♦ وجيه جميل البعيني *
أنا يهودي، لكنني لست صهيونيًا. مسيحي، إنما لست مسيحانيًا. مسلم غير أني لست إسلامويًا. بوذي، لكنني غير بوذوي. إيراني، غير أني أستنكف عن كوني فارسيًا. تركي، بيد أني أربأ بأن أكون عثمانيًا طورانيًا. علماني ولست علمانويًا. أنا كل الأديان والطوائف. أنا كل الإثنيات والقوميات.
بالمقابل، أنا لبنانوي، ولست فقط لبنانيًا. متعصب للبنانيتي حتى العظم. لكنني لا أنكر وجود الآخر المغاير، بل أحبذ هذا الوجود، لما في ذلك من تثاقف وتكامل. فاللون الواحد هو بمثابة جزيرة مغلقة أو مياه متأسنة في حال عدم الانفتاح على الغير.
أنت تملك دولارًا. أنا أملك دولارًا. تبادلناهما. سيبقى مع كل منا دولار واحد. بالمقابل، أنت تحمل فكرة. أنا أحمل فكرة. تبادلناهما. ستصبح لدى كل منا فكرتان. فكيف بالحري إذا تعددت الأفكار؟ هنا تكمن أهمية التعددية، إذا استطعنا استثمارها بصورة إيجابية. ويتمحور هدفي حول الإنسانية. فهذه الأخيرة هي جملة من القيم السامية، بينما البشرية هي معطى بيو-فيزيولوجي طبيعي، على غرار الحيوانية والنباتية.
التعددية، بل التناقض، سنة كونية وناموس طبيعي. فلولا وجود الموجب والسالب، والقوة الجاذبة والقوة الطاردة، والبر والبحر والفضاء، والبشر والحيوان والنبات، لاختل التوازن الكوني وتحولت الأرض إلى مسكونة جامدة لا حراك فيها. فالتعدد والتناقض في أساس الدينامية الكونية. هي ثروة تؤثر بشكل واسع على الدينامية الاجتماعية. إنها تعني، وفق الفلسفة المثالية، أن الواقع يتكون من جواهر روحية متباينة ومستقلة عن بعضها البعض. "إن الكون، يقول الفيلسوف لايبنتز، يتألف من ذرات روحية، عناصر بسيطة، غير مجزأة، ذرات الطبيعة وعناصر مشتركة بين الأشياء، حقائق روحية دينامية، مماثلة للأرواح... لكن الله حقق فيما بينها توافقًا، وذلك انطلاقًا من تساوق معد مسبقًا: في الواقع، أراد الله أن يخلق كلًا منسجمًا وأرسى تساوقًا بين كل العناصر".
في الاتجاه نفسه، تتجلى الإرادة الإلهية في "سورة الحجرات: 13": ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، وفي "سورة هود 118": ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾. لكن المتطرفين كما يبدو، أغفلوا هذه الناحية لغاية في نفس يعقوب
إن التعددية، خاصة الدينية، تعني العيش المشترك بين جملة من المعتقدات، مع الاحتفاظ بخصوصيات كل منها. لكن التطرف مرده الى أن كل طائفة تعتقد أنها وحدها تملك الحقيقة وأنه يجب إلغاء حقائق الآخرين المغايرين. في هذه الحال، يصبح التطرف نوعًا من علاقة قطع مع الآخر، مما يؤدي الى الانعزال في جزر مغلقة والجهل المتبادل بين مختلف الطوائف.
كل الأديان تمتلك الجوهر نفسه. إنها تتقارب، خاصة في ما يتعلق بوحدانية الله والدعوة الى فعل الخير وتجنب ارتكاب الشر. وبالتالي، لا يمكن أن يكون الدين عائقًا يحول دون التطور، لكن المشكلة تكمن في الخطاب الديني- خاصة الطائفي- بحيث يصار إلى استغلال الدين لصالح السياسة والمصالح الفئوية. وعادة ما يؤدي هذا الخطاب، دون إغفال التدخلات الخارجية، الى حروب إلغاء طائفية.
ومما لا شك فيه أن الأديان تكامل بعضها بعضًا: المسيحية تكمل اليهودية، والإسلام يكمل الإثنين السابقين. فقد أتى القرآن الكريم على ذكر الأنبياء والرسل، المسيحيين منهم واليهود: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾(يونس: 47). كذلك: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(البقرة: 136).
قد يكون الدين مصدر توتر وعنف أو استقرار وسلام، وفق أسلوب استغلاله. فالتاريخ مترع بحروب دينية وطائفية في شتى أنحاء العالم. وفي الحقبة المعاصرة، يتفاقم الوضع بشكل جنوني. فالصراعات الطائفية على أشدها، خاصة في الشرق الأوسط (مهد الديانات السماوية). ومن أهم أسباب هذا العنف نذكر التزمت الإيديولوجي النابع من النظرة إلى تفوق الذات، والانحراف السلوكي الذي يهدف إلى فرض الرأي على الآخرين. ومما لا شك فيه أن بعض الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية تسهم في التعصب الفكري.
يؤدي المتزمتون دورًا محوريًا في تعزيز السلبية؛ فهم يتصرفون ويلقون خطبًا تثير حساسيات أكثر خطورة من السلاح. وينسحب الأمر نفسه على الزعماء السياسيين- الدينيين الذين يتحول خطابهم من نخبوي وطني الى شعبوي فئوي، حين يشعرون بأن رصيدهم السياسي يتراجع، بغية إثارة المشاعر الدينية والطائفية.
يبقى أن السؤال الذي يطارد مخيلة المجتمعات، منذ بداية الألفية الثالثة، هو كيف يمكن إدارة التنوع، علمًا بأن هذا الأخير هو تراث البشرية المشترك، وهو حقيقة واقعة لا يمكن تجاهلها. وبالتالي ليس أمامنا سوى خيار واحد، بعد أن عجزت الحوارات المسيحية – الإسلامية عن إيجاد الحلول للتنافر والتباعد: التعايش في إطار التنوع وقبول الآخر المغاير مهما يكن وضعه، أحببته أم لم تحبه، أو العيش في العزلة، وبالتالي التأسن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق