍ لا حدود له. ومعه تذهبُ الصّورة إلى إيقاعٍ مائيّ يزاوج بين صنوف المعاناة. وتبدو الصّورة أكثرَ ضراوةً عندما يسحب صوت اللغة وهو يلهجُ بالمطر. فلا تكاد تخلو صفحةٌ من ذكر الغمام والمطر. ألأنّ الشّاعر يبست في عينيه الأرض كلّها فراح يستمطر الماء؟ أهو العطشُ الدّائم إلى المعرفة، أم لأن الرّوح لم تعدْ تكفيها ينابيع اللغة، أو لأن التّعاويذ لم تعدْ تداوي البؤس في هذه الأرض؟ وهو هائمٌ كالرّيح، قلقٌ كالظّن، "تعالوا نشرب قهوة الصّباح في فناجين الرّياح" (ص 75)، وهو مصابٌ وفي روحه ندوبٌ وجروح "أثخنتنا الرّيح" (ص 60)، وهو كليمٌ للرّياح "حدّثتني الرّيح"، وحديثه مع الرّيح لا يهدأ. وإذا كانت الرّيح قد أثخنته، فهل هذه هي محنة المثقّف العارف المتنبّئيّ الذي لا تسعه الصّحراء، ولا تشبعه النّساء، ولا تظلّله السّماء؟
لكنّه متعبٌ، و"ليل هاجرتي طويل، أرقب ظلاً يبرّحهُ الماء، لنجمٍ يضيء فضاء الدّمع في لواعج الفقراء، لسماءٍ تمطر حبًا وقمحًا وحلمًا جميل. كرملٍ لا يجافي النّخيل، لامرأةٍ لا يغويها رجل، ولشمسٍ لا تنام في مهد الرّجال، ولريحٍ سوف تبقى للسّؤال السؤال". (ص27) هل هو التّعب يحدوه إلى التّموضع في غربةٍ بعيدة والتّمسك بعرى الياسمين انتقالٌ إلى فاعليّة نفسيّة تجمّل الوجه الآخر للعوالم المنشودة لتقولَ قولاً يتجاوز دلالته الملفوظة إلى اللّعب مع العلامة التي تحملُ الوظيفة الجماليّة. فخطابُ الهويّة الشعريّة يبحثُ في شعريّة الياسمين والتّصوّرات الذّهنيّة.
قسّم الشّاعر كتابه أقسامًا ثلاثة: الشّعر والخواطر والحكايات. وجمع بين أغراضٍ ثلاثة ضمن دفّتين. لكنْ، عسى أن لا يكون قد ركب قطار التّأمّل الأخير، واستسلم لجاذبيّة العمر. وأظنّه لا يفعل. فمَن كانت قهوته في فنجانِ الرّيح، والكون في قبضة ضفيرة (ص 34)، والدّهر خادمٌ لحقوله (ص 44)، لن يغويه الشّعر المضاد للجاذبيّة، ولن يُقعده الشّاطئ عن المغامرة.
ومَن يرَ في أيلول بداية الرّبيع، حين تلبس الأرض أصفرها، ويلبس الشّاعر ذاكرةً خضراء، وتفيء روحه إلى ظلّ الأغصان المتخفّفة من الثّياب الورقيّة فيجدَ فيها مخبأهُ وسلامه، ويتلو حكايات عشقه المتفتّحة، ويهرعُ إلى أمسهِ، إلى حزنٍ جميلٍ، وإلى فرحٍ مبلولٍ بالحبّ (ص 18) لن تغويه النهايات. وكل ذلك بأنويّة شعريّة غير محدودة تنفتح معها الرّوح وتنفلتُ من غمامها، وتنغمرُ برذاذ الماضي الجميل، وتتوزّع كياناتها إلى الفصول، إلى العشق والطّبيعة. فتتردّد في نصّه عبارات الغمام ومشتقّاتها: الارتواء، الظّمأ، الغيم، الهطول والجّرة وغيرها. ومفردات الطّبيعة: الياسمين، الرّياحين، البساتين، الموج والحقول. والأصوات: الهديل، الصّهيل، الصّليل والمزامير.
غمام الرّوح وتعاويذ الياسمين ياسمينةٌ وارفة ساهرة في عيون الثّلج لا يسقطها صقيع، ولا تلويها رياح. وهي تعاويذُ شيخٍ في مدار اللغة. ومحمد توفيق أبو علي ذلك الشّيخ الذي أثبت أبوّتهُ اللغوية والشّعريّة، وسار في دروب السّالكين. وعوضَ أن تفتنهُ أصوات الآخرة سكنته جنّيّات الوحيّ، فأدلى بما عليه وما اكتفى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق