صدرت رواية «حب خارج البرد» للكاتب اللبناني كامل فرحان صالح لدى دار الحداثة في بيروت، وذاكرة الناس في الجزائر في العام 2010، ولوحة الغلاف لنور كامل صالح (11عاما). *
الرواية وهي الثانية لصالح بعد روايته «جنون الحكاية ـ قجدع»، وقعت في 151 صفحة، وأهداها «إلى المستقبل كن أكثر إنسانية».
يمكن القول إن الرواية تقع ضمن «الروايات الاستشرافية»، حيث تدور أحداثها في المستقبل بعد أن يضرب زلزال عنيف العاصمة اللبنانية بيروت، ويفقد بطل الرواية «كاف شبلي» في الكارثة حبيبته «هند»، فيسعى جاهدا لاعادتها إلى الحياة عبر عالم مصري كان قد نجح في إعادة الحياة إلى مومياء مصرية سرا.
تتوزع الرواية، التي شاء الكاتب أن يضع لها اسما آخر بين قوسين «ابن الماء»، على أربعة فصول: خارج الموت ـ خارج البرد ـ خارج الماء ـ خارج الحياة.
واستهلت بكلمة لبطل الرواية كتبها «في بيروت صباح يوم الأحد 18 ـ 1ـ 2071م»، يشير فيها إلى أن حكايته التي احتفظ فيها ثلاث سنوات كتبها على مدى خمس سنوات، وقرر اليوم أن ينشرها لأنه شاخ كثيرا أو لأنه خائف من أن يجد مدوناته أحد ويشوه كلماتها، «أو لأنني خائف من أن تضيع بعد موتي دون أن يعرف أحد حكايتي» (صفحة 7). وكل ما يشتهيه بعد «أن أنتهي من نشر هذه الحكاية ... ربما الموت» (ص 8).
زمن الرواية متحرك بين الحاضر والماضي، وتسير قدما في حركة يمكن تشبيهها بالدائرية، تمتد مساحة أحداثها بين بيروت وجدة والقاهرة والإسكندرية وحيفا. وتستهل بحدث عودة «هند» إلى الحياة؛ الحبيبة التي تصبح ابنة، ثم يعود الزمن إلى الوراء.. وقت وقوع الزلزال حيث يتشظى في تلك اللحظة الزمن على مكان تحول إلى خراب... وعينان «لم تتمكنا من احتواء ما تشاهدانه»، وتساؤل يخرج عفويا: «هل ثمة مكان يتسع لهذا الحزن المتصل بالبحر؟!... هل ينفع هذا النواح؟.. هذا البحث عن هند؟» (ص 36 ـ 37).
يشار إلى أن كامل صالح الحاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، صحافي منذ نحو 16 عاما، وله من المؤلفات إضافة إلى روايتي «جنون الحكاية» و«حب خارج البرد»، ديوان «كناس الكلام»، ودراسة بعنوان: «الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي».
نشر عن الرواية في العديد من الصحف والمجلات ومواقع الانترنت منها: (صحيفة الحياة 17 /6/ 2010- صحيفة عكاظ السعودية 11/4/ 2010 - صحيفة القبس الكويتية 16/01/2010 - صحيفة بغداد العراقية 9/2/2010 - صحيفة آخر لحظة السودانية 6/3/2010 - صحيفة المدينة السعودية (ملحق الأربعاء الثقافي) 02/03/2010 – صحيفة السفير اللبنانية 29/11/2010 – إيلاف الالكترونية 1/2/2010 – صحيفة الوسط البحرينية 28/1/2010 – أخبار بووم الالكترونية 14/9/2011 - صحيفة البلاد السعودية 18/1/2010 - ...)
هنا بعض ما نشر عن الرواية من قراءات:
غواية الاستشراف وجدلية العلاقة في «حب خارج البرد»
د. علي الرباعي *
يرى ميلان كونديرا في دراسة عن الرواية أن فيلدينغ من أهم الرواد الروائيين القادرين على التفكير بشعرية الرواية، ما منحه فرصة المحافظة على لغته الخاصة، وتجنب لغة المتبحرين الغامضة كأنها الطاعون».
ونتساءل هل يمكن للرواية أن تنسج نفسها حول بطل لا مرئي؟ لتعلن احتجاجها على منتهكي العالم، ومؤسسي حقبة الميكنة حتى غدا كوكبنا مليئاً بالتجاوزات، وباحثاً عن ملامح تنسجم مع صورته الأصلية؟ هذا ما تحاول رواية «الحب خارج البرد» (الصادرة عن دار الحداثة 2010) لكامل فرحان صالح الإجابة عنه بطرحها المزيد من الأسئلة المشروعة وغير المشروعة حول علاقة الإنسان بذاته وبالآخر، وكيف يمكن تحرير العلاقات الذاتية والموضوعية عن بعضها، ولعلي لمست أن العمل أشبه بحلم متوتر يقفز بلغته فوق حواجز الطرح الكلاسيكي، ويجنح بنا نحو فضاء متخيل وكأنها تهرب بنا إلى آفاق الخيال العلمي.
«السماء توشك على بذر محصولها. الهواء يهم بالانسياب من نوافذ الأرض قاطبة، وهناك على المرفأ امرأة تنتظر رجلاً هزمته أسئلته، كلما همّ بالجواب خرّ على بركة من علامات الاستفهام»
يمكن لهذا المجتزأ من رواية كامل صالح أن يضع القارئ أمام زوايا الحبكة السردية، الموغلة بغواية في استشراف عالم لم يأت وقد لا يأتي، مستغلة تعقيد الأحداث، للخروج من واقع معيش، ورصده من مواقع سابقة عليه، ونسج علاقة بمستقبل آت في رؤية الكاتب، ومن اللافت أن الروائي المشبع بدوي الحداثة لم يتهيب التجريب، والمغامرة بتخليق مسارات غير مألوفة من قبل، ما يدخل القارئ في مستويين من القراءة على الأقل دائرة اجتراح أسئلة جدلية حول العلاقة بالزمن وبالحياة «الأنثى» متمثلة في الحبيبة المفتقدة «هند» وصعوبة تأطير العلاقة البيولوجية بعيداً عن عاطفة الذاكرة وذاكرة العاطفة التي تحيل بعض الأسماء أليفاً مالوفاً.
نجح كامل صالح في إتاحة مساحة للتأمل من خلال لغة وسطية تعبر بنا إلى إمكان استحضار الزمن الآتي، إذ إن بطل الرواية اشتهى نشر الحكاية صباح الأحد 18-1-2071، بعد أن حمل من العمر اثنين وسبعين عاماً «انتهيت من حلاقة ذقني، كذلك من شرب الشاي والسيجارة. وانتهيت أيضاً من القراءة الثلاثين أو أكثر للخبر المنشور في الجريدة منذ ستة أشهر يوم الاثنين 2-2-2032، ما يعني أننا أمام تجربة محرضة على خوض غمار زمن شبه مفقود، أو منتظر وبقدر ما نحرص على تحركنا باتجاهه أو تحريكه باتجاهنا بقدر ما نشعر بعجزنا واستسلامنا لفكرة الترقب واستجماع ملامح علاقات إنسانية تتداخل لدرجة الغموض وتتفكك حد الفقد، لتتوالد أحداث السرد على دفعات ترصف بعضها من دون تقديم حلول سوى تعطيل الإرادة.
ولعل مؤشر «الحب خارج البرد» لا يستفز وقود تفاعلنا ويشعرنا بحميمية الدفء، إلا حين يحط بنا الراوي العليم كاف شبلي في حيز الشعر ليستنبت في الموقع الموحش مرتعاً خصباً «المكان يلملم روائحنا، يحفظ خيالاتنا في ثنايا زواياه «هنا تسيطر على عاشق التفاصيل رغبة تكسير دائرة السرد الرتيبة وإعادة الصياغة في قالب شعري يغرس المعاني في حاضر ملموس، ويجيب عن غيوبة مفاصل التحولات، وتمرد أرضية الممارسة، وإحلال مصطلح الجينات، والاستنساخ، والروبوت وزلزال التدمير، والفتك بالبيئة، وبيل غيتس، ما يشعر بالخروج من دائرة ضيقة والوقوع في فخاخ أضيق متخمة بأسئلة من أين تأتي الثورات؟ وكيف تصاغ الحروب». وبما أن كامل صالح من شعراء قصيدة النثر، فإنه لم يتورط في الخلط بين شاعريته وسرده، ونجح في توفير أدوات السرد الروائي ليصوغ لنا مشاهد من حياة نتورط فيها جميعاً من خلال ممارسة واقعية أو متخلية، نكتفي في ختامها بالجلوس على الشرفة وتأمل ما يتوفر للتأمل والتبسم في وجه خديعة الحياة وحياة مخادعة.
* ناقد سعودي - جدة - جريدة الحياة - الخميس، 17 يونيو 2010
***
شخوص يلوّنون الحياة بالحزن والشغف
علي فقندش *
لا ينفصل البناء الروائي في «حب خارج البرد» عن صورة التوهان، الذي يعاني منه الفرد العربي في كل مكان، فـ «هند اسكندر المدني» التي يتكرر اسمها كثيرا في الرواية، تعني حلم الحاضر والمستقبل الضائع، ففي لمحة من جسد الرواية يتحدث الراوي بلغة الضمير الغائب، فيقول (الحياة بقدر وضوحها الصارخ غامضة، وكأنها تتوارى خلف شعرة دقيقة جدا، رفيعة جدا، ولا نعود نفهم شيئا). ويمضي في سياق آخر في لغة مترفة (الماء بارد والجو ينذر بسقوط المطر، لم يبق على بدء دوامي في الجامعة سوى ثلاثين دقيقة. أنجزت طقوس الصباح برغبة جديدة كأني لم أمارسها من قبل..).
وتمضي رواية كامل فرحان صالح الصادرة حديثا لدى داري ذاكرة الناس في الجزائر، والحداثة في بيروت، وهي تتوزع بين الأمكنة؛ بيروت، مصر، فلسطين، جدة، تحمل في طقوسها أشياء مبهمة وشخوصا يلونون الحياة بالحزن، وفي الوقت نفسه يمنحون العشق والشغف والأمل، الذي ربما يكون أحلى وخارجا من البرد.
الشاعر والناقد والصحافي وأخيرا حامل الدكتوراه في «فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي» يهجس في دنياه، كونه قلما وفكرا يطوف في عوالم الإبداع، تستشف منه وفيه كل هذه الهواجس، وأنت تقرؤه في روايته «حب خارج البرد» التي عرفها بـ «ابن الماء»، وأهداها إلى المستقبل، طالبا وحاثا إياه بأن يكون أكثر إنسانية، ووصمها بأنها منقوشة ببطء، لبدئه فيها عام 2000، وانتهائه منها في 2006.
استهلال احتفائي
في روايته الجديدة، بعد روايته الأولى "جنون الحكاية ـ قجدع»، يبدأ الكاتب بـ «فلاش فيوتشر» لأحداث حدثت ستحدث في العام 2032 م، و «كاف شبلي» بطل الرواية شاهد «أو سيكون شاهدا عليها»، ويصاحب كل ذلك استهلال احتفائي بما كتب في بيروت وعنها من أفكار وأوصاف من قبل فلاسفة ومفكرين وكتاب، وعلى نهج الراهن اليومي في حياض بلاط صاحبة الجلالة، شرع المؤلف بجوانب إخبارية راصدا ما نقلته عن زلازل أصابت بيروت، وعن ذاك العجوز الذي يستهويه الحديث عن انتظار يوم القيامة الذي يجده وفق حساباته غير بعيد.
ارتباط الكاتب بالعمق التأريخي جعله، وربما باطنيا أن يسمي شخوص روايته «هند، ومروان..» وغيرهما، حيث في روايته (حب خارج البرد)، يخرج مثل طائر الفينيق من البيات الشتوي، ويعلن عن حضوره ضمن حراك من شخوص، وبشر قسمات وجوههم صارمة وشفاههم عطشى، وحياتهم موشاة بختم الحب المستحيل، ومشهد الزلازل المقبلة من المستقبل البعيد والموت المجاني.
الرواية من القطع المتوسط، وهي هتاف يبدو متجانسا، لكن في كل نص منها، نجد حكاية مختلفة، وشخوصا يعبرون عن توقهم للتفاعل مع الحراك الحيوي أيا كان هذا الحراك.
حافظة زجاجية
في سياق البناء، يستهل الكاتب إطلالته بخوف وتوجس، وهو يتأمل «هندا» النائمة في حافظة زجاجية، تبث أنفاسها من جديد، يصور الكاتب في هذا الاستهلال، حيرة الإنسان في حراك الواقع، ورحلة الحياة والموت والأمشاج المنتهية في العاصفة العلمية، كما يركض على متن تضاريس الأرض الصلعاء، يخرج لنا مروان الذي نجا من الزلازل بعقل مشوش، وكلمات مبهمة.. يحاول كامل في هذا السياق أن يصور مأساة الإنسان في اليوم الراهن، الذي يعاني من الحروب والويلات والمآسي، فمشهد الزلزال الذي أودى بحياة الآلاف بمثابة اعتصار الزمن للناس، مأساة وجراح لعلها تحاكي واقع الشرق الأوسط، فزلزال بيروت يجتاح الدول، ويفزع السواحل، وتهتز له الكثير من الدول الواقعة في مساره.
يمضي البطل في سياق بحثه عن كيفية عودة حبيبته «هند» إلى الحياة بعد موتها في الزلزال، حينما يصور مأساة جاره العجوز الذي مات ميتة طبيعية هادئة، وكان شغوفا بالتنبؤات، ويتحدث عن يوم الحساب، وحكاية هذا الجار العجوز، هي حكاية الباحث عن الحقيقة الذي ترهقه سيناريوهات الحياة.
أسئلة ملحة
وتضيق المساحات حينما يطرح أسئلته الملحة عن الموت والحياة، وعلى نهج بنائي تتداخل فيه الشخوص، وتصبح الأمكنة والأزمنة بمثابة طقس سوريالي محفوف برتم العدم، غير أن الكاتب سرعان ما يعود في سياق ركضه ولهاثه إلى واقع الحياة والقنوات الفضائية، ومشاهد الممثلين والممثلات بوجوههم الصقيلة. وتمضي الرواية في سرعة وهي مسكونة بالبحر، وأزيز الطائرات، وضجيج القطارات، وأنفاس الجنوب اللبناني والقرى والبيوت الغارقة في عتمة الليل، والجدران المتشحة بالسواد الذي يلف فيروز أو أن فيروز تتوشحه، وهي تغني «إسوارة الجنوب»، أو وهي تؤدي التراتيل في بيروت.
تكثر في الرواية مفردات الزلزال، السواد، ومشاهد المنكوبين، وحكاية بشر خائفين من اللاشيء، وابتسامة هند العالقة في شفاه لا تعرف الابتسام. ويبدو أن الكوارث التي تتكرر كثيرا في بناء الرواية لا تنفصل عن هموم المواطن العربي من البحر إلى البحر، ذلك المواطن البسيط الذي يبحث عن الاستقرار، وفي الوقت نفسه يهجس بلقمة العيش وعذابات الحراك اليومي.
* كاتب يمني - جريدة عكاظ السعودية – 11 أبريل (نيسان) 2010
***
"حب خارج البرد" لكامل صالح: مشاعر العاشق وشعور الأبوّة
د. علي نسر *
"حب خارج البرد"، رواية للكاتب اللبناني كامل فرحان صالح (دار الحداثة) تسلّط الضوءَ على ضرورة التسليم بالقدر المكتوب للإنسان، والمصير المحدد له، مهما توصّلت يد الإنسان إلى مشاركة الخالق في تحديد بعض المصائر عبر الاكتشافات والنظريات العلمية المتطورة.
هي قصّة شاب يفقد عدداً من الأهل في زلزال يضرب بيروت وبعض الضواحي، لكن الضربة الطبيعية هذه، كانت وطأتها أكثر ثقلاً عليه عبر اختطاف الموت حبيبته هند التي ابتلعها الزلزال كالمئات أو الألوف من الجثث، محتفظاً بشريحة جينية منها، يدفعه حبه الجارف لها إلى وضعها في مخبرٍ بالقاهرة في محاولة لإعادتها إلى الحياة، وبعد طول تفكير وأخذ وردّ، يحصل ما يريد، فتعود هند ابنةً له هذه المرّة، حين يخبره العالم أن الطفلة المستنسخة قد سُجّلت على اسمه وأصبح والدها رسمياً، وإذا به يتخبّط بين مشاعر العاشق وشعور الأبوّة المفروض عليه.
وفي خضمّ هذه الوقائع المتعلّقة بهند وذكراها التي ظلت جاثمة على قلبه، تتنقّل معه أينما ذهب، يضعنا الكاتب أو الراوي أمام أحداث فرعية تتعلّق به وعائلته، أو بهند وزوجها وابنها الباكستانيين، فتتشعّب أحداث الرواية، وتأخذنا عبر بعض مفارقات الاسترجاع، إلى أحداث مرّ عليها الزمن، وتكشف أمامنا بعض الشخصيات المندثرة في طيات زمن مضى، وكان لها أثر في حركة الشخوص وأحداثهم الحالية.
راوي الأحداث، هو البطل الرئيس المشارك كاف كما سمّته أمُّه تلبية لطلب المنجّمين. فيشكّل شخصية تساوي الشخصيات الأخرى في العلم والمعرفة، فيسرد ما يتعلّق به ويعرض أحداثاً حصلت معه، ثم يعتمد بعض الوسائط فيستقي منها معلوماته الخاصة بغيره.
وكغيرها من الروايات، تتّكئ هذه الرواية على عصا الزمن، ولكن معادلة اللعبة الزمنية المألوفة تنقلب في هذا النص، إذ يعتمد الكاتب الزمن الآتي تقنية لسرد أحداث روايته وليس الماضي، فيحدد زمن الكتابة من خلال التمهيد، وهو العام 2071، في حين يشكّل العام 2032 زمن القص أو السرد الذي يستحضر الراوي أحداثه المتعلقة بالزلزال وما حلّ بالحبيبة، مسترجعاً بعض الأحداث الخارجية، وهي في معظمها تعود إلى النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين، وقد تحوّلت إلى وقائع خارجة على إطار السرد، إذ جعلها الراوي أحداثاً خارجية تندرج ضمن ما يعرف بالاسترجاع الخارجي البعيد.
وإزاء هذا الزمن الاستباقي، والأحداث الدائر معظمها في لبنان ومصر، يرسم الراوي ومن ورائه الكاتب، صورة عمّا سيؤول إليه العالم عموماً والعربي خصوصاً ومنه عالم النسيج اللبناني، فإذا به عالم تحدّد تصرفاته وتحرّكاته الابداعات والاكتشافات العلمية، مشيراً إلى بعض التغيرات السياسية والديموغرافية، مع بقاء بعض الأمور على ما هي عليه اليوم... كما يتطرّق إلى الصراع السرمدي بين العلم والدين، مؤكّداً أن الأخلاق هي أساس الوجود.
وهكذا نرى أن هذه الرواية التي تتخذ من الزمن الحالي مادة لأحداث مسترجعة، قد توافرت فيها تقنيات العمل الروائي عموماً، فقد شيّد الكاتب عالمه من ترابه الفني الخاص، متلاعباً بتقنية الزمن الذي استوطن فيه قالب المكان باتقان ونجاح، وقد تضافرت مجموعة من الشخصيات وعلى رأسها الراوي، لتشكّل مدماكاً مهمّاً من مداميك الرواية لما تتركه من أثر على المكان والزمن، وما تحمله بإيعاز من الكاتب، وعبر حواراتها المتنوعة من رؤية روائية إلى العالم.
أستاذ في الجامعة اللبنانية - جريدة الأنوار – بيروت، 17 شباط 2014
***
الركض على متن تضاريس الأرض الصلعاء
عبدالعال السيد *
حينما أهداني زميلنا الصحافي الدكتور كامل صالح نسخة من باكورة انتاجه الروائي (حب خارج البرد)، لم أكن أتصور أن الغموض والشتات وسيناريوهات الذهان التي يعاني منها شخوص الرواية سوف تجذبني لالتهامها خلال ساعات، أقول ذلك لأن القراءة أصبحت في هذا الزمن بالنسبة للإنسان مثل العنقاء والخل الوفي، ففي هذا العمل يخرج صالح مثل طائر الفينيق من الرماد الشتوي، ويعلن عن حضوره ضمن حراك من شخوص وبشر قسمات وجوههم صارمة وشفاههم عطشى، وحياتهم موشاة بختم الحب المستحيل، ومشاهد الزلال والموت المجاني .
الرواية من القطع المتوسط ومن إصدارات (دار الحداثة) في بيروت، وهي عبارة عن هتاف يبدو أنه متجانس لكن في كل نص منها نجد حكاية مختلفة وشخوصا يخرجون من رحم الأرض ويعبرون عن توقهم للتفاعل مع الحراك الحيوي .
ففي سياق البناء يستهل صالح إطلالته بخوف وتوجس، وهو يتأمل (هند) النائمة في حافظة زجاجية تبث أنفاسها من جديد، وفي هذا الاستهلال يصور الكاتب حيرة الإنسان في سياق الواقع ورحلة الحياة والموت والأمشاج المنتهية في العاصفة العلمية، كما يركض على متن تضاريس الأرض الصلعاء حيث يخرج لنا مروان الهارب من الزلازل بعقل مشوش وكلمات مبهمة، ويحاول الكاتب في هذا السياق أن يصور مأساة الإنسان في اليوم الراهن ومعاناته مع الحروب والويلات والماسي، فمشهد الزلزال الذي أودي بحياة الآلاف بمثابة اعتصار الزمن للناس، وعلى نسق الهارب من الرمضاء إلى النار يصور كامل مأساة وجراح الشرق الأوسط ويشبهها بالزلزال الذي يجتاح الدول ويفزع السواحل وتهتز له الكثير من البلدان الواقعة في مساره .
ويمضي الكاتب في سياق بحثه عن الحقيقة حينما يصور مأساة جاره العجوز، الذي مات ميتة طبيعية هادئة، وكان شغوفا بالتنبؤات ويتحدث عن يوم الحساب، وحكاية هذا الجار العجوز هي نفس حكاية الإنسان الباحث عن الحقيقة، الإنسان الذي ترهقه سيناريوهات الحياة، وتضيق المساحات بالكاتب حينما يستهل أسئلته الملحة عن الموت والحياة وتمضي الرواية في ركض محموم على نهج بنائي تتداخل فيه الشخوص وتصبح الأمكنة والأزمنة بمثابة طقس سريالي محفوف برتم العدم، غير ان الكاتب سرعان ما يعود إلى واقع الحياة والقنوات الفضائية ومشاهد الممثلين والممثلات بوجوههم الصقيلة، وتمضي الرواية في سرعة وهي مسكونة بالبحر وأزيز القطارات وأنفاس الجنوب اللبناني والضيعة والبيوت الغارقة في عتمة الليل والجدران المتشحة بالسواد، وبشر خائفون من اللاشيء وابتسامة هند العالقة في شفاه لا تعرف الابتسام.
ويبدو ان الكوارث والزلزال الذي تتكرر كثيرا في بناء الرواية لا تنفصل عن هموم المواطن العربي من البحر إلى البحر، مواطن يبحث عن الاستقرار وفي نفس الوقت يهجس بلقمة العيش وعذابات الحراك اليومي. ولا ينفصل البناء الروائي في هذا العمل عن صورة التوهان الذي يعاني منه الفرد العربي، وبطلة الرواية هند اسكندر المدني التي يتكرر اسمها كثيرا في الرواية تعني الأم الغائبة والأرض العطشى لحبات العرق وهي تسيل من جبين أبنائها. كما تتوزع الأحداث بين الأمكنة وسواحل الشام ومصر وتحمل في طقوسها أشياء مبهمة وشخوصا يلونون الحياة بالحزن، وفي نفس الوقت يمنحون الأمل للقادم الذي ربما يكون أحلى وخارج نطاق البرد.
* كاتب سوداني - الأعمدة اليومية - صرخة - صحيفة آخر لحظة ـ السودان - 06 مارس 2010
***
"حب خارج البرد" لكامل صالح… حين تحوّل الشاعر إلى شريحة الكترونية
معمر عطوي
حين بدأ كامل صالح في كتابة روايته، “حب خارج البرد”، كان قد وصل لتوه الى مدينة جدة، حيث عمل محرراً في صفحة ثقافية بجريدة يومية. يومها حاول يائساً أن يألف “العيش خارج الحياة”، كما كان يحكي عن العيش في بلد محافظ لا يشبه لبنان.
ويبدو أن اختبار صالح للحياة هناك لمدة زادت عن عشر سنوات، جعله يغيّر من بنية روايته التي كان يرجّح تسميته “خارج الحياة”، لتصبح عالماً افتراضيّاً نسجه خياله لطريقة في العيش قد تكون واقعاً بعد عقود من الزمن.
فالزلزال الذي ضرب بيروت في ذلك الزمن الافتراضي، أثناء عودة بطل الرواية، “كاف” أو “ابن الماء”، كما يسميّه صالح، من السعودية الى لبنان عبر القطار، قد غيّر مسار الأحداث في انعطافة جذرية، من زمن الإنسان المحب الشاعر الى زمن الإنسان الشريحة الالكترونية الآلة.
ربما حاول صالح أن يستشرف مستقبل تحوّل الألينة الى أداة تدمير تعيد تشكيل الحياة وفق رؤية جديدة وصورة جغرافية مختلفة، بفعل عوامل زلزال يضرب بيروت فيعيد تشكيل تضاريسها وفق صورة أخرى، وأنماط معيشية وأنساق علائقية غريبة.
في بحثه الدؤوب عن حبيبته القديمة هند، واستعراض ذكرياته الطويلة ومواقفه اللطيفة مع شريكة العمر، يحاول الدكتور صالح أن يؤكد نظرته إلى المستقبل وفق رؤية إنسانية مليئة بالحب، رافضاً استلاب الأنسنة من خلال عوامل الألينة، رافعاً الخطاب الإنساني إلى أوج قوّته وحيويته. لعله في تركيزه على مسألة “ابن الماء” قد ربط بين العالم الافتراضي/ الاستشرافي، الذي يتخيّله بهاجس من القلق والتوتر، وبين التاريخ بما يحمله من تراث إنساني عريق، فاستحضر القرآن في مسألة حيوية المياه “وجعلنا من الماء كل شيء حي”. وتكررت أهمية الماء كعامل خلق وتوليد ونهضة واحياء.
من هنا يسترشد الى عالم مصري يقوم بخلق هند من خلال شريحة هند الأصلية. لكن هذا العالم، الذي يعيش الانفصام بين الايمان بخالق للبشر وبين قيامه بمهمة الخلق، يعيد هند الى الحياة طفلة، وليست إمرأة. هنا تبدأ مرحلة التوتر أو العقدة الروائية، حيث تصبح هند بمثابة ابنة لكاف وليست حبيبة وزوجة كما كان يتذكّرها، ما يجبره على التصالح مع هذا التحول في البناء العلائقي بينه وبين هند الطفلة، التي يربيّها ويزوجها الى شاب يحبها في نهاية المطاف.
أمّا بيروت في هذا العالم الافتراضي، فهي المركز الذي يعتبره كاتب رواية “جنون الحكاية” أجمل المدن، الدرة التي فقدت بريقها ورونقها التي تعدّ آيات في فن العمارة تداعت وسقطت ولم يبق فيها جدار واقف.
لعل صالح، وهو صاحب ديوان “كناس الكلام”، استفاد من أدواته الشعرية في صياغة روايته الصادرة حديثا عن دار الحداثة، بأسلوب شعري جميل دمج من خلاله قوة التعبير بجمالية السرد. الأمر الآخر هو محاولته ترسيخ الانفعالات الإنسانية من حب وخوف وأمل. لذلك يأتي فعل التذكر بمثابة غصّة أو حرقة على عالم متلاشِ بفعل انحسار القيم الانسانية وسيطرة التقنية، لذلك تكون حياة ابن الوزير الذي مات بنوبة قلبية، كمصير ابن الماء الذي يبكي على ضفة النهر.
أخبار بووم - 2011/09/14 قسم: أدب
http://www.akhbarboom.com/2011/09/877/
***
الذهاب إلى الحدود القصوى*
يحاول الروائي "كامل فرحان صالح" في روايته هذه أن يكشف صفحات غائمة في رؤيتنا للوقائع والأحداث التي حدثت وتحدث في العالم، ولبنان، من حين إلى آخر.
في روايته الرائعة هذه "حب خارج البرد" قراءات أشبه بارتحالات متفاوتة المساحات من جهة الرؤية ومنظور الرؤية وعمقها، وربما تكون إضاءات من منظوره الشخصي، تأملات دونت بين حين وحين تعكس صوراً متعددة لتركيبات إنسانية أفرزتها تركيبة اجتماعية اقتصادية سياسية عبرت عن بني ذهعنية ما تزال مقيدة بثقافة دينية جاهزة سلفاً رغم التطور الذي واكب الحياة البشرية، ففي وصفه لجاره العجوز الذي طالما حكى عن يوم القيامة ونهاية الحياة على الأرض "كان شغفه بالتنبؤات لا يوصف، وفي أي مكان وجد، تسمعه يتحدث عن يوم الحساب، علامات الساعة، واقتراب أول ظهور المهدي المنتظر...".
ففي أسلوب خاص، وسخرية مبطنة، وتعابير مختصرة لصور متعددة من الحياة، أراد أديبنا أن يقول كلمته بحس الأديب الناقد والشاهد الحي على حاضر يحتضر وماض يعجز عن نسيانه.
إنها أكثر من رواية، إنها ملحمة تجسد الواقع بجميع ألوانه، مطرزاً بالفرح مرة وبالحزن مرة، أراد من خلالها "كامل فرحان صالح" محاورة واقع جديد لم يعد ممكناً محاورته إلا بالذهاب إلى منطقة الحدود القصوى.
* النيل والفرات
http://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb183166-153320&search=books
***الرحلة إلى المستقبل قد بدأت
ر. ج *
هي رواية افتراضية تدور أحداثها في زمن افتراضي، لكن المشاعر والأحاسيس فيها تبقى حقيقية. فمن خلال توقيع بطل الرواية «كاف شبلي» المؤرخ العام 2071، يدرك القارئ أن رحلة إلى المستقبل بعيون الكاتب قد بدأت، رحلة بطل الرواية الذهنية والواقعية إلى جدة والقاهرة والاسكندرية وحيفا ومن خلال مدينته بيروت التي ضربها زلزال عنيف أودى بحياة هند حبيبة البطل، الذي يظل مصراً على استردادها حتى يتم له ما أراد. ومن خلال عملية البحث هذه ينقل لنا صالح تفاصيل الحياة كما يتخيلها العام 2031 وما بعد هذا العام، ولا ينسى أن يلمح في الرواية للأحداث التي تدور في يومنا هذا.
«حب خارج البرد» هي الرواية الثانية لصالح، بعد رواية «جنون الحكاية – قجدع»، صادرة عن دار الحداثة في بيروت، أراد فيها الكاتب أن يشير إلى ضرورة إيلاء المشاعر والأحاسيس أهمية في حياتنا، خصوصاً أن المجتمع القروي بشكل عام متجه إلى وقت تملأه الماديات، بعيد كل البعد عن الإنسانية، في ظل العولمة والتكنولوجيا كما يبين صالح في روايته هذه.
جريدة السفير - 29/11/2010
***
"حب خارج البرد"... ملامسة الإصبع الصغير
حسام الشيخ *
تحتاج المشاعر الإنسانية عبر كل تجلياتها إلى محرك يبعثها من سباتها، وربما من مماتها لتصبح قادرة على إفراز مكنوناتها بما نالته من محفزات.
وقد حركت رواية "حب خارج البرد" لكامل فرحان صالح، ذلك الجانب الإيجابي من تلك المشاعر التي ظلت حبيسة النفس، كونها تسامت عن النقائص فلا ابتذال، ولا خروج عن المألوف، ولا اعوجاج في النهج، ولا مبالغات لغوية ولا هرطقات ولا إسفافات.
مخزون ثقافي إنساني بديع يتدفق من ثنايا تلك الرواية الصادرة لدى دار الحداثة في بيروت وذاكرة الناس في الجزائر، مشاعر وأحاسيس دافئة ومرهفة إلى حد بعيد لا تملك حيالها سوى أن تفتح لها قلبك، وتستقبلها بكل ما تملك من إنسانية.
خليط من المشاعر يتملكك حينما تقرأ "حب خارج البرد"، أحاسيس متأججة، عشق ملائكي، وأوصاف بسيطة وشخوص معدودة، وتألق روائي لحالة حب بعيدة كل البعد عن أي ملمح مخجل.
"كاف" (بطل الحكاية التي تستشرف المستقبل)، يبحث عن حبيبته "هند" التي ضاعت في زلزال دمر بيروت، ولا يجد لها أثرا سوى شريحتها المعلوماتية التي صنعتها آلة المستقبل، فيعمل على إعادة إحيائها بما توفر من تقنيات حديثة، ليجد نفسه أمام طفلة في المهد أجبرته الظروف على منحها أبوته، فيما هي في الحقيقة نسخة من حبيبته المفقودة، فاستحال بذلك أن يعيشا كعشيقين.
يبدو أن "كاف" له علاقة بالمؤلف، أو أنه هو نفسه، لأن ما يملكه "كاف" من مشاعر تتطابق كليا مع ذلك الإنسان الذي خط تلك الأحاسيس على الورق، لدرجة أنني أكاد أزعم أن لدي القدرة على رسم ملامح المؤلف، حتى ولو لم أكن أعرفه شخصيا كون ملامحه وشخصيته طغت بشكل كبير – حسب ظني- على كتابته.
تبرز الرواية التلاقي الفكري والعشق الروحي وتوارد الخواطر بين "كاف" وحبيبته حينما لامس إصبعه الصغير إصبعها الصغير في يدها اليسرى، فتمنى لحظتها أن يكون هو نفسه ذلك الإصبع الصغير الذي لامس جسد حبيبته، في الوقت الذي أحست هي الإحساس نفسه فترجمته بالطريقة نفسها، وتمنت الأمنية نفسها، إلا أنها عبرت عنها فيما بعد بعفوية مستخدمة المفردات نفسها (تمنيت لحظتها أن أكون أنا نفسي إصبعي الصغير الذي لامس جسده).
يحمل مؤلف "حب خارج البرد"، هما إنسانيا كونه لبناني الجنسية، بما يعني أنه وقف شخصيا، وعاش بشحمه ولحمه ذلك الدمار الذي لحق ببلاده من جراء قوات الاحتلال، فانعكس ذلك جليا على كتابته في صورة الزلزال المدمر الذي لقت فيه بطلة حكايته حتفها.
في جانب آخر، يظهر تسامي المؤلف عن التحيز لأحد الأديان أو الملل، فكان حياديا وجعل منها خليطا مألوفا لم يظهر فيه التكلف أو المحاباة.
وصفه لمصر والإسكندرية وأجوائهما رغم أنه لم يطأ إحداهما، كان مريبا بالنسبة لي، إلا أنني اهتديت إلى أن ذلك ربما يعود من مماحكاته اليومية وتبادل المشاعر الإيجابية مع الآخر، بالإضافة إلى الشفافية والبساطة.
المفردات والجمل والأساليب السهلة والوصف المنساب للمشاعر جعلني أدقق في كل كلمة، ما أوقفني مرات عدة لكي أعيد قراءتها، ليست لصعوبتها بالطبع، وإنما لرشاقتها وحلاوتها والاستزادة من عذوبتها والاستمتاع بامتلاء مقلتي بدموع استحضرت أجمل الإحاسيس لقربها من قلبي الذي دق كثيرا أثناء قراءتي، بعدما ظننت أنه نسي تلك الإيقاعات.
عندما كتب أحد الزملاء الصحافيين عن حكاية "حب خارج البرد"، كان لي رأي خاص، حيث أن زميلنا أخذه قلمه بلا عمد إلى الحديث عن مؤلف الرواية أكثر من الحديث عن الرواية نفسها، إلا أنني بعد قراءتها عذرت ذلك الزميل، فشخصية المؤلف ظلت تطل دائما من بين ثنايا السطور بشكل يؤكد التواجد الدائم والحضور اللامتناهي.
أخيرا، لم أجد إجابة على سؤالي الذي ساورني كثيرا حول كينونة "حب خارج البرد"، هل أطلق عليها رواية؟ في ظني أنها ألطف كثيرا من ذلك المسمى، أم أنها قصة قصيرة؟ إلا أنني وجدتها أعمق كثيرا من ذلك، فلم اهتد إلى تصنيفها – من وجهة نظري طبعا- سوى إنها حالة إنسانية تشع مشاعر وأحاسيس، آثرت أن أصفها بأنها ربما "حكاية مشاعر"، أو "خلطة أحاسيس".. المهم أنني حينما شرعت في قراءتها لم أجد سبيلا لأضعها جانبا، فقرأتها كاملة في جلسة واحدة ربما لم تتعد الساعات الثلاث.
أنثر هنا بعض الأحاسيس لكي يتذوق عذوبتها كل من يرغب في الاستمتاع بما خطته يدي ذلك المؤلف، الذي لم أثن عليه أبدا، حينما أصفه بأنه عملاق.
"قليلة هي الأحلام التي أتذكرها، ربما لأنني لا أحلم، أو بالأحرى أخاف الأحلام، لا أعرف سببا لذلك تحديدا، غير أنني أتوهم أنني سمعت مرة حديثا لجارة أهلي تقول: إذا سعدنا بمشاهدة أحلامنا أثناء النوم، فهذا يعني أننا سنفقدها من حياتنا إلى الأبد.. لذا، أخاف على أحلامي، أحاول أن أطلق سراحها قبل أن أنام.. أكره الليل، وأعشق الصباح".
"قال لي مروان: فيما كنا نتصفح ألبوم الصور: أنظر إلى هذا النور في يديها..
لم يكن ثمة نور.. سألته: ماذا يقصد؟
صمت كعادته..
سألت نفسي: هل النور في يديها، أم في عينيه؟!".
"عندما تنمو الحكايا في ذاكرتنا تهر، يصعب أحيانا أن نلتقط خيط الغياب، نحضر بكامل ثيابنا وأناقتنا غير أننا نتلعثم بالكلام، فنكتب هذه التفاصيل الهاربة، هذا الوجع الشفيف الضارب في التعب، حيث كل شيء يغرب عنا؛ الحب والنساء والخمر والسماء والأحلام.. والأوطان. فجأة، نشعر أننا نفيض بكل هذا الحضور، فنقف، وتصبح الخطوة اتجاهها صوب الأسئلة الشاسعة".
"كيف تعرف الحب؟
بلا تردد أجبته: الحب هو أن تريد الذهاب غربا، فتجد نفسك تتجه شرقا".
* كاتب من مصر
***
ثنائية العلم والخيال العلمي في "حبّ خارج البرد"
محمد الحمامصي *
أكدت الباحثة اللبنانية سلام كمال أبو قيس أن رواية "حبّ خارج البرد" للشاعر والروائي د. كامل فرحان صالح من الرّوايات الحديثة الّتي تناولت إشكاليّة الوجود الإنسانيّ في مواجهة ما استجدّ على صعد مختلفة، ومنها: العلم والتّكنولوجيا والرومانسيّة والخيال العلميّ والكوارث الطبيعيّة والنّظرة إلى الحاضر والمستقبل، وفق هذا المستجدّ من زوايا مختلفة: موضوعيّة وغير موضوعيّة، إيمانيّة وغير إيمانيّة. الأمر الذي دفعها لاختيارها محورا لأطروحتها المعنونة بـ "مرايا الذات في ثنائيّة العلم والخيال في رواية "حبّ خارج البرد" لكامل فرحان صالح ـ دراسة بنيوية نفسية" والتي نالت عنها درجة الماجستير أخيرا من الجامعة اللبنانية ببيروت.
وقالت إن أهمية أطروحتها تتأتى من كونها تتناول ما في الرواية من قلق وجوديّ على مصير الإنسان، في زمنٍ بات فيه الارتكاز على الرقميّة أمرًا أساسيًا في حياتنا المعاصرة، وتحوّل الإنسان نفسه إلى رقم، وتغيّر مفهوما الزّمان والمكان، وعمّت ثورة الاتّصالات في كلّ شيء، وبات البشر أمام المعضلة الكبرى المتركّزة في القلق على المشاعر الإنسانيّة: هل يحيا الإنسان من دون مشاعر وأحاسيس؟ هل يتحوّل إلى آلة مسيّرة بتكنولوجيا محضة؟ وهل يُستغنى عنه؟ وهل صحيح أنّ الإنسان يخلق مثيله؟ أمور تطرحها الرّواية، والوقوف لمناقشتها يحتلّ أهميّة بارزة في هذا الزّمن على غير صعيد.
ولفتت سلام إلى أن رواية "حبّ خارج البرد" تنضوي تحت ثنائيّة العلم والخيال المتفشيّة في ثنايا الرّواية، حيث إنّ الرّواية تحفل بالعلم وبالخيال العلميّ. كما أن ما تقدّمه الرواية هو الخيال العلميّ المتمثّل برؤية العالم في العام 2032 حتّى العام 2071، بالإضافة إلى مسألة الإيمان والإلحاد وقضيّة الموت والحياة.
وأضافت "أيضا تعود أهمّيّة الأطروحة إلى إفادة القرّاء والباحثين في هذا المجال، من ناحية العلم وسيطرته على الإنسان وتحويله إلى آلة، وموت القيم والمشاعر الإنسانيّة بين البشر، في زمن الفوضى والسّرعة. سأتطرّق إلى مرآة الذّات في الرّواية، كون لها علاقة بالشّخصيّات والإشكاليّة، فمرحلة المرآة تقع من عمر الإنسان بين الشهر السادس والشهر الثامن عشر، وهي فترة يتمتّع فيها الإنسان الصّغير بالقدرة للمرّة الأولى، بالرّغم من افتقاره للقدرة على السّيطرة على نشاطات جسمه، على أن يتخيّل نفسه كيانًا مترابطًا يهيمن على نفسه. وتتعيّن له هذه الصّورة حين يرى صورته في المرآة. بالإضافة إلى ثنائيّة العلم والخيال، كون بعض الشخصيّات تؤمن بأنّ العلم يحلّ جميع ألغاز الكون، لذلك لجأ جزء منها إلى الخيال، ولجأ جزء آخر إلى العلم للهروب من الواقع.
في ضوء ذلك يهدف هذا البحث إلى الكشف عن ثنائيّة مهمّة تقوم عليها بنية الرّواية، ألا وهي العلم والخيال العلميّ من خلال حوادث وشخصيّات وتنبّؤات يضعها الكاتب، وينظر إليها من خلال ذاته الّتي تتحوّل إلى مرآة تعكس التصوّرات والتّأثيرات المتبادلة بين الحدث الواقعيّ والنّفس الرومانسيّة الحالمة بمستقبل أفضل تتحقّق فيه الأمنيات. إلاّ أنّ الخيبة والاتّجاه إلى التّقوقع، والعودة إلى الواقع بمشكلاته الحادّة، وعاداته وتقاليده تشدّ الإنسان إليه وتجعله يتقاسم الرّؤية بينه وبين الذّات، في زمنٍ لم يحدث بعد، وبخيالٍ علميّ يندفع ما يزيد على خمسين سنة إلى الأمام.
وأشارت سلام إلى دافعين كان وراءا اختيار موضوع أطروحتها: الأول الدّافع الذاتي: ويتركّز على قراءتي القصص والرّوايات العلميّة والخياليّة الّتي تفتح آفاق الذّهن من أجل التخيّل والإبداع. والثاني الدّافع العام: ويتأتّى من كون الرواية غنيّة بالعلم وبخيال علميّ واسع تستهوي من يعجبه هذا النّوع، علاوةً على أنّ هذه الرّواية تطال مستقبل حياتنا نحن العرب، فأين نحن من التطوّرات الكونيّة الحديثة؟ وما مصيرنا في الرّقعة الرقميّة الّتي جعلت العالم قرية كونيّة؟
وأوضحت أن فرضيّة الموضوع تتمحور في تطوّر النّظرة إلى موضوع مرايا الذّات في ثنائيّة العلم والخيال، فالإشكاليّة السّابقة تفرض مجموعة من الفرضيّات الّتي يمكن تبويبها على الشكل الآتي: أولا قد يكون الخيال هو الحلّ الأخير للذّات للخروج من مآزقها. ثانيا ربّما ظهرت الذّوات المريضة في الرّواية من خلال عقدها النفسيّة، وربّما الحزن سيطر على حياتها. ويطرح الكاتب نفسُه فرضيّات وإشكاليّات بُغية الإجابة عن سؤال نفسه: ما هو المصير الإنسانيّ أمام التطوّر العلمي؟ ولِمَ الارتباك الّذي داخل المؤلّف وهو يستشرف المستقبل الإنسانيّ؟ ولِمَ يلجأ إلى الخيال كما يلجأ إلى العلم؟ ولِمَ لَمْ يُجب عن سؤاله النهائيّ: الذات أو الخيال أو العلم؟ ولِمَ أخفق في الإجابة عن أسئلته، وترك تساؤلاته كلّها، وانطوى على نفسه متأمّلاً المستقبل؟
وكشفت سلام أنه بعد القراءة المعمّقة لرواية "حبّ خارج البرد"، وجدت من المناسب اتّباع المنهج البنيوي السّردي مع الاستعانة بالمنهج النفسيّ التحليليّ. وقالت "السرديّة هي المنهج البنيويّ المختصّ بدراسة الرّواية، وحين التحدّث عن البنيويّة يكون المقصود مكوّنات العمل الإبداعيّ، وهي: المنظور الروائيّ والشخصيّات والزّمان والمكان. وإنّ مكوّنات البنية ليست تجميعًا كمّيًّا، لكنّها اجتماع وظيفيّ يأخذ كلّ مكوّن منها مكانه الوظيفيّ بما يتناسب مع الوظيفة الأساسيّة للبنية الكليّة، والمكوّنات مستقلّة لا قيمة لها، بل تستحوذ على قيمتها من دورها داخل البنية.
الرواية موضع التطبيق في الأطروحة "حبّ خارج البرد"، للشاعر والروائي د.كامل فرحان صالح صدرت للمرّة الأولى عام 2010، وقد أهداها "إلى المستقبل كن أكثر إنسانيّة"، وهي تتألّف من مئة وإحدى وخمسين صفحة من الحجم المتوسّط. يضع الرّوائي نبذة عنه وعن أعماله الشعريّة والرّوائيّة، وتُستهلّ الرّواية بكلمة لبطلها كتبها في "بيروت" صباح يوم الأحد 18 / 1 / 2071.
وتتوزّع الرّواية الّتي وضع الكاتب اسمًا آخر لها بين قوسين "ابن الماء"، على أربعة فصول: خارج الموت - خارج البرد - خارج الماء وخارج الحياة، مدعّمًا بداية هذه الفصول ببعض قصائد ومقولات لشعراء وكُتّاب عرب وغربيّين. ووردت في الرّواية بعض الكلمات والأمثال العاميّة "ما تزعل"، "زريبة للطّرش"، "بعد الزّلزال أصبحت الحبّة قبّة".
توزّعت الأطروحة على مقدّمة وفصلين وخاتمة. تحدّثت الباحثة في المقدّمة عن أهميّة الموضوع وأسباب اختياره والإشكاليّة والفرضيّات والمنهج ونقد المدوّنة. وفي الفصل الأوّل تحدّثت عن البناء السردي للرواية من حيث سيمياء العنوان وبناها الكليّة والجزئيّة، ثمّ الوحدات السرديّة الأساسيّة والإدماجيّة، وصولاً إلى محرّك هذه الوحدات.
وبحث الفصل الثاني في بناء الشخصيّات وهويّتها العقلانيّة، الرومانسيّة والمضطربة وبرامجها السّرديّة، وصولاً إلى البنية الدلاليّة.
وخلصت سلام في المحصّلة إلى جملة من الأمور استنتجتها نتيجة دراسة "مرايا الذّات في ثنائيّة العلم والخيال" في رواية "حبّ خارج البرد"، حيث إنّ البطل في صراعه الدّائم للبحث عن معشوقته وإعادتها إلى الحياة، يتعرّض لعراقيل جمّة تسدّ عليه الطّريق للوصول إلى الهدف المنشود. "
قالت "ترسم الرّواية شخصيّات متنوّعة فمنها العلميّة ومنها الرومانسيّة ومنها المضطربة. تصارع مجموعة من المعوّقات بكلّ ما تمتلكه من تطوّر وتكنولوجيا وحداثة في جميع مرافق الحياة، في مجتمع متحضّر ومنفتح، وتتّصف بخصائص تشعرها بالنّقص على المستوى النّفسي، ما أثّر في برامجها السّرديّة وعلاقتها بثناثيّة العلم والخيال. وتاليًا، تتأطّر هويّة الشخصيّات النفسيّة تحت عناوين عديدة، يمكن حصرها بالعقلانيّة العلميّة والرومانسيّة والمضطربة.
نرى أنّ شخصيّة البطل في الرّواية تدلّ على أنموذج الرّجل الّذي يفتك بأغوار حياته حبّه الرّاحل، وما يؤكّد ذلك أنّه يستمرّ في البحث عن بابٍ أملٍ يعيد الحياة إلى معشوقته، فهو يتخبّط منذ صفحات الرّواية الأولى على حبّه المفقود، فيعاني ويتألّم ويكتئب، حتّى تكاد صرخته المدوّية تصل إلى أعماق قلوبنا. وتتجلّى بعض النتائج منها، فقدان القيم الرّوحيّة وانعدام المشاعر الإنسانيّة بين البشر، الإيمان بات سمة نادرة لدى غالبيّة البشر، حيث أصبحوا ملحدين ولا يخافون من الله، عودة الإنسان إلى ذاته وإنسانيّته، العودة إلى اللّه والرّوحانيّات والتّسلّح بالإيمان، الإبتعاد عن الماديّات، ضرورة إيمان الإنسان بالقدر والمصير، العاقبة الوخيمة للتحكّم بالمصير وبمشيئة الله. إنّ التطوّر الحاصل في جميع مرافق الحياة سهّل معيشة الإنسان، كما وعمد إلى تقصير الحدود والمسافات بين البلدان، ولكنّه في الوقت عينه قضى على الإنسان، حيث بات بمقدور الآلة القيام بما يقوم به البشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق