♦ زينه إبراهيم حبلي *
نبذة عن البحث
في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وصل النظام العثماني– المملوكي على مصر، إلى حالة من الضعف والفساد؛ فالسلطة المركزية لم تعد بيد السلطان أو الصدر الأعظم، بل أصبحت قائمة على التراضي بين القوى المحلية والسلطان، وتجلت حالة الضعف حين عجز هذا النظام عن إنجاز شيء لصالح مصر والمصريين والدفاع عنهم ضد أول غزوة أجنبية تعرضت لها مصر في تاريخها الحديث. كما شهد هذا القرن تحولًا ملحوظًا للجغرافيا السياسية العالمية، في الوقت الذي كانت فيه الحرب قائمة بين الجمهورية الفرنسية ودول التحالف الأوروبي. فالدولة العثمانية تجمع تحت سلطتها كل غرب الإسلام باستثناء المغرب الأقصى، وتوسع نفوذها على حساب أوروبا وهي مندمجة في النظام السياسي الأوروبي إلا أنها تبدي علامات اضمحلال فكانت الحملة على مصر. فما هي أهداف هذه الحملة؟ وما هي نتائجها على مصر والشرق العربي؟
- أبعاد الحملة وأهدافها
أظهرت انتصارات القائد الفرنسي نابليون بونابرت (Napoléon Bonaparte 1769 –1821) على النمساويين وحلفائهم عبقريته العسكرية ومهارته السياسية، كما أن الفترة التي قضاها في إيطاليا قائدًا للجيش الفرنسي أطل منها على البحر المتوسط الذي يصلها ببلاد الشرق القريب، فرأى أن الأوان قد حان لفرنسا أن تنشط لبسط نفوذها شرقي البحر المتوسط، وأن تجعل من المتوسط بحيرة داخلية لفرنسا، وبالتالي تكون قد أنزلت ضربة قوية بعدوتها اللدود انكلترا([i]).
من هنا جاءت حملة بونابرت على مصر واحتلالها (1798-1801)، التي لم تكن مجرد مغامرة طارئة نتيجة ظروف آنية على رأسها الصراع الفرنسي - البريطاني، وإنما كانت، إضافة إلى ذلك، ذات هدف استراتيجي مدروس بعناية فائقة من قبل رجال السلطة الفرنسية، كما كانت صدى للثورة الفرنسية ومتأثرة بأفكارها الثورية. فالحملة الفرنسية على مصر هي أول محاولة استعمارية بالمعنى الحديث في قلب العالم العربي. فلا شك أن بونابرت كان يدرك جيدًا، من أن مصر هي مفتاح الشرق، وأنها السد المنيع الذي يحمي هذا الشرق بما تحويه من إمكانات بشرية، وما لها من مكانة ثقافية وحضارية، فهي القلعة التي تذود عن العالم الإسلامي، بفضل موقعها الجغرافي المتميز. مع إدراكه وبكل وضوح بأنه إذا استطاع اختراق الحاجز الديني بما يمثله من أيديولوجية ثقافية ومضمون حضاري، فإنه يستطيع، وبكل سهولة، أن يحول مصر إلى قاعدة أوروبية يستطيع من خلال إمكانياتها، أن يبسط سيطرته على كل الشرق العربي، وسيتيح لفرنسا تكوين امبراطورية استعمارية جبارة.
ولا شك أن للحملة أهدافًا أخرى عديدة منها تأكد الفرنسيين باستحالة غزو إنكلترا في عقر دارها نظرًا لتفوقها البحري وسيطرتها على القنال الإنكليزي ويمكن منازلتها في أماكن أخرى من العالم. كما أن الفرنسيين يُعدّون مصر نقطة البدء في تعويض بلادهم ما فقدته من مستعمرات إبان الصراع الإنكلو- فرنسي في حرب السنوات السبع، ومن الخسارة المحتملة لجزر الأنتيل (جزر السكر). بالإضافة إلى ما عرف عن مصر من خصوبة أرضها من شأنه أن يزود الصناعة الفرنسية بالمواد الخام([ii])، وموقع مصر الجغرافي كقاعدة لمواصلة كفاح الفرنسيين ضد انكلترا.
فكان التساؤل هل كان بونابرت ينوي الوصول إلى الهند لمنع بريطانيا من التواصل مع أثمن مستعمراتها؟([iii]) أم أنه كان يسعى لتقويض دعائم الإمبراطورية العثمانية وإنشاء إمبراطورية فرنسية على أنقاضها؟([iv]) لأنه كان قد اصطحب معه في حملته هذه مجموعة من العلماء الفرنسيين والمتخصصين في شتى الحقول والميادين بلغ عددهم 122 عالمًا وهو ضعف العدد الذي اعتاد أن يصحبه في حملاته الأوروبية([v])، أم لأنه وجد إمكانية وصل البحر الأبيض المتوسط مع الأحمر، وإعادة اجتذاب تجارة الشرق، التي انحسرت عنه بعيد اكتشاف رأس الرجاء الصالح ومن شأن ذلك أن يوفر لفرنسا السيطرة على تجارة الترانزيت، وأن تصبح إحدى أهم تجارات الترانزيت في العالم. كما أن مصر قريبة من سواحل فرنسا الجنوبية وكان لفرنسا اهتمام قديم بالبحر المتوسط، فسرعان ما دخلت مصر في دائرة المشروعات الفرنسية المتصلة بالسيادة عليه([vi]). إذ باستيلاء فرنسا على مصر تستطيع تحقيق هدف مزدوج وهو السيطرة على شرقي البحر المتوسط، وتكون بذلك قاعدة لبسط النفوذ الفرنسي في الشرق وتهديد الاستعمار البريطاني في الهند([vii]).
وهناك هدف آخر وهو إرضاء الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت الثورة الفرنسية قد وجهت لها بعض الضربات بشكل أدى لضعف دورها في الداخل الفرنسي، إلا أن تأثيرها على الشعب ما زال واضحًا، ناهيك عن دور هذه الكنيسة الفعال في تدعيم نفوذ فرنسا في المستعمرات وفي الشرق الإسلامي. من هنا كانت مرامي الحملة خليطًا من مجموعة أهداف توسعية وسياسية واقتصادية([viii]) ودينية، وغزو فكري وعسكري في آن واحد. وقد كان هناك أسباب أخرى خاصة أدت إلى الدفع باتجاه هذه الحملة وهي رغبة الحكومة الفرنسية بإبعاد بونابرت مخافة ازدياد شعبيته بعد انتصاراته في إيطاليا، ومن أجل الحد من طموحه([ix]).
(...)
***
* دكتورة في قسم التاريخ - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الفرع الخامس - الجامعة اللبنانية
[i] Edouard Driault: Question D’Orient, Huitieme Edition, Librairie Felix Alcan, Paris, 1921,P 27.
ولوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة عفيفة البستاني، ط.8، دار الفارابي، بيروت 1985، ص44.
([ii]) محمد فؤاد شكري: الحملة الفرنسية وظهور محمد على، مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر، 1890، ص68، وص116
([iii]) نقولا التركي: ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية، وهو من الذين شاهدوا وقائع الإحتلال الفرنسي في مصر (1763-1828)، ص16.
([iv]) محمد جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر، ط.2، بيروت 1971، ص125، وص 126.
([v]) على محمد الصلابي: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، ط.1، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر 2001، ص326.
([vi]) أحمد زكريا الشّلق: العرب والدولة العثمانية من الخضوع إلى المواجهة 1516-1916، ط.1، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 2002، ص144.
([vii]) دونالد كواترت: الدولة العثمانية 1700-1922، تعريب أيمن الأرمانزي، مكتبة العبيكان، ط.1، 2004، ص93.
([viii]) كارولين جوتييه كورخان: العلاقات المصرية الفرنسية في عهد محمد علي 1805-1849، ترجمة نانيس حسن عبد الوهاب، المركز القومي لترجمة،ط.1، القاهرة، 2015، ص54
([ix]) زاهية قدورة: تاريخ العرب الحديث، دار النهضة العربية، بيروت، 1985، ص328، ومحمد فؤاد شكري: الحملة الفرنسية وظهور محمد على، م. س.، ص 55.
