♦ الحداثة - خريف 2019
منذ أن صدرت مجلة "الحداثة" قبل ما يزيد على ربع قرن من الزمن، حافظت على صدورها المنتظم، بالرغم من إقفال عدد من المجلات الفكرية والأدبية خلال هذه المدّة، وتعثّر بعضها الآخر، واستطاعت مجلة "الحداثة" أن تكون نافذة للعديد من المثقفين والباحثين الشباب الذين وجدوا فيها مجالاً لنشر أبحاثهم ومقالاتهم. كما حافظت على خطها في الدفاع عن الحداثة ونشر المواد التي تخدم فكرتها الأصلية، وبالرغم من ذلك، فإننا في كل يوم يمر، نبتعد من تحقيق متطلبات الحداثة، على الأقل كما فهمها وصاغها رواد النهضة في القرن التاسع عشر، بعد أن اطلعوا على التمدن الأوروبي والتقدّم في ميادين الفكر والتقنية والإدارة إلخ.
فالحداثة عند رواد النهضة لا بدّ أن تتأسس على التربية، بمعنى تحصيل العلم عند كل أبناء الأمة. فالتربية هي المدخل إلى تحديث المجتمع، وتستهدف الذكور والإناث، بل إن الحداثة تعني تحرير المرأة من قيودها، والاحتكام إلى الدستور الذي يفصل بين السلطات، فلا يحصرها في يد عاهل أو رئيس، ومشاركة الأمة في اختيار نوابها وممثليها.
وقد شهدت العقود بين 1880 و1950، سعي النخب الليبرالية إلى تنفيذ هذا البرنامج في أجواء عالمية مؤاتية، فكانت شعارات الحرية والمساواة والاستقلال تعمّ العالم، فافتتحت المعاهد المتخصصة بما في ذلك معاهد الحقوق وكليات الطب. وتم إقرار الدستور في سنوات متقاربة في استامبول والقاهرة وتونس، ثم شهدنا الثورات الدستورية والوطنية (1908 الثورة الدستورية في استامبول، و1916 في الثورة العربية الكبرى، و1919 في مصر، و1920 في العراق، هذه الثورات التي أتاحت مشاركة واسعة لأبناء البلاد في التعبير عن آمالهم وتطلعاتهم).
ولم يجد رواد النهضة والجيل الذي أكمل مسيرتهم تناقضًا بين متطلبات الحداثة وبين الإيمان الديني. أما رواد الإصلاح فقد اجتهدوا من أجل التجديد في الدين، ورأوا أن لا تناقض بين دعوة الإسلام ومتطلبات العصر.
إن المرحلة التي شهدت حداثة الأفكار والقوانين والمؤسسات في شتى أرجاء العالم العربي، لا تتجاوز بضعة عقود من الزمن، ازدهرت خلالها الأفكار الليبرالية العائدة للثورة الفرنسية، وانتشرت هذه الأفكار في شتى أنحاء العالم. إلا أن انتكاسة الليبرالية قد بدأت في أوروبا نفسها التي كانت مصدر هذه الأفكار في ثلاثينات القرن العشرين مع استفحال الفاشية والشيوعية والنازية، ونشوب الحرب العالمية الثانية. وانعكس ذلك في عالمنا إضافة إلى بروز التيار الديني (وينبغي أن نميّز هنا بين نضال الإصلاحية الإسلامية ضد الاستعمار- ومثال على ذلك جمعية العلماء المسلمين في الجزائر- وبين التيار الديني الذي وضع في المقدمة مجابهة أفكار الحداثة، علمًا بأن كل الشعوب التي ناضلت ضد الاستعمار، عادت إثر نيلها الحرية والاستقلال لتقيم علاقات متوازنة مع القوى العالمية مبنية على متطلبات المصلحة الوطنية وليس العداء). ثم ظهرت الأحزاب الأيديولوجية الشيوعية والاشتراكية والقومية. ولم يطل الأمر حتى هيمنت التنظيمات الدينية الرافضة لأفكار الحداثة والأنظمة العسكرية التي تدعى القومية والإشتراكية.
والقاسم المشترك بين التنظيمات الدينية والأنظمة العسكرية، هو العداء للغرب أي العداء للأفكار الليبرالية في الحرية والمساواة والديمقراطية، والعداء لمنجزات العلوم الإنسانية والاجتماعية. والعداء للقانون ودولة القانون، مع تقديس لما تنتجه مصانع الغرب والشرق من تقنيات ثقيلة أو دقيقة، والإدعاء بأن بضائعنا ردّت إلينا، وان كل هذه الاكتشافات موجودة في كتبنا المقدسة.
وقد شجعت الأنظمة التي كانت تدعي أنها ترسم الخطط الخمسية للتنمية على هذا الفصل بين العلوم التطبيقية كالطب والهندسة وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية والقانونية. فرفعت من شأن طلبة الهندسة والطب، وقللت من شأن دارسي الآداب والفنون والاجتماعيات.
إلا أن ذلك كله لم يؤدِ إلى ازدهار المصانع التي تزيد الانتاج وتحصّن الاستقلال الاقتصادي، وبناء المستشفيات التي تخفض مـــــن انتشار الأمراض والأوبئة. وإنما أدّى ذلك إلى تصدر أطباء ومهندسي المنظمات الارهـــــابية وتباهيهم باستخدام التكنولوجيا الحديثة من قلب المغاور. كما أدى إلى توظيف هؤلاء الخبراء البارعين في خدمة البيروقراطية في دول الاستبداد.
إن الفصل الممنهج بين التحديث التقني والحداثة الفكرية هو الذي أدّى إلى تردّي أحوالنا، وسيادة الخرافات والأساطير الدينية والمذهبية على حساب التفكير الحر والنقدي. وأدّت خمسون سنة وأكثر من تسلّط الأنظمة الآحادية، التي قمعت الأفكار وطاردت المثقفين وسجنتهم ومنعت حرية الرأي والقول إلى تراجع أفكار التحديث.
لا خروج مما نحن فيه إذا لم نعد الاعتبار للتعليم الرسمي المتردّي، وإصلاح جامعاتنا المنهارة، وتشجيع البحث العلمي في الميادين التطبيقية والنظرية كافة، وإطلاق حرية الرأي والقول، إلا أن ذلك لن يكون مع أنظمة الاستبداد والتخلّف.
* باحث وأكاديمي من لبنان