♦ ندى إبراهيم المقدح *
نبذة عن البحث
القناع نوعٌ شعريٌّ، متعدّد الأشكال، ينحكم لقانون أساسٍ مشترك، تتباين أنواع تجلياته الشكلية، حسب تعدّد الأشكال التي يخترقها، أو يؤسسها، بدءًا من المونولوج الدرامي، القادر على إيجاد شخصية درامية كاملة، ويكون الصوت الثاني، أي صوت الشاعر، متحدثًا إلى أناس آخرين، وحتى وجود الشخصية الشعرية التي تتميز وقصيدتها، عن القناع، وقصيدته، إلى الالتفات المهم في استعمال مرايا القناع وهو أشد واقعية، وحيادية، وانعكاساته الدقيقة للأصل، وصولًا إلى التحام القناع مع ذاته أي – أنا الشاعر وأنا المغاير واندماجهما في شخصية جديدة، ثالثة التي تتشكل عن حركة تفاعل الشاعر مع قرينه في الشخصية المستدعاة والتي تظلُّ حاملة اسم الأخير.
تأثر الكثير من الشعراء المعاصرين بهذا النمط التعبيري ومن أبرزهم الشاعر المصري أمل دنقل (1940- 1983) الذي اتخذ هذا الشكل ممارسة، لما يضيفه على قصائده من رمزية تبوح بالكثير من الدلالات، وتختصر التجارب الإنسانية، وتمزج بين المواقف والرؤى الفكرية، إذ يُعدّ القناع في شعره أداة مهمة للتعبير عن الآلام والمعاناة السياسية الناتجة عن العنف وقتل الأصوات الرافضة وإزالة الستار عن المعضلات الاجتماعية والفكرية وهموم الشعوب ومآسيها المادية والروحية. وبما أنّ "القناع" يُعدّ المكوِّن الأساسي للنصّ الشعريّ العربيّ الحديث، وأحد مظاهر حداثته، فلا بدّ أن نقدم تعريفًا لغويًّا وآخر اصطلاحيًّا لمفهوم القناع قبل الشروع في البحث عن أنواعه وخصائصه ووظائفه في شعر دنقل.
القناع لغةً: جاء في "لسان العرب": (القناع): "ما تتقنع به المرأة من ثوب تُغطي رأسها ومحاسنها. وألقى عن وجهه قناع الحياء. والمقنعُ والمقنعة ما تقنّع به المرأة رأسها وفم مقنع أي إنسانة معطوفةٌ إلى داخل"([i]).
ويشير القناع في اللغة العربية إلــــى معانٍ ودلالاتٍ كثيرة ومتنوعة، وجميعها تصبُّ في خانة واحدة هــــــو الإخفاء والتغطية والإلباس كما جاء في معجم المنجد: "القناع ج: أقنعة: غطاء يستر الوجه، ما يخفي الوجه: "قاطع طريق يلبس قناعًا حجاب: "قناع امرأة"، وجه مستعار، وجه تنكري"([ii]).
وجاء في كتاب العين، "القناع: طبق من عسيب النخل وخوصه، والإقناع مد البعير رأسه إلى الماء ليشرب، قال يصف ناقة: يقنع للجدول منها جدولًا"([iii]).
القناع اصطلاحًا: عرّفه الناقد المصري جابر عصفور بقوله "إنّ القناع رمز يتخذه الشاعر العربي المعاصر ليؤدي على صوته نبرة موضوعيّة شبه محايدة، تنأى عن التدفق المباشر للذات، دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر من عصره. وغالبًا ما يتمثل رمز القناع في شخصية من الشخصيات، تنطلق القصيدة بصوتها، وتقدّمها تقديمًا متميزًا، يكشف عالم هذه الشخصية في مواقفها، أو هواجسها، أو تأملاتها، أو علاقاتها بغيرها، فتسيطر هذه الشخصية على "قصيدة القناع" وتتحدث بضمير المتكلم"([iv]).
وعرّفه الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي بأنّه: "الاسم الذي يتحدث من خلال الشاعر نفسه، متجردًا من ذاتيته أي أنّ الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته، وبذلك يبتعد من الحدود الغنائية والرومانسية التي تردى أكثر الشعر العربي فيها الانفعالات الأولى لم تعدّ شكل القصيدة ومضمونها، بل هي الوسيلة إلى الخلق الفني المستقل. إنّ القصيدة في مثل هذه الحالة، عالم مستقل عن الشاعر – وإن كان هو خالقها – لا تحمل آثار التشويهات والصرخات والأمراض النفسية التي يحفل بها الشعر الذاتي الغنائي"([v]).
ومما يدلّ على أنّ القناع أداة فنية يعمد فيها الشاعر إلى التماهي بشخصية أخرى تتناص معها نسبيًّا ما يمكن أن يتطابق ويتناسب من التجربة المرتبطة بالشخصية المستدعاة، والتجربة الخاصة بالشاعر قول الناقد خليل الموسى "هو تقانة جديدة لإبداع موقفٍ دراميٍّ يضفي على صوت الشاعر نبرةً موضوعيةً من خلال شخصية يستعيرها من التراث أو الواقع، ليتحدث من خلالها عن تجربةٍ معاصرةٍ بضمير المفرد المتكلم (أنا) إلى درجة أنّ القارئ لا يستطيع أن يفصل صوت الشاعر عن صوت هذه الشخصية، ويصبح الصوت النصيّ مزيجًا من تفاعل صوتين تفاعلًا عضويًا"([vi]).ويعرِّف يونغ (Jung) القناع بأنه "وسيلة لإخفاء الطبيعة الحقيقية للشخص"([vii]).
***
* تعدّ أطروحة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها – المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانية
([i]) ابن منظور، لسان العرب، مادة (قنع)، دار صادر، بيروت، ط 1، د.ت، ص 300.
([ii]) صبحي الحموي وآخرون، المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، ط1، ص 1188
([iii]) مسعود، جبران، معجم الرائد، معجم ألفبائي في اللغة والأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط 3، ص 717.
([iv]) عصفور، جابر، أقنعة الشعر العربي المعاصر، مجلة "فصول"، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، يوليو 1981، ص 123.
([v]) العلاق، علي جعفر، الشعر والتلقي، دراسة نقدية، دار الشروق للنشر والتوزيع، 2002، ص 117.
([vi]) الموسى، خليل، قراءات نصيّة في الشعر العربيّ المعاصر في سورية، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2012، ص 214.
([vii]) ك: هول، ج. لنذري، نظريات الشخصية، ترجمة: فرج أحمد فرج، قدري محمود حفني، لطفي فطيم، مراجعة لويس كامل مليكة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ط1، 1971، ص 116.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق