أمل سالم * - قصة
يسكن في منطقة راقية، أطلق عليها أصحابها: "كمبوند". يبدو أنهم كانوا فرحين بتكرار الكلمات الأجنبية في حديثهم، فالبعض منهم كان يقول الكلمة بالعربية، ثم يتبعها بترجمتها بلغة أجنبية، أو العكس! ولأن المبلغ المدفوع في الوحدة السكنية الواحدة يفوق كثيرًا قيمتها الحقيقية؛ فقد وفّرت الشركة المسؤولة حارسًا خاصًّا أطلقوا عليه: الأمن Security.
- العب يا أحمد.
- شوط ع الجون ياد.
- افتحي يا وردة، اقفلي يا...
- هييييييييه.
وبالطبع من حقّي كعميل أن أهاتف مسؤول الأمن عندما يشوب الأمر قصورٌ ما.
- ألو.
= ألو يا أفندم.
- ممكن أقدم شكوى؟
= الاسم، وبيانات الوحدة من فضلك، ونوع الشكوى؟
ما هي ألا دقائق وتظهر "جماعة الزرق"! و"جماعة الزرق" ليست جماعة إرهابية كتلك المنتشرة في عصرنا هذا التي يصعب الحصول على تعريف منطقي لها، وإنما هم رجال الأمن الداخلي المسؤولون عن حفظ الأمن، هم عادة من غير المتعلمين. أسميتهم كذلك لأنهم يرتدون زيًّا أزرق. على الفور يقومون بتفريق جماعات الصبية التي تلعب في الحدائق القريبة من المساكن.
لاحظت في الفترة الأخيرة أن رجال الأمن أصبحوا أكثر ليونة مع الأطفال، وأنهم ما إن ينصرفوا حتى يعاود الصغار الذين لا أكن لهم الحبّ، التجمع واللعب مرة أخرى. يلزمني عند ذلك معاودة الاتصال، وبالطبع أصبح حضور "جماعة الزرق" يستلزم مزيدًا من الوقت؛ ثم أصبحوا لا يحضرون.
- ألو.
- نعم.
- ممكن أقدم...
- تن تن تن تن.
أغلقوا خط الهاتف في وجهه بحجة أن الحرارة انقطعت أو أن الشبكة رديئة، وتكرر ذلك الأمر كثيرًا.
لاحظ في مرة من المرات وهو يدخل العمارة أن أبًا لأحد الصبية يقف مع رجل الأمن المختص، ثم يضع يده في جيبه ويخرج ورقة نقدية، لم يرَ فئتها، ويعطيه إياها!
قررت أن أتوجه لأكبر مسؤول للأمن، أكبر مسؤول، وسآخذ حقّي الذي حررت من أجله عقدًا بكل ما أملك، ألا وهو العيش في الأمن والهدوء.
سأل عن مقرّه وذهب إليه، حين دخل المكان وجده أشبه مــــــا يكون بقسم الشرطة؛ فعلى الباب الخارجي يقــــف أحـــــــــد أفراد الأمن:
- رايح فين يا أستاذ؟
- أريد أن أقابل المسؤول عن أمن الكمبوند.
اصطحبني إلى الداخل، دون أن ينبس ببنت شفة؛ حيث وجدتني في بهو واسع! أوسع من شقتي غالية الثمن. كان على الجانب مكتب معدنيّ مثل ذلك الذي يوجد في أقسام الشر
طة، يجلس عليه اثنان قويان من "جماعة الزرق"، تمامًا مثلما يحدث في أقسام البوليس، ويجلس عليه أمناء الشرطة؛ ليستجوبوك قبل الدخول إلى قائدهم الضابط.
- ماذا تريد؟
- أقابل المسؤول.
- الضابط ولاء؟
- لا أعرف اسمه.
- ما مشكلتك؟
- أريد أن أتحدث معه شخصيًّا.
- خرج في مرور.
قلت لنفسي: "مرور! يستخدمون نفس مصطلحات المؤسسات الأمنية"!
- سأنتظره، هل يوجد كرسي لأجلس عليه؟
على مضض أحضروا له كرسيًّا ووضعوه بجوار حائط، فجلس عليه. طال انتظاره، لكنه كان مستمتعًا بمشاهدة ما يدور حوله، فكل واحد منهم لديه جهاز مثل الذي يستعمله رجال الاستخبارات والتحريات:
- أسمعك بقوة خمسة على خمسة، حول يا باشا.
- ألو يا أفندم، محمد اتجه إلى الشقة التي سُرقت بالأمس.
- السور الخارجي تمام يا أفندم.
كل واحد منهم كان يعيش تمامًا دور الشرطي، ولأنه غير مسموح لهم بحمل الأسلحة، فقد وضع كلّ واحد منهم على جانبه الأيمن من الخلف، عصًا غليظة طليت باللون الأسود.
فجأة حضر الضابط، وعندما همّ بالدخول صرخ الرجل بالخارج:
- اااااانتباااه.
انتفض فردا الأمن على المكتب، ووقفا.
أشار أحدهما إليّ بيده أن أقف! ودون تفكير وقفت في وضع انتباه الذي كنت قد تعلمته خلال خدمتي العسكرية. دخل الضابط دون أن ينظر إلى أحد، وأعطاه فردا الأمن التحية العسكرية بيديهما عند الجبهة، وعلى الفور وجدتني أفعل مثلهما بخوف ووجل.
عاود الجلوس وهو مذهول مما حدث، فما حدث فعله دون تفكير، وعندما يذهب إلى بيته ويراجع نفسه سيحزن أنه اندفع وفعل ذلك.
- هل يمكن أن أدخل الآن؟
- لا، انتظر أن يشرب سعادته القهوة ويستريح من المرور.
- كم من الوقت أنتظر؟
- سيرنّ هو الجرس، فنعرف أنه قد سُمح لك بالدخول.
- وكيف يعرف أنني في انتظاره؟
- إنه يراك الآن في الكاميرا. وأشار بيده إلى أعلى، حيث رأيت شيئًا أسود، وللمرة الأولى أعرف أنها كاميرا.
انتظر كثيرًا، فقد الإحساس بالوقت من متابعة النظر إلى الساعة. للحظات أخذته غفوة، في غفوته رأى جسدها الأبيض المرمري ذا البشرة الملساء الناعمة، خالجه شعور بالجنة ونعيمها وهو يتحسسه. استيقظ فزعًا على صوت جرس عالٍ متواصل.
- ادخل يا سيد، سيادة العميد في انتظارك.
قلت في نفسي: "عميد! أعرف أن المكان به شركة خاصة للأمن؛ تم استئجارها من عائد الوديعة البنكي الذي اشترطته الشركة أثناء بيعها لنا. كل هؤلاء يقبضون راتبهم من عائد وديعتنا نحن ملاك الوحدات السكنية في هذا الـ"كمبوند"، ما الذي أتى بعميد إلى هنا؟!".
فتح أحدهم الباب، حيث أُدخِلَ لمقابلة الضابط، فوجده جالسًا على مكتبه، مكفهر الوجه، بعينين جاحدتين ينظر إليه.
- ما شكواك؟
- هل يمكن أن أجلس؟
- اجلس.
- إنني أقطن..
- أعرف، وأعرف أن الأطفال يلعبون أسفل العمارة التي تسكن فيها، وأعرف أنك دائم الشكوى منهم.
ابتسمت في دهشة، ثم سألته:
- كيف استطعت سيادتكم أن تعرف كل هذه الأشياء؟
- كل شيء هنا تحت السيطرة Under contrOOOOl، أنت في "Smart Compound"، ولضمان الأمن فلدينا شبكة من الكاميرات عالية الجودة، نفذتها أكبر الشركات العالمية، تستطيع أن تظهر كل شيء في الـ"كمبوند"، تستطيع أن ترى بوضوح الحشرات وهي تتحرك على الزروع، نستطيع أن نرصد السكان وهم يدخلون ويخرجون، وهم ينظرون من الشرفات، وهم ...
اندهش! ثم فتح عينيه على وسعهما، وقال في نفسه:
"وهم يدخلون ويخرجون! أوووه، لا بد وأنهم رأوها عندما أتت إليَّ".
- كل شيء يظهر هنا في "المونوتر"، انظر خلفك.
وعندما نظر خلفه وجد عددًا كبيرًا من شاشات العرض الضخمة معلقة على الجدار، وتظهر فيها صورٌ لأناس يتحركون ذهابًا وإيابًا، همس في نفسه:
"أووه، لقد رأوها بالفعل عندما دخلت معي، وعرفوا أنها مكثت عندي نصف يوم، هذا العميد يلمح بكلام غريب إليّ".
- نحن نرصد الغرباء الذين يدخلون، ونحاول أن نعرف أسباب دخولهم الـ"كمبوند"، انظر: هذه عمارتك.
"أووه، إنه يلمح بمعرفته، ففيما يبدو أنه يعرف أنني أسكن وحدي، وأن سيدة جميلة عندما تأتي إليَّ لا بد أن يكون قد تتبعها".
- الكاميرات لدينا يمكن أن تكبر الوجه لنرى الملامح بوضوح، بل ونتتبع المشاعر في العيون.
"أووه، لا بد أنه كبر وجهها، ويعرف الآن ملامحها جيّدًا".
- كما إننا نحتفظ بتسجيل لكل شيء حدث، منذ لحظة افتتاح الـ"كمبوند" حتى الآن، ويمكن استعادة التسجيلات السابقة في أي وقت إذا لزم الأمر.
"إنه يهددني، يستعيد وجهها ويضعني تحت طائلة القانون: من هذه؟ ولماذا أتت إليك وأنت الرجل الأعزب؟".
تعرّق جسده تمامًا، غاص في مقعده، ثم قرر الانصراف.
- سيادة العميد، كان لدي مشكلة مع لعب الأطفال، والآن عرفت أن الأمر...
- سأعمل على حلّ مشكلتك المعقدة، لأن استمرار المشكلة قد يسبب "فوبيا" للعميل، فقط بعد أن أحلّ مشكلة بسيطة حدثت في إحدى الشقق الأمس.
انخفض صوته وكأنه يحدث نفسه: عندما يعود محمد، فهي أول مشكلة تواجهني مذ أُحلت إلى المعاش، كنت اسمًا على مسمّى كما كانوا يصفونني، فولائي لقادتي جعلهم يساعدونني في العمل مديرًا لأمن هذا الـ"كمبوند". لكني وزملائي العمداء في الـ"كمبوندات" الأخرى نلتقي كل ليلة، نتباحث في المشاكل، ونحاول حلها معًا. ثم أكمل بنبرة عالية وواثقة: "يمكنك الانصراف باطمئنان يا سيد؛ لأن عدم الاطمئنان يربك العميل، ويُحْدث خلطًا في المفاهيم ويوقف التفكير".
خرجت من مكتبه مشوش التفكير، مشيت في شوارع الـ"كمبوند" مهزوزًا، ينتابني الرعب كلما تذكرت أن كل صغيرة وكبيرة محسوبة علينا في مكتب هذا الـ"مدير أمن".
ثـم توقف فجأةً في مكانه كمن اكتشف شيئًا مذهلًا بالمصادفة، وقال في نفسه:
"أوووه، عمداء، عمداء، عمداء! قالت لي أن زوجها كان وكيلًا للدراسات العليًا ثم أصبح عميدًا، وإنه عرفها منذ أن التحقت بالكلية، فقد كان معيدًا في نفس القسم الذي التحقت به، وأنهما عندما كانا صغيرين طاردها في أرجاء الكلية إلى أن توسط أحد الأساتذة في خطبتهما. قد يكون زوجها أحدهم، أحد أصدقائه العمداء الذين يجتمعون كل ليلة. يوم أسود، سيُريه وجهها في "مونوتيراته" الكثيرة. ليتني ما أحببتها، ليتني ما عـرفتها، انتهى أمري، لقد قضي عليّ".
بخطوات بطيئة كان يجرجر الهزيمة وهو يعود إلى مسكنه، قلبه ينتفض، يسمع دقات قلبه في أذنيه. وعندما أغلق باب مسكنه عليه زاحم دقات قلبه في أذنيه، صوت قادم من الشرفات:
-جووووووون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق