هيثم فرحان صالح *
إنّ كتاب "فن العيش الحكيم" للفيلسوف الألماني "أرثور شوبنهاور (1788 – 1860/ Arthur Schopenhauer) الغنيّ عن التعريف، هو عبارة عن طرح لنموذج حياة، ويحمل مجموعة من القواعد والمسلّمات الواجب اتّباعها والعمل بها. هذه القواعد، وتلك المسلّمات، تندرج تحت إطار قناعات فكريّة تولّدت لدى شوبنهاور، وهي مرتبطة بتجربته وظروف حياته.
وُسم شوبنهاور بالتشاؤم، وكان له تأثير كبير لاحق على فلاسفة ذلك العصر، وإلى الآن هناك كثيرون يعيدون قراءة شوبنهاور وطروحاته.
لقد تأثر بشوبنهاور الفيلسوف "فريدريك نيتشه (1844- 1900/Friedrich Nietzsche) وهو عادةً ما أشار إلى ذلك، بكتاباته ومؤلفاته العديدة، فلقد مثّل شوبنهاور حالة خاصة في الفلسفة، وهو حصل على الدكتوراه فيها في سن صغيرة نسبيّا (في الخامسة والعشرين)، وشهدت حياته الخاصّة الكثير من المنعطفات الصعبة والقاسية. ظروف حياته الخاصّة، كان لها الكثير من التداعيات اللاّحقة التي أثّرت على مختلف مراحل حياته، وساهمت تلك الظروف، والأحداث التي عايشها وخبرها، في تشكيل آرائه وأفكاره تجاه الحياة والعلاقات الاجتماعيّة من جهة، وباتجاه الإطار الثقافي والفكري في النصف الأول من القرن التاسع عشر الذي كان غنيًّا بالطروحات الفكرية والفلسفيّة والثقافيّة من جهة أخرى.
تأثّر شوبنهاور منذ البدايات، بالعديد من الأحداث المؤلمة، حيث انتحر والده وكان شوبنهاور لم يتجاوز السابعة عشر من عمره، وما لبثت أمه أن فارقته لتعيش بعيدًا منه في نمط حياة متحرّرة وخالية من أيّ وازع ديني أو أخلاقي، ما جعل علاقته معها، وفي مختلف مراحل حياته، تحمل توتّرًا شديدًا، وإشكالات عميقة. رأى شوبنهاور أنّ تصرّفات والدته تتّصف بالأنانية، واللاأخلاقيّة، وتعدّ مثالًا ونموذجًا للمرأة الغاوية واللامسؤولة والانتهازيّة... إلخ. ترك ذلك جرحًا نفسيًّا غائرًا، وأثّر على علاقة شوبنهاور بالمرأة، وعلى الكثير من أفكاره تجاه النّساء عمومًا.
الكلام على شوبنهاور قد يحتاج إلى الكثير من المجلّدات، للإحاطة بما طرحه وقدّمه في مؤلفاته، لكنّنا هنا نكتفي بالإضاءة على ما جاء هذا الكتاب القيِّم.
يذكر شوبنهاور في هذا الكتاب أنّ أرسطو قد قسّم الخيرات في حياة الناس إلى ثلاثة أنواع: خيرات ماديّة، وخيرات معنويّة، وخيرات بدنيّة. اعتقد شوبنهاور استنادًا إلى هذا التقسيم الثلاثي، أنّ الحياة البشرية محكومة عمومًا بثلاثة شروط وهي:
الكينونة: أي ما نحن إياه، ولها صلة بشخصيّة الإنسان، بمعناها الشامل، وتشمل الصحّة والقوّة والجمال والمزاج والطبع الأخلاقي والذكاء.
الحيازة: أي ما عندنا، أو ما نملكه من أشياء.
التمثّلات: أي ما تُمثّله في أعين الآخرين وموازينهم، أو بالأحرى، الطريقة التي يتمثّلنا بــــها الآخرون، والدالّة على مدى تقديرهم لنا مــن عدمه، وهو ما يتبيّن من خلال آرائهم التقديرية التي يصنفون الناس اعتمادًا عليها، القائمة على معايير الشرف والمكانة والمجد (ص15 من الكتاب).
ركّز شوبنهاور على المستوى الأول، أو الشرط الأوّل المحكوم بالكينونة، ورأى أنّ اختلافات الكينونة المتعلقة بكل شخص، بصفته فردًا، لها التأثير الحاسم على سعادته أو تعاسته، وذلك بالمقارنة مع الشروط الأخرى التي هي من وضع الناس، والمندرجة في المستويين الثاني والثالث، فالمزايا الشخصيّة التي تشمل العقل الراجح، والقلب الكبير، شبيهة بالملوك الحقيقيّين، بينما مثيلاتها ذات الصلة بالمقام أو النسب الملكي، والثروة وما شابه، أشبه ما يكون بمن يمثل دور الملك على خشبة المسرح، حتى ولو كان ملكًا بالنّسب، كما ذكر شوبنهاور. فالأساس في سعادة الفرد، من عدمها، هو قطعًا، ما يحدث بدواخله، وما يعمل في قرارة نفسه، ذلك أنّ كلّ فرد هو محكوم بحركته الإرادية، وهو نتاج مباشر لمداركه وأحاسيسه، أما الأشياء الخارجية العارضة فتأثيرها عليه مشروط بأحواله الداخلية.
فكلّ واحد منّا محكوم بطريقة إدراكه للأشياء، وهذه الطريقة تختلف من شخص لآخر باختلاف الذكاء والتجارب لاحقًا. والسبب في كلّ ذلك، أنّ كل واقع أو حدث، يتشكل من شقين: الذات والموضوع، وبطبيعة الحال إنّ الذات تتمثل بالواقع بشكل مختلف تبعًا لكل فردٍ، فكل واحد منّا منغلق في وعيه الذاتي، ولا يعيش على نحو مباشر إلا من داخله، رغم امتزاج الذات بالموضوع، والتساوي بالأهميّة، إلاّ أنّ الذاتي متباين، ويأتي دومًا على نحو مختلف، بينما الموضوعي يأتي مطابقًا دائمًا لذاته.
فعلى خشبة المسرح، يتقمّص الأمراء والمستشارون والخدم والجند والجنرالات، وغيرهم، أدوارًا مختلفة، غير انّ هذا الاختلاف لا يطال إلا مظهرهم الخارجي، أما دواخلهم فتبقى على حالها بما هي نواة كلّ شخص (ص17 من الكتاب). ومن المؤكد بحسب شوبنهاور، أنّ الذاتي أهم بكثير من الموضوعي في الإنسان وعليه الأساس في توفير سعادته، وخلق متعِه في كلّ مناحي الحياة. فالشرط الأول، والجوهري لسعادتنا، هو ما نحن إياه، وهو طبعنا أولًا وأخيرًا، فهو الذي يؤثر فينا على نحو مباشر، وفي كلّ الظروف.
يورد شوبنهاور في معرض حديثه عن فن العيش، قاعدة سامية لكل حكمة ممكنة في هذه الدنيا، وهي ما قاله أرسطو في كتاب: "الأخلاق إلى نيقاموس"، والقاعدة هي: غاية الحكيم ليست حياة مُترعةً في اللّذة، بل خالية من الألم (ص58).
ويستند جوهر هذه الحكمة على حقيقة ترى أنّ كــــل لذة (متعة)، وكـــــل ســــعادة ذات طبيعة سالبة، بينما الألم ذو طبيعة موجبة. فالمعرفـــة المجـــــــردة خالية مــــــن الألم، وكلما كانت لــــــها الغلبة والأرجحية في التصوّر البشري كان المرء أسعد المخلوقات (ص63)، والدّليل على ذلك، أنّ كل متعة سالبة بطبيعتها، وكل ألم موجب بطبيعته.
ويلحظ شوبنهاور أن أبيقور قسّم الحاجات الأساسية تقسيمًا رائعًا من خلال تحديد لها في ثلاثة أنواع:
1ـ الحاجات الطبيعيّة الضروريّة، إن لم تُشبع كانت مصدرًا للألم، وتشمل الحاجة إلى الغذاء والكساء، وكلّ الحاجات التي يتيسّر إشباعها.
2 ـ الحاجات الطبيعيّة غير الضروريّة، وتشمل الحاجة الجنسيّة، وهي حاجة غير متيسّرة الإشباع دائمًا.
3 ـ الحاجات غير الطبيعيّة وغير الضرورية، وتشمل الحاجة إلى الترف والبذخ والإحساس بالعظمة والأبهة، وما شابه، وإشباعها غير متيسّر، وبالغ الصعوبة.
يرى شوبنهاور أنّ المجهود الذي يبذله الإنسان للرفع من سقف مطامعه ومطامحه، مصدر كلّ مشاعر السخط والاستياء التي تخالجه، ذلك أنّ المجهود الجبار غالبًا ما يصطدم بعقبات تعترضه، وتحول دون الوصول إلى مراده. فلا غرابة إذًا، أنّ الناس يحبون المال حبًّا جمًّا، فهم في غدوهم ورواحهم، وفي كدّهم وتدافعهم، يرفعون من قدره لأنّ حياتهم يسحقها الفقر والعوز، وتمور بالحاجات المرغوبة والمشتهاة، فحتى السلطة لا قيمة لها في موازينهم إن لم تجلب مالًا وثروة (ص65). لذا، ليس علينا أن نندهش عندما يضربون بعرض الحائط كل الاعتبارات الأخلاقيّة في سعيهم المحموم نحو كسب المال والاستزادة منه.
من جهة أخرى، يرى شوبنهاور أنّ النبيل في فترة شبابه، يتوهم أنّ التحلي بالأخلاق الفاضلة والذوق الرفيع، والذكاء الوقّاد، والمحترميّة، خصال يمكن أن تجمع الناس، لكن مع التقدم في السنّ، يكتشف أنّ الكلمة الفصل في العلاقات البشريّة، هي دائمًا للاعتبارات المادية التي توجّهها المصالح والمنافع، فالانغشالات الماديّة الصَّرفة، هي أساسها وقوامها. إنّ الإنسان لذاته وفي ذاته، لا يعتدّ بها إلا عرضًا، وعلى سبيل الاستنئاس، ومن باب المتعة، فأغلب الناس يضعون المناقب البشريّة على الرّف.
يلحظ شوبنهاور من جانب آخر، أنّ الشعور القومي شعور زائف؛ فالشخص وُجد بمحض الصّدفة في أمّته، وبالتالي، إنّ الشعور القومي هذا، شعور زائف، ويرى أنّ شعارات الشّرف والوفاء هنا تعبّر عن ما سمّاه، الضمير الخارجي، بينما الضمير الحقيقي هو الشعور والشّرف الداخلي للشخص، ولا يتعلّق بمكانه، أو جنسيّته.
إنّ الأحداث والمغامرات والوقائع السعيدة والتعيسة، على الرغم من غزارتها وتكاثرها، شبيهة بمصنوعات الحلواني التي تجد فيها ذات الأشكال الملتوية أو المبرقعة وغيرها، علمًا بأنّها مصنوعة كلها من عجينة واحدة. فالعناصر المكوّنة للوجود البشري تظل على حالها، على الرغم من أشكالها المتعدّدة والوافرة، فشروط حدوثها كذلك تبقى هي هي، سواء عاش الإنسان في كوخ ضيّق، أم في قصر فاخر، أم في دير أو ثكنة.
فما حدث اليوم لزيد، مماثل لما حدث بالأمس لعمر، ومع ذلك اقترفه زيد مجددًا على علاته. فالحياة أشبه بقطعة قماش مطرَّزة، لا يرى الغُرّ، إلا وجهها في الشطر الأول من حياته، وفي شطرها الثاني، فقط، ينظر إلى ظهرها، أو قفاها، الأقلّ جمالًا وجذبًا للنظر. فالوجه الخلفي هو الأكثر إفادة رغم ذلك، فهو الحقيقة، إذ على سطحه تترابط، وتتشابك الخيوط الناسجة له (للثّوب).
ففي الأربعينيّات من عمر الإنسان يكون للتفوّق الفكري، السلطة والغلبة، نتيجة اكتسابه للتجارب والخبرات التي تتجاوز الذّكاء. فالتجربة هي النّص، بينما التفكير والمعرفة هما التّعليق والتعقيب على النّص، التجربة هي النّص، والتفكير هو الحاشية (ص80).
وكلّ من جبته الطبيعة بالتميّز العقلي، يميل إلى العزلة الشعوريّة والعقليّة عن العوام الذين يمثلون ثلثي البشرية، حيث تعلوه غلالة من النفور من بني البشر، ويميل تلقائيًا إلى تفاديهم ما أن تخطّى عتبة الأربعينيات من عمره، فقد خالطهم وشبع من معاشرتهم، وعرفهم حقّ المعرفة، ثمّ وضع كل واحد منهم في منزلته الحقّة، ولم تعد تنطلي عليه الأكاذيب والمظاهر الخدّاعة.
الشاب في مقتبل العمر، يكون مقبلًا على جلبة الناس وتدافعهم، منخرطًا في مكائدهم ودسائسهم، بل ويجد فيها الراحة والعزاء، تراه منسجمًا فيها كما لو كانت من فطرته وسجيّته التي بها خُلق.
غير أنّ الشاب من هذه الطينة، لا يبشّر بخير، إذ يعطي الدليل بسلوكه على نزعته السّوقيّة، وميله الطبيعي إلى حياة الغوغاء، عكس الشاب الذي يبدو حائرًا، شاردًا، متردّدًا وعديم الحيلة وسط جمهرة الناس، وهذا الشاب يرسل إشارات عفوية على سموّه، وعلى نبله وندرة معدنه (ص289).
بالمقابل، لا يتحصّل المرء على دراية عميقة بالأشياء، وحقائقها وكنهها بفضل استغراقه في التأملات، بل بفضل الحدوس الذي من خلاله يدرك الأشياء بلا وسائط، اي إدراكًا حسيًّا مباشرًا متأتيًا من الأثر اللحظي الذي تُحدثه الأشياء والموضوعات فيه. فالحدوس، بهذا المعنى، مشروط بانطباعات نافذة، شديدة الحيوية وعميقة الغور.
ويشير إلى أن الإنسان في شبابه ميّالٌ إلى الاستغراق في التأمّلات الجانبية، وعند اكتمال نضجه، يشتدّ ميله إلى التفكّر والتدبّر، فالشّباب هو زمن الشعر والشرود الذهني، بينما النضج هو زمن التفلسف والفلسفة.
يورد شوبنهاور تلك الحكمة عمّا يدير العالم، فالعالم تدبّره قوى ثلاث: الحذر، والقوّة، والحظ، ويرى أنّ الحظّ هو الصدفة في هذه القسمة. فإذا كان هذا العالم كسفينة تمخر عباب البحر، القدر فيه، هو الرياح الدافعة بقوة للسفينة إلى الأمام، أو إلى الخلف، وكلّ المجهودات أحيانًا، التي يبذلها ربّان السفينة لتغيير اتجاه السفينة، وللتخفيف من دفع الرّياح ذات تأثير ضعيف جدًا، أمّا إذا كانت حركة الرياح مساعدة وإيجابية، أي تجري كما تشتهي السّفن، كما يقال، فلا حاجة للإنسان للمجاديف أو لتحريكه لها.
إنّ الصدفة لا تني تلقّن الإنسان، أنّ الاستحقاق البشري هو لا شيء في ميزان الصدف ونعمها، هذا هو الدرس من هذا المثال. فالعاقل يقتنع بحقيقة بسيطة مؤداها أنّ مجريات حياة الإنسان هي عصارة عاملين أساسيّين، ولا تتحكم فيها فقط إرادته: أولهما؛ معرفة بتسلسل الأحداث والقرارات التي اتّخذها بشأنها، والتي لا تتوقف عن التفاعل والتشابك، والحال أنّ المعرفة والرؤية البشرية، ومهما بلغت من الكمال، تظلّ محدودة بقدرته على الإدراك، فهي قاصرة عن توقع كل شيء، خصوصًا الأشياء البعيدة، ومن جملتها الحلول المناسبة لمشكلاته هنا، والآن، والتي يجب أن يجنح إليها في اللّحظة المناسبة.
ففي معمعة الأحداث، ليس واقعيًّا للإنسان إلاّ اللّحظة الماثلة أمام عينيه، فإذا كان الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه بعيدًا، فسيتعذر عليه منطقيًّا، السير باتجاهه سيرًا مباشرًا ومستقيمًا، وغاية ما يستطيعه، هو تلمّس الطريق الواجب اتباعه بحساب الاحتمالات، أي بالمعادلات الرياضية التقريبيّة. لذا، يتخذ القرار على ضوء الحدث الواقع، والملابسات التي وقع فيها، وفي سياقها، ويحذوه أمل دائم في اتخاذ القرار السليم، الكفيل، بتقريبه أكثر فأكثر من الهدف الذي وضعه نصب عينيه.
يجوز تشبيه الأحداث التي تعترض الإنسان في حياته من جهة، والأهداف التي يسعى إليها ولتحقيقها من جهة أخرى، بقوّتين تسيران باتّجاهَين متعاكسَين، فحياته كلّها ليست سوى المحطة الأخيرة التي تستقرّ فيها هاتان القوّتان. إنّ الأحداث الطارئة والأهداف المرسومة، هي التي تُشكّل، من خلال تفاعلها، عُصارة المسار الحياتي للإنسان، ومآله الأخير والنهائي.
فالحياة لعبة نرد، إن لم تحصل على العدد الذي تريد، اقنع بما وضعه القدر بين يديك.
ويستدرك قائلاً: إلاّ أنّ هناك فارقًا جوهريًّا، بين مدارك الخاصة ومدارك العامّة من الناس، فالعوام يمثلون الأخطار المحتملة، انطلاقًا من أحداث مماثلة لها سبق وقوعها، فيقيسونها على هذه الأخيرة، بينما يتمثلها الخاصة أصحاب العقول الراجحة، كما نتمثّل المحتمل الوقوع، عمومًا. فشرط الإحاطة الشاملة بالمحتمل الوقوع هو التوفّر على ملكة الحكم، بينما تمثّله من خلال الحادث سلفًا، ولا يتطلب من صاحبه إلاّ أعمال الحواس.
يُسرف المرء في سنوات شبابه، على إنتاج تصورات خيالية حول أشياء وموضوعات هذه الحياة، على حساب المعارف المتينة، والرصينة، التي لا يكاد يكون لها وجود في هذه المرحلة من عمره، أما عند اكتمال نضجه، تكون الغلبة لملكة الحكم على الأشياء، وتقديرها حقّ قدرها، وترجّع كفّة معرفته العميقة والنافذة بها. بيدَ أنّ سنوات الشباب تظلّ، وبلا منازع، هي شجرة المعرفة التي لا يُجنى ثمارها إلا بعد حين، أي بعد انصرام هذه السنوات. فالإنسان لا يصبح معلّمًا محنّكًا إلاّ بعد ولوجه فترة النضج، وهي خلاصة التصوّرات الدقيقة عن هذا العالم، وموضوعاته، واكتسابه لرؤى جوهريّة وأصيلة بصددها. اللافت أنّ الذكاء، خلافًا للطبع والوجدان، تطوله تغيرات في هذه المرحلة من العمر على نحو مطرّد، هذه التغيرات التي تطال التركيبة المادية للذكاء، باتجاه الصعود أو الهبوط، تتحكم فيها المعارف والأفكار والتجارب وملكة إصدار الأحكام.
إنّ هذه التركيبة المزدوجة الجامعة بين شق ثابت هو الطبع الإنساني، وشق متغيّر هو الذكاء الإنساني، تكوّن عُرضة، على نحو منتظم، لتغيرات تسير في اتجاهين متعارضين برأي شوبنهاور، وبالتالي، فهي سبب كل التحوّلات التي يمرّ بها الإنسان في حياته، والتبدل الذي يطالب قيمته الرمزيّة ووضعه الاعتباري.
في أربعينيّات العمر التي هي "نصُّ الحياة"، تليها السّنوات التي هي متنها، أو شروحات ذلك النَّص. تلك الشروحات التي تمكّن المرء من إدراك المعاني، والمغازي العميقة لمجريات حياته، في تسلسلها، والتي لا بدّ أن تمدّه بالعِبر الغالية، والفوائد الجمّة، التي ستكون له خير زاد في سنوات حياته المتبقيّة. والأكثر إثارة في هذه السيرورة، أنّ المرء يكتشف ذاته لأوّل مرة بعد أن كان يظنّ أنه أعرَف بها من غيره، فيكتشف أنّه جاهل بحقيقتها وأسرارها وألغازها، بل وجاهل بتحقيق الغاية التي كان يلهث لها، والطموحات التي كان يهفو إليها.
كلّ هذه الأمور، يخلص شوبنهاور إلى، أنّها لا تنكشف إلاّ عندما يشارف على النّهاية، هذا هو القدر العام لبني البشر، والسيرورة الإجمالية التي تسير وفقها حياتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق