- دراسة موضوعاتيّة -
♦ ريتا يوسف حداد *
- نبذة عن البحث:
القصّة فنٌّ سرديّ يعبّر عن تحوّلاتٍ اجتماعيّة، ويضيء على ذاتٍ معيّنة وذواتٍ معنيّة، في تفاعلها مع المحيط، وتبرز هنا أهمّيّة الكاتب المبدع في القبض على اللحظات الزّمنيّة، وتكثيف الأحداث باقتصاد لغويّ.
هذه القصّة "مات أبي مرّتين"** لـ مطانيوس قيصر ناعسي ***، ترجمة لمعاناة ذاتيّه عاشها الكاتب، فلخّص عمرًا في سطور، ما يعني أنّه من نوع السّيرة الذّاتية، فالأحداث مسّته بشكل مباشر.
والأسلوب المعتمد في هذه القصّة أسلوب القهقرى؛ فقد بدأت من الحادثة الأخيرة: موت الأب وبعدها عاد السّرد إلى الماضي، إلى أحداث حصلت قبل الموت بدءًا بأخبار النّاس عمّا حصل مع الأب من أحداث، عن سبب جنونه، وأثره الصّعب على العائلة، واصطحاب الكاتب لوالده إلى العيادات الطّبّيّة، بعد مرضه الجسديّ في أواخر عمره، فالرّثاء والدّعاء. والسّرد ذاتيّ والرّاوي الكاتب عينه، وبطل القصّة الحقيقيّ.
وقد يخدم المنهج الموضوعاتيّ هذه الدّراسة، لتشعّب قضاياها المطروحة، فيمدّنا بإضاءات فلسفيّة وجوديّة ونفسيّة واجتماعيّة ودينيّة.
تطرح قصّة "مات أبي مرّتين" لمطانيوس ناعسي إشكاليّةً فلسفيّة، إذ يعني بالموت الأوّل فقدان العقل وبقاء الرّوح في الجسد، ويشير إلى فقدان الرّوح في الموت الثاني. الأوّل جعل والده كائنًا لا دور له في الحياة سوى الأكل والشّرب ومعاقرة الأدوية والنّوم، والثّاني سلب الإنسان وجوده الدّنيويّ ليلفظ أنفاسه الأخيرة ويغادر عالم الأحياء. فهل فقدان العقل موت، ما يعني أنّ العقل موازٍ للرّوح؟ وما تداعيات الجنون على العائلة المكوّنة من شخصيّات القصّة؟ وكيف نظر المجتمع إلى الحالة المستجدّة؟ وهل الموت على مرحلتين يقسم آلام الفقد جزأين ويخفّف وطأة قسوته إن حصل في مرّة واحدة؟ وأين وقعت هذه القصّة ومتى؟ وما وقع الإيمان المسيحيّ على الكاتب؟
وإن أردنا الغوص أعمق، نطرح الجدليّة المنطقيّة الآتية: مع تسليمنا بأنّ الفكرة المعالجة جديدة وقلّما تشكّل فكرة رئيسة يدور حولها الخطاب، أليس كلّ إنسان معرّضًا، وبنسب متفاوتة، لأن يكون مجنونًا أو ابن مجنون أو زوج مجنون؟ إذًا يستحقّ هذا الموضوع أن نوليه اهتمامًا فلسفيًّا خاصًّا. قد لا نستطيع تحديد الاتّجاه الّذي سنسير فيه إن وصلنا إلى تلك الحال، ولكن قد تنفع دراسة الوضع، والتعرّف إليه عن كثب، وتقليب وجهات النّظر الّتي قد تلقي رذاذًا من الضّوء على ريبة النّفوس، وقد تحمل إفادة لآخرين غرباء، أو لمقرّبين، أو ربّما لذواتنا. فالمعرفة نقيض الجهل، والمعرفة نور والجهل ظلمة.
ولا ننكر أنّ الكاتب قد رأى العقل كبيرًا، كبيرًا بحجم الموت، فالرّوح حين تفارق الجسد يصبح من دون قيمة، والعقل حين يفارق الجسد يصبح من دون قيمة أيضًا، ونسأل: لماذا كان يتردّد إلى دار المجانين ما دام من يودّ رؤيته ميتًا؟ ولم حمله من طبيب إلى آخر ما دام ميتًا، والميت لا ينفع معه علاج ولا أطبّاء. هل قبول الابن وضع الوالد وتعامله مع الواقع بإيجابيّة كان في الحقيقة رفضًا لا واعيًا لفقدان العقل والجنون؟
والإشكاليّة، التي طرحها، جريئةٌ وصادقةٌ، وقد أراد، من خلالها، أن يتوجّه إلى العقول المثقّفة، بعد أن حاكمه مجتمع الجهل الغريب عن الواقع المعرفيّ، لينقل الإشكاليّة الّتي عايشها إلى ذوي العقول النّيّرة، الّذين لم يسمحوا للجهل الغاشم أن ينخرها ويبني له أعشاشًا، ولعلّه الصّوت المدوّي في المصحّ الكبير، كما وصف المجتمع الأعمى في القصّة.
لا يستطيع أيّ إنسان أن يتحدّث عن الموت انطلاقًا من تجربة شخصيّة ذاتيّة، فاختبار الموت لا يخصّني أنا، إنّما إنسانًا آخر اختبره فكان أن تحوّل وجهه إلى قناع واختفت تعابيره، وهكذا تكون علاقتي بموت الآخرين علاقة خارجيّة، أستطيع أن أحسّها من بعيد وأرى جمود الإنسان، ولكنّني لا أتمكّن من الشّعور بما يشعر به الميت، الّذي لا يستطيع بدوره أن يعبّر عمّا يشعر به أو يختبره.[i]
"الموتُ نكدٌ وكاسدٌ وعارٍ وناحل، ويحصد فرائسه بالمنجل،"[ii] فكيف إذا تكرّر "مرّتين"؟ ألا يمكن لهذه العلامة: "مرّتين" أن تشير إلى عمق المأساة المزدوجة؟ وأن تدفعنا إلى الغوص في لجّة النّصّ لكشف الغموض، وفتح مجال من التّأويلات؛ الأوّل غيابٌ جزئيّ، والثّاني غيابٌ كلّيّ، الأوّل يرحل ويبقى منه جزء، والثّاني يرحل الجزء الآخر من الوجود. وفي الحالين لا يملك الإنسان الإرادة أو الاختيار أو القدرة على التّحكّم بالمصير. والغلبة للموت الّذي حصل مرّتين أمّا الحياة فمرّة واحدة.
خسارة العقل جنونٌ، وخسارة الرّوح موتٌ جسديٌّ، أمّا بالنّسبة إلى الكاتب، فكلاهما موتٌ وفي كليهما تنعدم الإرادة. وعلى الرّغم من أنّ الموت نهاية حتميّة لكلّ كائنٍ بشريّ، إلّا أنّه لا يملك الحرّيّة في اختيار لحظة مغادرته لهذه الفانية.[iii]
واحد وأربعون عامًا عاشها الحاضر الغائب برتابة متواترة، تحمل بين طيّاتها دلالات المرض المرادف للموت، فما الحدود الفاصلة بينهما، بعد تشابههما بتكرار الأكل والنّوم ومعاقرة الأدوية والاستيقاظ، غير جملة: "لم يستيقظ"؟
(...)
***
* باحثة لبنانية - محاضرة ومشرفة في الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة.
** مطانيوس قيصر ناعسي، "مات أبي مرّتين"، خواطر، ط1، alphapress، 2017، (توزيع منشورات جمعية تجاوز - بيروت)، من ص 5 إلى ص 19.
*** مطانيوس قيصر ناعسي: كاتب وناقد، ولد في "عين يعقوب" شمال لبنان، يعدّ أطروحةً لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها، له في الرّواية: "حرفٌ زائد" و"نصفي الآخر"، وفي الأقاصيص: "طوجو" و"حمار أعمال" و"جواز مرور"، وفي الخواطر: "أشعُرُ" و"مات أبي مرّتين"، وفي الشعر: "ضيعانك يا بلادي فينا"، وفي العلم "ونسبح" وسواها. إضافةً إلى مقالاتٍ صحافيّةٍ عديدة.
[i]- Emmanuel Levinas, «Dieu, la Mort et le Temps», Editions Grasset et Fasquelle, 1993, p. 21-23-25.
[ii]- Soeren Kierkegaard, «Le concept de l’angoisse», p.140.
[ii]- Soeren Kierkegaard, «Le concept de l’angoisse», p.140.
[iii]- جاك شورون، "الموت في الفكر الغربيّ"، ص336.
«Je ne suis pas libre de mourir, mais je suis mortel, et il est absurde que nous soyons nés; il est que nous mourions, d'autre part cette absurdité se présente comme une aliénation permanente de mon être possibilité qui n'est plus possibilité, mais celle de l'autre».
المصادر والمراجع
· الإنجيل المقدّس
- المدوّنة
· مطانيوس قيصر ناعسي، "مات أبي مرّتين"، خواطر، ط1، alphapress، 2017، (توزيع منشورات جمعية تجاوز - بيروت).
- المراجع
المراجع العربيّة:
- الجسماني: عبد العليّ، "سايكولوجيّة الطّفولة والمراهقة"، ط1، الدّار العربيّة للعلوم، بيروت 1994.
- حجازي: مصطفى، "التّخلّف الاجتماعيّ-سيكولوجيا الإنسان المقهور، د.ط، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت، د. ت.
- الحفني: عبد المنعم، "موسوعة أعلام علم النّفس"، د.ط، مكتبة مدبولي، القاهرة، مطبعة أطلس، د.ت.
- حنّا: غسّان، "السّلام على الأرض حضارة وثقافة"، ط1، جمعيّة "نهار الشّباب"، بالتّعاون مع وزارة الثّقافة، بيروت 2009
- الدّبّاغ: فخري، "الموت... اختيارًا"، ط2، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت 1986.
- نجم: خريستو، "في النّقد الأدبيّ والتّحليل النّفسيّ"، ط1، دار الجيل ومكتبة السّائح، بيروت 1991.
- يعقوب: غسّان، "سيكولوجيا الحروب والكوارث ودور العلاج النّفسيّ (اضطراب ما بعد الصّدمة)"، ط1، دار الفارابي، بيروت 1999.
المراجع المعرّبة:
- باشلار:غاستون، "شاعريّة أحلام اليقظة"، ترجمة: جورج سعد، ط2، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت 1993.
- بنوا: جورج، "تاريخ جهنّم"، تعريب: "أنطوان الهاشم"، ط1، منشورات عويدات، بيروت 1996.
- شورون: جاك، "الموت في الفكر الغربيّ"، ترجمة: محمّد يوسف حسين، د.ط، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت 2000.
- فرويد: سيغموند، "النظرة العامّة للأمراض العصابيّة"، ترجمة: "جورج طرابيشي"، ط 2، دار الطّليعة للطّباعة والنشر، بيروت 1980.
المجلّات:
- أرجايل: مايكل، "سيكولوجيّة السّعادة"، ترجمة: فيصل عبد القادر يونس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد: 175، 1993.
-خليل: أحمد خليل، "نحو تأسيس فلسفيّ للحضور العلميّ العربيّ في القرن 21"، سلسلة الفكر العربيّ، العدد 76، 1994.
- زيدان: أكرم، "سيكولوجيّة المقامر"، التّشخيص والتّنبّؤ بالعلاج، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 313، مارس 2005.
- زيدنر: موشي، جيرالد ماثيوس، "القلق"، ترجمة: معتزّ سيّد عبدالله، الحسين محمّد عبد المنعم، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد: 437، 2016.
- ماكوري: جون، "الوجوديّة"، ترجمة: إمام عبد الفتّاح إمام، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 58، 1982.
- Albert Camus, «Le Mythe de Sisyphe», Editions Gallimard, 1942, et France loisirs-Paris, 1989.
- Didier Julia, «Dictionnaire de la philosophie», Référence Larousse, Paris.
- Emmanuel Levinas, «Dieu, la Mort et le Temps», Editions Grasset et Fasquelle, 1993.
- Gaston Bachelard, «L’air et les songes», 5eme Réimpression, Librairie Jose Corti, Paris, 1943.
- Jean Pucelle, «le temps», Presses universitaires de France, Paris, 1962.
- Soeren Kierkegaard, «Le concept de l’angoisse», traduit du Danois par Knud Ferlov et Jean Gateau, Editions Gallimard, France, 1935.
هناك تعليق واحد:
كيف يمكنني الحصول ع الكتاب
إرسال تعليق