♦ شيراز علي حميدان
نبذة عن البحث:
تُعدّ مدينة صور اللبنانية (70 كم جنوبي بيروت) من أبرز المدن-الممالك الفينيقية خلال الألف الأول ق.م، تميزت بأهمية موقعها، ونشاطها التجاري - البحري المتميز. وقد جرت أخيرًا، تنقيبات أثرية في قطاعات عديدة من المدينة وأطرافها، أهمها التنقيبات الاسبانية بالتنسيق مع وزارة الثقافة اللبنانية منذ 1997[1]. كشفت التنقيبات حتى الآن، عن آثار فينيقية ورومانية، وعن نقوش كتابية فينيقية كثيرة [2]. لكن تاريخ صور أقدم من ذلك، فقد ذكرت في النصوص الكتابية المسمارية كمراسلات العمارنة (القرن 14 ق.م) ونصوص أوغاريت (القرن 13 ق.م)؛ كما ذكرت في النصوص الآشورية الحديثة والبابلية الحديثة التي تعود إلى الألف الأول ق.م أيضًا[3].
يهدف هذا البحث إلى عرض النصوص المتعلقة في صور ضمن مراسلات العمارنة، وتحليلها، للإضاءة على الأوضاع في المدينة، وعلاقاتها خلال حقبة العمارنة التي تكتسب أهميّة خاصة في تاريخ بلاد الشام القديم.
- مدخـل [iv]:
كشف الأثريون في تل العمارنة في مصر (نحو 50 كم جنوبي المنيا) عن مدينة آخت آتون التي أمر ببنائها الملك أمنحُتب الرابع/ أخناتون (1352-1336 ق.م) لتصير عاصمة جديدة للمملكة، بدلًا من طيبة (الأقصر) في أقصى الجنوب. كان ذلك بعد أن عثر سكان القرى المجاورة للموقع على عدد من الرُّقُم المسمارية سنة 1887، ووصلت عبر تجّار الآثار إلى أوربا (باريس، لندن، برلين). ثم جرت في الموقع تنقيبات منهجية بريطانية بإدارة F. Petrie (1891-1892)، ثم تنقيبات "جمعية الاستشراق البريطانية" بإدارة Borchardt (1911-1914)، وتنقيبات Egypt Exploration Society (1921- 1936). وكشف عن عدد آخر من الرقم، إضافة إلى معابد وقصور ملكية وأحياء سكنية ومقبرة وقطع أثرية متنوعة.
تحمل الرُّقُم المكتشفة نصوصًا باللغة الأكدية (البابلية الوسيطة)، مدوّنة بالكتابة المسمارية. ويبلغ عددها 382 نصًا، هي 350 رسالة و32 نصًا متنوع الموضوعات، وتعود إلى حقبة العمارنة التي تقدر بما بين (1360-1336ق.م). وهي محفوظة حاليًا في المتحف الحكومي في برلين، والمتحف البريطاني في لندن، والمتحف المصري في القاهرة، وغيرها.
معظم الرسائل (340 رسالة) مرسلة إلى مصر من ملوك كبرى الممالك في الشرق القديم آنذاك (حوري- ميتاني، خَتّي، بابل)، ومن ملوك آشور وأرزاوا وألاشيا، وملوك أو حكام كانوا يحكمون ممالك مدن في بلاد كنعان الساحلية، وفي مناطق سوريا الداخلية. بينما الرسائل العشر الأخرى مرسلة بالعكس من مصر إلى عدة مدن: بابل، أرزاوا، أكشابا، جزري، أشقلونا، أميّا، أمورو، قادش. وهي تصور طبيعة علاقات مصر مع الكيانات السياسية الكبرى والصغرى التي ذكرناها، كما تضيء جوانب من العلاقات فيما بين تلك الكيانات، والأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية فيها.
بدأ نشر نسخ الرسائل بشكل متفرق، ثم بحسب المتاحف. ثم قرأ الباحث كنودتسن جميع النصوص وترجمتها، بعد إعادة تدقيقها بالمطابقة مع الأصول المحفوظة في المتاحف، وصنّف الرسائل في مجموعات متتالية؛ بحسب الأماكن المرسلة منها، والملوك أو الحكام، وحاول ترتيبها بشكل متسلسل ضمن كل عهد، لذلك أصبح ترتيبه وترقيمه لها أساسًا لكل الدراسات اللاحقة، ونشرها في كتاب ضخم من مجلدين[v].
تم الكشف فيما بعد عن رقم جديدة، واستمرت إعادة نسخ مجموعات منها، وبدأت تصدر كاملة وبترجمات إلى الإنكليزية والألمانية والإيطالية؛ إضافة إلى ترجمة كنودتسن الألمانية، كما صدرت بالعربية أيضًا[vi].
لقيت مراسلات العمارنة اهتمامًا فائقًا من الباحثين، ونُشرت عنها دراسات كثيرة جدًا[vii]، تناولت جوانب جزئية محددة تاريخية سياسية وحضارية، ومظاهر لغوية، أو أضاءت أخبار أبرز البلدان والمدن القديمة المذكورة فيها، وجدنا بينها دراستين عن صور تُعنيان بالجوانب اللغوية؛ إحداها رسالة ماجستير مقدمة إلى "جامعة تل أبيب" سنة 1977، تتناول بعض المظاهر اللغوية في الرسائل، ولم نتمكن من الاطلاع عليها[viii]. أما الثانية فهي دراسة أحدث، تبحث في التأثيرات المصرية الحضارية واللغوية في الرسائل[ix]. كما تمت الاستفادة من هذه المراسلات ضمن كتب عامة عن تاريخ صور[x].
تكتسب مراسلات العمارنة أهمية خاصة ضمن المصادر الكتابية لتاريخ الشرق القديم عامة، وتعدّ مصدرًا أساسيًّا للبحث في تاريخ مناطق بلاد الشام الساحلية والداخلية، وعلاقاتها الخارجية، خلال الحقبة التاريخية الموصوفة في الدراسات بـ"حقبة أو عصر العمارنةAmarna Period".