♦ وجيه جميل البعيني*
إذا سلمنا جدلًا بأن الثقافة هي معين لا ينضب، لأمكن الافتراض بأن عبارة "مثقف" هي خطأ شائع. ذلك أن المثقف هو من اكتملت لديه الثقافة، وهذا غير معقول جملة وتفصيلًا. لذا يمكن القول إن كل فرد "متثقف" بنسبة معينة، أو أنه "مستثقف"، أي يلتمس الثقافة. لكنني في هذه المقالة سأستمر باستخدام هذا الخطأ الشائع لأنه... شائع.
حتى الآن لم يُحسم، كما يبدو، مفهوم المثقف، نظرًا لتعدد الأهداف التي ينحو المثقف تجاهها، خاصة أن كل من يقرأ ويكتب يطلق عليه لقب مثقف. وبالتالي، لا بدّ من التمييز بين أصناف عدة من المثقفين، إذا صحّت عليهم هذه التسمية.
أول هؤلاء وأكثرهم انتشارًا على مدار التاريخ هو المثقف التسويغي التبريري. هذا المثقف يرى نفسه المدافع عن الاستقرار والحرية والكرامة والاستقلال. وهي مفاهيم وهمية يمليها عليه أسياده، حكامًا كانوا أم زعماء طوائف أم عصابات أم زمر. إنه مثقف الدفاع عن "الخصوصية الثقافية الجهوية". بعض هؤلاء المثقفين ينطلق في دفاعه من قناعات حقيقية قائمة على وهم التغيير، وبعضهم الآخر، وهم الأكثرية، ينطلق من مصالح انتهازية شخصية، وهم مثقفو السلطة أو الزعامة وبطانتها. إنهم دائمًا على استعداد لتسويغ كل ما يقوم به الحاكم، حتى في جرائمه.
ثانيهم هو المثقف الإيديولوجي، المقتنع بإيديولوجيا معينة ينطلق منها في رؤية المجتمع والعالم، ويروّج لها ويتوخى فيها الحل الكامل. إنه دون شك مثقف عميق المعرفة، ويمارس النقد، لكنه ليس نقدًا إيجابيًّا إصلاحيًّا، بل تصحّ تسميته انتقاد، كونه لكل ما- ومن- هو خارج نطاق فضائه الإيديولوجي، بينما يرفع من شأن إيديولوجيته وأتباعها الذين يرى فيهم شخصيات كاريزمية ترنسندتالية، ويتعامى بالمقابل عن رؤية العظماء الذين ينتمون الى إيديولوجيات مغايرة.
ثالثهم هو المثقف الشعبوي، الباحث عن الشهرة وانتزاع إعجاب الجماهير، والحصول على التصفيق والتهليل، منطلقًا في ذلك من استنفار مشاعر الجماهير الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو الإثنية، علمًا بأنه لا يمتلك معرفة عميقة ورؤية منهجية. وهو اليوم يرتكز في بروزه على وسائل الإعلام- خاصة المتلفزة – التي تنقل تحرضاته واستفزازاته. إنه مثقف محنّك يعتمد على أقصى درجات الإثارة الجماهيرية، لناحية الصوت والحبكة اللغوية والتلاقي مع المزاج الشعبوي، وتوظيف مفاهيم التآمر والاستعمار والتطرف وإعلاء شأن الدين والمحرومين والفقراء، إلخ، لمصالح فئوية.
أخيرًا، هناك المثقف العضوي، وهو مفهوم أطلقه المفكر الشيوعي أنطونيو غرامشي حيث يرى أن كلّ البشر مثقفون، بشكل أو بآخر، لكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية المنوطة بالمثقف. وهي وظيفة لا يمتلكها سوى أصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير على الناس. ويوضح غرامشي الفرق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي؛ فالأول يعيش في برجه العاجي، ويعتقد أنه أرفع منزلة من كل الناس، في حين يحمل الثاني هموم كل الطبقات والجماهير والفقراء والمحرومين والكادحين. وبالتالي، فإن المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي، حسب غرامشي، الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته. فالمثقف الذي لا يتحسس آلام الآخرين لا يستحق لقب مثقف، حتى ولو كان يحمل أرقى الشهادات الجامعية. بل قد يكون المرء أميًّا، لكنه مثقف كونه حلّ المشاكل الاجتماعية الأكثر تعقيدًا. ولم يكن المفكر محمد عابد الجابري بعيدًا من هذا التوجه، إذ يرى أن المثقف هو الذي يلتصق بهموم وطنه وهموم الطبقات الكادحة والمقهورة. إنه المثقف العضوي الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع ويواجه تحدياته المختلفة، دفاعًا عن الحق والحقيقة ورفضًا لكل أشكال الظلم والقهر والتسلط، علمًا بأنه يعلم بأن ذلك قد يكلفه حياته. أما صلاح أبو سيف فيرى أن مفهوم المثقف ليس مفهومًا مُحكمًا وقطعيًّا ممتلئًا بتعبيراته وما يحمله في طياته من مداليل، بل إنه مفهوم متموج وفيه فراغات ومساحات شاسعة أكثر مما فيه من امتلاء. وهذا ما يسمح بضرورة الإضافة والملء والمراجعة الدائمة، أو البدء من جديد على الدوام، ليس بنفي المفهوم وإلغائه، بل بتجديده وتحيينه، ووضعه في سياق المتغيرات الحاثة والطارئة.
وكي نختم نشير إلى أن المفكر الفرنسي جوليان بندا يرى أن المثقف لا يكون مثقفًا حقيقيًّا إلا حين يعارض الفساد، ويدافع عن المستضعفين، ويقف في وجه السلطة القمعية الفاسدة. ففي كتابه "خيانة المثقفين"، يرى بندا أن المثقفين خانوا الفكر النقي الخالص، وتاهوا وراء الأهواء السياسية والإيديولوجية، وتخلوا عن المثل العليا الترنسندنتالية. إن مهمتهم في الأساس تقضي بمحاربة كل ضروب ما يُسمّى بالواقعية السياسية والنزعات القومية، باسم قيم العدالة والحق والحقيقة والجمال التي يبدو أنها فقدت مكانها في عالمهم. وهو يلمّح إلى القسم الأكبر من مفكري جيله. فالمثقف الحقيقي هو أقرب ما يكون إلى الصدقية مع نفسه حين تدفعه المشاعر الميتافيزيقية الجيّاشة والمبادىء السامية، أي مبادىء الحق والعدل، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة المعيبة الغاشمة.
يبدو أننا في لبنان، وسائر أرجاء العالم العربي، بعيدون جدًا من المثقف العضوي أو المثقف الإنساني. لقد ظهر هذا النوع من المثقفين إبان عصر النهضة في لبنان، كما في مصر وسوريا والعراق. فهل لنا بمحاكاتهم؟
أيها اللبناني، أيها العربي، بل أيها العالمي: حدّد واختر موقعك الثقافي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق