Al-Hadatha Journal: 31 years of communication - Welcome to the site (under construction). Here we publish Abstracts of research

بحث - Search

مجلة الحداثة: 31 عامًا من التواصل - أهلا بكم في الموقع الترويجي (قيد الانشاء) ننشر هنا ملخصات عن الأبحاث

المشاهدات

الافتتاحية: المشروع التقني من الهيمنة إلى التحرير؟

 ♦ د. باسل ف. صالح * 


 ♦ الحداثة ربيع 2019

https://alhadathamagazine.blogspot.com/ د. باسل صالح الافتتاحية: المشروع التقني  من الهيمنة إلى التحرير؟
د. باسل صالح
استطاعت التقنيةُ اختزالَ تاريخٍ طويلٍ من المشاكل التي واجهت التفكيرَ التأمليّ الفلسفيّ والمعرفيّ العلميّ، وقد يلحظُ الباحثُ قولبةَ هذا التفكير في صيغةٍ جديدةٍ تختلفُ كيفيًّا عن تاريخِه، بعد أن استطاعت الثوراتُ المتلاحقةُ تحويلَ التقنيةِ من كونِها زاويةً صغيرةً في ميدانِ المعرفةِ العلميةِ، إلى قولبةِ الميدانِ المعرفيّ العلميّ بأكملِه، فتحولت من منحىً نفعيٍّ ضيّقٍ، إلى منحىً توسّع كثيرًا في نفعيتِه وأداتيتِه، وهيمنَ على الحقلِ المعرفيّ العلميّ نفسِه، وصبغَه بصبغتِه.
فإذا كانت ماهيةُ العلمِ معرفةَ الطبيعةِ، وفهمَ الكونِ، فإن ماهيةَ التقنيةِ هي التصنيعُ والإجراءُ، أي إنها منظومةٌ معرفيةٌ لغاياتٍ عملانية لها وقعُها على المجتمعِ والمؤسساتِ وعلى قيمِهما. لذلك، فقد استثارت سيلاً من الكتابات التي أشارت إلى خطرِها، هذه الكتاباتُ التي لم تبدأ مع الرومانسيين ولم تنته مع الوجوديين، وكُلُّها تحذّرُ من مشروعِ السيطرةِ، حيث يراها هايدغر مثلاً، أنها لم تعد أداةً بل أصبحت مشروعًا يسيطرُ على الإنسانِ المعاصرِ، خصوصًا أن الإنسانَ لم يعد قادرًا على التخلُّصِ من حتميتِها وضرورياتِها، بل سببت له التيهَ وعدمَ الاستقرارِ، وظهرت له بوصفها
شيئًا مستقلاً حوّله إلى دميةٍ بين مخالبِ الآلات والأجهزةِ التي تستعبده. وقد ذهب هايدغر أبعد من ذلك، فلحظَ أن التهديدَ الحقيقيَّ لم يعد يتأتى من الآلاتِ والأجهزةِ التي تنتجُها التقنيةُ كالقنابل الذرية والهيدروجينية المنتشرة، بل إن التهديدَ الحقيقيَّ نابعٌ مـن الرغبة فـي السيطرةِ على الوجودِ بأكملِه، ذلك لأن التقنيةَ هي "إرادةُ الإرادة" أي إنها إرادةٌ تتحكمُ بإرادةِ الإنسانِ وتوجهها.
وقد امتد رفضُ الشكلِ المستجدِ للتقنيةِ ليشملَ الفلاسفةَ الذين حاولوا تحويلَ الفلسفةِ علمًا كذلك. فها هو برتراند رسل يرى أن العلمَ انتقل من التأملِ إلى التحكّم، أي من المعرفة حبًّا بالأشياءِ إلى المعرفةِ حبًّا بالسيطرة على هذه الأشياء. علمًا أن الحبَّ لا ينفصلُ عن معرفةِ من تحبّ، إلا أنه لا يعني السيطرة عليه أيضًا، وهو ما يتماهى مع حبِّ الفلاسفةِ والعلماءِ اليونانيين الأوائل للعالَمِ والنجومِ والريحِ والبحرِ والجبلِ، هؤلاء الذين "شعروا بالجمالِ العجيبِ للعالمِ، شعورًا أشبه بالجنونِ سرى في دمائِهم. لقد كانوا رجالاً ذوي عقلٍ عاطفيٍّ جبّارٍ، ومن قوةِ عاطفتِهم العقليةِ نتجت حركةُ العلمِ الحديثِ كلِّها. بيد أنه في أثناءِ نمّوِ العلمِ، أخذ باعثُ الحبّ الذي منه نشأ، يُقاوَمُ مقاومةً تزدادُ شدّتُها مع الأيام، بينما باعثُ السيطرةِ، ولم يكن من قبل إلا تابعًا قليلَ الخطر، أخذ يغتصبُ منه مكانَ القيادةِ، على أساسِ نجاحِه غير المنتَظَرِ"؛ فإذا قام التوجهُ الأول على التأمُّل، قام الثاني على الطابعِ العمليِّ الأداتيّ النفعيّ الذي طغى فيه "باعثُ السيطرةِ (التصنيع وعلى المنهج العلمي في الحكم) طغيانًا متزايدًا على باعثِ الحبّ"، وهو ما تمثّل في مذاهبَ فلسفيةٍ ترى أن معتقداتِنا عن أيّ شيءٍ، تكونُ صحيحةً بقدرِ ما تمكّننا من استخدامِ هذا الشيء استخدامًا نافعًا.
استنادًا إلى نقدِه هذه التوجهات، ذهب رسل ليلحظَ أنه وبعد أن كانت الاكتشافات العلمية مصدرًا لمزيدٍ من معرفةِ الطبيعة، ولكيفيةِ استفادةِ الإنسانِ منها، مـــــــــن دون أيّ تأثيرٍ خاطئٍ أو غير صحيٍّ (وهــــــذا يتعلـــــقُ بدورِه بالأخـــــلاقِ البيئيةِ وأخلاقياتِ الحروبِ، والأخلاقِ الطبيةِ)، وشوهـــت تلك الاكتشافاتُ فـــــي كثيرٍ من الأحيان، المعايير الأساسية التي قامت من أجلـــــها؛ فنزعةُ السيطـــرةِ على الطبيعةِ التي أطلقها الفيلسوفُ والعالِمُ فرانسيس بيكون، اتجهت لتصبحَ مزيدًا من السيطرةِ على الإنسانِ نفسِه، وعلى الكائناتِ والموجوداتِ الأخرى كافة. وهـو مـا فتح الباب على اعتراضِ عددٍ كبيرٍ من الفلاسفةِ والعلماءِ على التوالي، على قاعدةِ "أن النزعةَ إلى البناءِ العلميّ، نزعةٌ طيبةٌ إن لم تتعارضْ مع غيرِها من النزعاتِ الكبرى التي تضفي القيمةَ على الحياة. لكن، إذا أتيح لها أن تكبتَ كلَّ شيءٍ إلا نفسِها، لأصبحت صورةً قاسيةً من صورِ الطغيان".
أما رسل فقد استشرف خطرًا حقيقيًا هو خطر تعرّضَ العالم لطغيانٍ من هذا النوع، مضيفًا أن هذا لم يُعِقْهُ "من رسمِ الجوانبِ المظلمةِ من العالَمِ الذي قد يتوقُ العلمُ في خلال قرونٍ إلى خلقِه، لو انفردَ بالسلطةِ ولم يكن عليه من معقّب". وهذا ما يوافقه عليه أيضًا فلاسفة مدرسةِ فرانكفورت بالمجمل الذين شددّوا على الاختلافِ الذي طرأ على هدفِ العلم، إذ بعد أن كان منصبًّا على معرفةِ الحقيقةِ، تحوّل ليصبحَ توجهًا نفعيًّا تقنيًّا يوجهُ العلمَ أينما يشاء.
إلا أن ما نشاهده في العقدِ الأخيرِ، منذ بدايةِ تبلورِ حركاتِ الاحتجاجِ في العالمِ بأكملِه، ليس بدايةً من الشارعِ العربي، وليس انتهاءً "بالسترات الصفر" في فرنسا اليوم، يعيدُ طرحَ سؤالِ التقنيةِ من جديد، خصوصًا بعد ظهورِ الدورِ المتعاظمِ لوسائلِ التواصل الاجتماعي وللهواتف الذكيةِ والشبكةِ العنكبوتية على كلّ هذه الحركات. فهل يعني هذا أن نبوءةَ هربرت ماركوزه في كتابِه "الإنسان ذو البعد الواحد" تتحقق، وذلك عندما ذهب إلى أن الأزمةَ لم تعد في هيمنةِ التقنيةِ على الإنسانِ، بل في هيمنتِها على كلّ إمكانيةٍ للتغيير، وهو ما يخلص من خلالِه إلى القول: إن تحررَ الإنسانِ لن يكونَ إلا عبر تحقق المشروع التقني، واكتمال صيرورتِه، لأن الإنسانَ لن يتحررَ من التقنيةِ إلا بواسطةِ التقنية، وعن طريقِ تحقيقِها؟
*** 

* أستاذ في كلية الآداب (قسم الفلسفة) - الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضًا

تعليقات القرّاء

راسلنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تصنيفات وأعداد

Al Hadatha (975) أبحاث في الأدب واللغة (349) أبحاث في الثقافة الشعبية (245) أبحاث في العلوم الاجتماعية (179) أبحاث في الفنون (167) أبحاث في التاريخ (123) أبحاث في التربية والتعليم (108) أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية (77) أبحاث في علم النفس (61) مراجعات (59) أبحاث في الفلسفة (55) صيف 2019 (42) شتاء 2020 (38) محتويات الأعداد (38) خريف 2020 (37) ربيع 2020 (37) افتتاحية الأعداد (36) خريف 2019 (35) صيف 2020 (35) خريف 2023 (34) ربيع 2024 (34) شتاء 2024 (33) أبحاث في الآثار (32) الحداثة : أعلام (32) أبحاث في الإعلام (31) شتاء 2021 (31) خريف 2016 (26) شتاء 2017 (25) الحداثة في الإعلام (23) ربيع 2021 (23) صيف 2018 (23) صيف 2023 (23) نوافذ (23) خريف 2018 (22) ربيع 2022 (22) صيف 2017 (22) شتاء 2022 (21) خريف 2021 (20) ربيع 2017 (20) ربيع 2023 (20) صيف 2021 (20) أبحاث في القانون (19) شتاء 2019 (19) خريف 1994 (18) أبحاث في كورونا (covid-19) (17) صيف 2022 (17) خريف 2001 (16) خريف 2022 (16) شتاء 2023 (16) أبحاث في العلوم والصحة (15) ملف الحداثة (15) ربيع 2019 (12) شتاء 2000 (12) شتاء 1996 (11) شتاء 2018 (11) خريف 1995 (10) ربيع 2015 (10) أبحاث في الجغرافيا (9) خريف 2004 (9) صيف 1997 (9) خريف 2017 (8) ربيع 1999 (8) ربيع 2016 (8) ربيع وصيف 2007 (8) شتاء 1998 (8) شتاء 2004 (8) صيف 1994 (8) صيف 1995 (8) صيف 1999 (8) أبحاث في الإدارة (7) شتاء 1999 (7) شتاء 2016 (7) خريف 1996 (6) خريف 1997 (6) خريف 2013 (6) ربيع 2001 (6) شتاء 1995 (6) شتاء 2013 (6) صيف 2000 (6) صيف 2001 (6) صيف 2002 (6) خريف 1998 (5) خريف 2000 (5) خريف وشتاء 2003 (5) ربيع 1996 (5) شتاء 1997 (5) صيف 2003 (5) صيف 2009 (5) ربيع 2002 (4) شتاء 2011 (4) صيف 1996 (4) صيف 2008 (4) خريف 2003 (3) خريف 2009 (3) خريف 2010 (3) خريف 2015 (3) خريف شتاء 2008 (3) ربيع 1995 (3) ربيع 1998 (3) ربيع 2000 (3) ربيع 2003 (3) ربيع 2012 (3) ربيع 2018 (3) شتاء 2001 (3) شتاء 2010 (3) صيف 1998 (3) صيف 2005 (3) صيف 2010 (3) صيف 2014 (3) صيف خريف 2012 (3) العدد الأول 1994 (2) خريف 1999 (2) خريف 2005 (2) خريف 2014 (2) ربيع 2006 (2) ربيع 2011 (2) ربيع 2013 (2) ربيع 2014، (2) شتاء 2005 (2) شتاء 2012 (2) شتاء 2014 (2) شتاء 2015 (2) صيف 2006 (2) صيف 2011 (2) صيف 2013 (2) صيف 2015 (2) الهيئة الاستشارية وقواعد النشر (1) خريف 2011 (1) ربيع 2004 (1) ربيع 2005 (1) ربيع 2009 (1) ربيع 2010 (1) ربيع 2014 (1) شتاء 2007 (1) صيف 2004 (1) صيف 2016 (1) فهرس (1994 - 2014) (1) مجلدات الحداثة (1)

الأكثر مشاهدة